الفساد والسلطة
صبحي فريح
يشهد العالم قاطبة اليوم ظاهرة الفساد المستشرية في المجتمعات وفي الدول النامية والمتقدمة، فتكاد لا تخلو دولة من دول العالم من عشعشة الفساد في ثناياها.
فهذه بعض الدول التي تعتبر متطورة في عالمنا اليوم، ومع ذلك فإنّ قيادة السلطة فيها متلبّسة بالفساد وهو منتشر فيها وإن كان يغطّي أولاً الطبقة الحاكمة العليا. كما في الولايات المتحدة وروسيا وإيطاليا وألمانيا واليابان وفرنسا و»إسرائيل»، وإنّ فضائح الفساد عمّّت هذه الدول وغيرها.
والفساد هو إساءة استعمال السلطة لتحقيق المنافع الشخصية لنفسه أو لغيره. وهو الذي يشترك فيه الرأسماليون وأصحاب النفوذ في المجتمع ليحققوا أهدافهم الذاتية، والفساد هو ذاك المنتشر بين أفراد المجتمع في حركته ونشاطه الاقتصادي أو السياسي لتحقيق الربح اللامشروع والوصول إلى مبتغاه بالوساطة والسمسرة.
ويتمظهر الفساد بأشكال عديدة منها: «الرشوة، سرقة أموال الدولة، المحسوبيات، تسيير أعمال مخالفة للقوانين والأنظمة، والسمسرة، وصرف النفوذ، استخدام الفاسدين مركزهم وسلطتهم بالدولة للمنافع المادية، الإثراء غير المشروع، التزوير في نتائج الانتخابات بمختلف مواقعها ومراتبها، والتزوير في بيانات الضرائب المقدّمة للدولة إلخ…
وانتشار الفساد اليوم في دول كثيرة من عالمنا يجعلنا نتساءل هل كان هذا موجوداً في ما سبق من الزمن بهذه الصورة الشاملة الجامعة كلّ مناحي الحياة؟
ولا شكّ أنّه كان موجوداً في تاريخ الشعوب ومراحل تطوّرها الحضاري، والأخلاقي والسياسي والثقافي ولو بدرجة أقلّ بكثير.
حيث أول من رشى بالإسلام هو المغيرة بن شعبه، الذي سعى لولاية عمل بالكوفة عام 42 هـ من قِبل الخليفة معاوية بن ابي سفيان، ثمّ عمل على بذل المال بهدف شراء المعارضين، فكان ذلك أول ابتزاز وفساد للسلطة في العهد الأموي.
وكذلك انتشرت الرشوة في عهد هشام بن عبد الملك، كما أنّ يعقوب بن داوود الذي سعى لمنصب الوزارة وبذل مائة ألف دينار لحاجب المنصور.
وكانت هدية أحد نوّاب الشام سيف الدين بيدمر من أشهر الهدايا إلى السلطان في مصر.
وحين تقلّد إبراهيم الجرّاح قضاء مصر عام 205 هـ، أوعز لابنه أن يأخذ الرشوة من الناس علانية فكر 83 ص 73 و78 .
وكان أوّل مظهر له هو التحيّز والتحزّب والتكتّل من فئة من الشعب إلى الحاكم لكي يغض الطرف عن فساد تلك الفئة أو الأفراد التي تستغلّ تأييدها له بالمنافع، ثمّ كانت الهدايا والعطايا وسيلة لتحقيق المنافع المتبادلة بين الحاكم والمحكوم، حيث كان الولاة يمارسونها في إقطاعاتهم كمنح وهبات لأتباعهم مقابل أن يدعموا ويؤيّدوا ويناصروا الحاكم، وليستولوا بعدها على أموال الدولة والناس بهذه الإقطاعيات، ويتحوّل هذا الوالي أو الحاكم إلى متغطرس متجبّر، فاسد، كما تصبح هذه الفئة وسيلة للاستيلاء على أموال الشعب ليقدّم جزءاً منه بالمقابل إلى الوالي الحاكم.
والفساد آثاره عميقة على المجتمع، ونتائجه وخيمة جداً على الدولة وحياة الشعوب من كلّ النواحي الاقتصادية الثقافية والسياسية والأخلاقية والمستقبلية.
حيث يهدم الفساد الوضع الاقتصادي للدولة، وينقص من موجوداتها ووارداتها وخاصة الضرائب ويشوّه التربية والثقافة ويحرفها عن أهدافها العملية والحضارية.
وهو بالوقت ذاته انحدار للأخلاق للحضيض ويؤدّي إلى اختلال في الموازين والتوازن بين السلطات الثلاث إذا ما تغلغل فيها.
وهو مخالف للأديان والشرائع السماوية المحرّمة لذلك.
وهو تعطيل لقدرة الإنسان وشلّ عقله وتفكيره نحو الأفضل والإبداع. ويؤدّي إلى انحراف وسائل الإعلام على مختلف مصادرها فتتغذّى الأجيال بالواقع السيّئ وتكيّفه على أساس المنافع الفردية والمسيطر عليها الرأسمالية أو سلطة الدولة فتروّج وتسوّغ أفعالها وقراراتها بأنها المطابقة للقانون ومصلحة الشعب.
والإعلام بهذه الحالة ليس إلّأ تشويهاً للسلطة بالوقت ذاته. بينما الإعلام له دوره الإيجابي والأثر المباشر والفعلي في توعية المواطنين والنهوض بهم لتحقيق الأهداف التقدّمية وتحريره من كل قيد أو السيطرة، ولكن عندما يصبح الإعلام وسيلة للفساد يتولّد منه إنسان قابع ضمن دائرة الخوف والانقياد والاستسلام، والهروب من تحمّل مسؤولياته الوطنية والقومية.
ذلك لأنّ هذا الإعلام الفاسد يصبح المشيع والمؤيد للحكام والسلطة الفاسدة، فتسوّغ فسادها على كلّ المستويات ويبرّرها تبريراً يخدم بقاء السلطة واستمرارها، فيتغذى الفساد من السلطة ويغذّيها، حيث يثبت قواعد الحكم ويسوّغ صحة أعماله دعاية ودعوة لتأييد هذا الحاكم والحكم خاصة إذا ما كان الإعلان محصوراً في جهة وحيدة أو بيد الرأسمالية المقيتة وخاصة بالدولة الرأسمالية.
وأمّا أسباب الفساد في المجتمع والسلطة فهي ليست إلّا نتيجة لـ:
أولاً: احتكار الرأسماليين للأموال
حين استعمال الأموال بطرق غير مشروعة للحصول على الصفقات والتعهّدات والمشتريات والانتخابات بقوة المال المحتكر لديهم، وليستعملوه بالرشوة، وبالتزوير، والغش والاحتيال خاصة عندما يكون لدى الرأسماليين وسائل الإعلام الداعمة لهذه التصرفات اللامشروعة.
ثانياً: السلطة
أ – المواقع:
عندما تستقل السلطة من كبار المسؤولين بالدولة والمحصّنين بقوّتها، والمتستّرين بغطائها، تنعدم القدرة على محاسبتهم من أيّ جهة كانت، لأنّ السلطة تحميهم من المساءلة في أيّ وقت كان طالما هم بالسلطة.
حيث هؤلاء يستخدمون مواقع السلطة والمسؤولية والمكانة الوظيفية، سواء كانت مدنية أو عسكرية وحسب سعة تعاملها مع شرائح المجتمع، فيستغلون مراكزهم ويبدأون بسرقة أموال الدولة، ثم الرشوة من الشعب ثم التهرّب من دفع الضرائب وعمليات الاحتيال على المراجعين وأصحاب القضايا والتزوير بالانتخابات وشراء الأصوات، وفي المقابل فإنّ الشخص الفاسد أصلاً إذا ما تسلّم السلطة في الدولة يحوّلها حصناً مانعاً ضدّ محاولة تعريته وكشف فساده، فيصبح هذا المسؤول مغطّى بغطاء السلطة التي يتبوّأها وحاجزاً له ضدّ الرقابة والمحاسبة.
ب وحدانية السلطة:
عندما تصبح السلطة بيد فرد واحد ويصبح هو المقرّر لكلّ شؤون الدولة ويصبح هو الحاكم الفرد دون سواه، ويستجمع بطانة له لتأييده وعمله، وتلتفّ حوله هذه البطانة بل المرتزقة فيحققون منافع فردية على حساب مصالح الشعوب والدولة، حينئذ يلتزم هذا الحاكم الفرد بالسكوت وغضّ الطرف عن أعمالهم ومكتسباتهم اللامشروعة وفسادهم وجمعهم أموالاً بوسائل القوة والسلطة والسلطان.
ذلك لأنّ المتسلّط بالحكم بحاجة لهذه البطانة ليثبت أركان حكمه واستمراره، لذا فالطرفان يستفيدان من المعادلة المتوازنة بين الحاكم الفرد والسلطة الفاسدة المؤيدة، وكما حدث ذلك فعلاً في دول كثيرة.
لذا فإنّ التفرّد بالسلطة هو إفراز حتميّ لفساد المجتمع، وفساد المجتمع ناتج عن فساد السلطة، والمجتمع الذي يتربّى ويتثقّف ويوجّه إلى أساليب غير أخلاقية، ويمارس الاحتيال والازدواجية والولاءات المتعدّدة لمراكز القوى، يفقد المجتمع عناصر أساسية في التربية القومية، وسواء كانت مناقبية أو وجدانية أو دينية أو وطنية، فيصبح هؤلاء المواطنين في حلقة الفساد ويتعاملوا معه على أنّه أمر واقع، ولا بدّ من السير في ركابه للحصول على حقوقهم، أو ثروات غير مشروعة أو مناصب مشبوهة.
وهذا الوضع يدفع السلطة والمسؤولين عنها للاستزادة مالاً وتحصّناً وتخفّياً وقدرة وقوة وتسلّطاً لمتّعهم بالحصانة والحماية.
ج- استبدادية السلطة:
إنّ الحكم الذي يقوم على الاستبداد والقهر للشعوب والطغيان على الحريات العامة والخاصة، ومنع التعبير والقول وإلغاء الرأي الآخر يساهم إلى حدّ بعيد في نشر الفساد وتعميق جذوره بالمجتمع
إنّ فقدان الحرية يشلّ حركة الإنسان ويدفعه إلى الانزواء واليأس والتشاؤم والابتعاد عن كلّ قول أو فعل قد يلحق به الضرر والأذى.
كذلك المزج لمفهوم السلطة والدولة والحاكم يخلق وحدة الحكم باتخاذ القرارات الفردية التي تحمل غالباً في مضامينها الخطأ أو الانتفاع من أموال الدولة والشعب.
ولأنّ الفساد الاستبدادي يبقى لفترة مستوراً وبعيداً عن النقد والمحاسبة والرقابة، لأنّه وجد بقوة السلطة، والفساد عملية تبادلية بينه وبين السلطة، فالسلطة تسمح بالفساد لتحصّن نفسها بالفاسدين وتحميهم، والفساد يجرّ السلطة إلى إفساد حكّامها.
إنّ أنظمة التسلّط والاستبداد بالرعية يدفعها إلى الاستئثار بالحكم منفردة كي تستمرّ هذه الأنظمة بالحكم، وهي المستفيدة من واردات الدولة ومن طرق الاكتساب المالي اللامشروع.
حيث السلطة تسعى دائماً إلى إشباع مطامع أفرادها وأتباعها من جني الأموال والعقارات وإنشاء الشركات، وفتح الحسابات بالخارج، خاصة إذا ما انتقل الفساد إلى السلطة التشريعية أو القضائية سيكون الفساد قد تعمّق وترسّخ في جميع المعاملات والتشريعات والأحكام، وفي جميع شرائح المجتمع.
حيث تصبح هذه المناصب طعماً وطمعاً للآخرين يتسابقون إليها ويسعون بطرق مشبوهة ليحصلوا على ما أرادوه من هذا المنصب.
وقيل إنّ طالب الولاية لا يولى صوناً للدولة من أن يسرع إليها الفساد، ومن تولّى ولاية سعياً وراءها فما قصده من السلطة إلّا الرشوة والسرقة ثمّ يتعامل مع من ولّاه بالولاء المطلق لدعم حكمه، ومهما كانت أعماله سيئة وبالهدايا والعطايا مهما زاد ثمنها.
لذا فالنظام السياسي الفاسد يخلق مزيداً من الفساد، لأنّه يتوالد منه وله فتصبح العلاقة جدلية بينهما كلما زاد الفساد وانتشر، كلّما فسد النظام السياسي وتمسّك الفاسد بالسلطة ويجرّ السلطة إلى الفساد الواسع والعام وفساد النظام يولد القمع والظلم والطغيان على حقوق المواطنين وحريّتهم ومستقبلهم.
كما أنّ الادّعاء أنّ الدولة هي المسؤولة عن أمن المواطنين وأمن الدولة، والمواطنين بسطاء لا يقدّرون المخاطر التي تقع عليهم وعلى بلدهم، بل هي القادرة على ضبط العلاقات الدولية والحفاظ على حقوق شعبها وحمايته من كلّ اعتداء أو خرق أمنيّ وحكّام السلطة كما يدّعون هم وحدهم الجديرون بالوقوف ضدّ المخاطر التي تهدّد كيان الدولة.
هذا الادّعاء المنفرد الذي يطوّق الشعب بطوق الانعزال عن مدارات الأحداث العالمية الجارية، وإبعاده كلّياً ليس إلّا تبريراً لتعسّف السلطة بحقوق مواطنيها، وهذا الادّعاء تغطية وغطاء لهم للتعامل الكيفي مع الشعب ومع أموال الخزينة واقتسام الرشاوى بين المرتشين وحرمان الشعب من حرية القول والرقابة والمحاسبة لهؤلاء المتسلّطين.
ثالثاً: الفقر والجهل والمرض
إنّ بقاء شريحة اجتماعية كبيرة من الشعب بحالة الفقر والمرض والجهل وفقدان الضمان الاجتماعي للشيخوخة والضمان الصحي ثم البطالة تسهم هذه الحالات في عدم تحرّر الانقياد إلى حكم السلطة بشكل مطلق لعدم قدرته على المقاومة فتقوى مراكز السلطة في فسادها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تسعى هذه الشرائح لانتخاب أعضاء المجلس التشريعي بمقدار ما تحصل هذه الشريحة من المال لجرّها وإلزامها في اختيار المرشح «الكريم».
إذن هذا الفساد المصنّع كان بسبب الحاجة الملحة والجهل المطبق والفقر المدقع والبطالة المقنّعة والمرض المزمن ومجهولية المستقبل المخيف.
رابعاً: حرية الأحزاب
إنّ عدم السماح لجميع الأحزاب ذات الأهداف الوطنية والقومية، والتي ترسي مبادئها على أساس «وحدة المجتمع» والأمة مجتمع واحد، أيّ لا فوارق ولا فواصل ولا موانع بين أفراد المجتمع الواحد، حيث تنبذ وتحارب هذه الأحزاب كلّ مبدأ يقوم على العنصرية أو الإثنية أو الطائفية أو المذهبية أو العشائرية أو العائلية أو الكيانية، بل تقوم على وحدة المجتمع ضمن البيئة الطبيعية التي يحيا فيها حياة مصيرية مشتركة.
هذا الغياب والمنع للأحزاب يفقدها حق الرقابة والمحاسبة والمعارضة وكشف الأخطاء والخطايا والرشوات والسرقات والانحرافات، ما يساعد السلطة في تجذير الفساد في المجتمع.
خامساً: غياب المواطن عن معرفة كيفية ممارسة السلطة عملها
إنّ ممارسة السلطة لأعمالها من دون معرفة الشعب للقضايا التي تمسّ حياته المصيرية، سواء كانت قضايا الوطن أو القضايا الاقتصادية أو الثقافية أو الاجتماعية أو السياسية، تغيّب المواطنين عن حق النقد والمعارضة وبيان الرأي في المواضيع المطروحة، خاصة في القوانين المشرعة ليبدي المختصون آراءهم ويتبيّن موقع الخطأ والصواب وإمكانية التعديل والتطوير في القوانين قبل صدورها.
إنّ معرفة المجتمع بشؤون الدولة ومجريات أداء السلطة العملي والقانوني والتطوّري تعني هذه المعرفة إمكانية أخرى وهي مساءلة المنحرفين الفاسدين القائمين على السلطة.
كما أنّها تحدّ من انتشار الفساد بل هذا الغياب يدفع المسؤولين إلى الفساد لأنّ الشعب جاهل بما يفعله هؤلاء ولأنّ المجتمع معرفة والمعرفة قوة كما أنّه أحياناً يحصل طغيان من سلطة على أخرى، كتحكّم السلطة التنفيذية بالقضائية أو تتحكّم السلطة التشريعية بالتنفيذية.
هذا التحكّم يساعد على تفشّي الفساد الإداري والقانوني والمالي رشوة ووساطة بالنقل والتعيين للوظائف والتوزير والتوظيف.
إنّ غياب المواطن كفرد في المجتمع عليه واجب المراقبة والمحاسبة للسلطة ولكلّ تصرّف غير قانوني، فهي وظيفة اجتماعية تعبّر عن حرية المواطن وبمناخ ديمقراطي لأنّه المعيار الحقيقي لتحديد مواقع الفساد والفاسدين.
لهذا فإنّ الواجب الوطني للإصلاح مسؤول عنه كلّ فرد من قِبل كلّ حزب أو هيئة أو مؤسسة للتمسّك بكلّ القيم الأخلاقية.
«إنّ تطوّر المجتمع وإصلاح شؤونه حق لكلّ مواطن وواجب يتحمّل مسؤوليته، لأنّ الفساد يشكّل مشكلة اقتصادية واجتماعية وأخلاقية يحتاج لآليات مكافحة أكثر نجاعة وحزماً». الرئيس بشار الأسد.
سادساً: فقدان الديمقراطية
فقدان الديمقراطية في أيّ مجتمع يؤدّي إلى:
ـ غياب الحوار بين الحاكم والمحكوم.
ـ فقدان احترام رأي الآخرين ومحاولة إلغائهم.
ـ صعوبة اتخاذ المواطن موقفاً معيّناً من ايّة قضية في المجتمع، ممّا يشكّل شللاً في حركة المجتمع وأدائه العملي على كلّ الصعد، ويقول سارتر: «الحرية لا تحصل إلّا عندما يستطيع الإنسان أن يتّخذ موقفاً من كلّ حدث في التاريخ. إنّ الحرية تتحقق في تحققها».
ـ إنّ ممارسة الحرية صفة من صفات الديمقراطية وتعبير فاعل مباشر عنها.
ـ «إنّ مناخ الديمقراطية يساعد على الحوار الحرّ والنقاش المفتوح، وبهذا تستوي الفكرة ويتولّد الصواب كما يقول سقراط وبالتالي ينتعش الفكر وينمو ويتطوّر، فإذا سقط الفكر المشكّل لخط الدفاع الأول للأمة، سقطت، وإذا تمتّع بالحرية فإنّ حصن الأمة سيكون قوياً ومنيعاً وغير قابل للاختراق مصطفى أمين.
«الحرية ضرورية ووجوبية للشعب، لأنّها تساعد على تقدّم وتطوّر الأمة في مدارج الحضارة والرقيّ، وتحدّ من الفساد المنتشر في الدولة».
«والدولة الديمقراطية هي دولة قومية حتماً لهذا فإنّ القومية هي ابنة الحرية وثمرة الديمقراطية .
والحرية يقابلها الواجب الملقى على عاتق كلّ فرد للمساهمة في بناء الدولة وكشف الفاسدين ومحاسبتهم، فالحرية ليست مانعة من الواجب بل هي ملازمة كالظلّ لصاحبه.
«والحرية صراع، والصراع امتحان للعقائد، فويل للعقائد الباطلة من الحرية».
إذن، لا بدّ من أن يُعطى المواطنون حق التعبير عن آرائهم، وحق القول والكتابة والنشر والإعلان والإعلام، وذلك في جميع شؤون الدولة المدنية والسياسية.
وحرية الصحافة والإعلام بكلّ الوسائل هي ضمان لكشف الفساد والتفتيش عن مواقعه والمنتفعين منه، لهذا فالسلطة يجب أن لا تسلب المواطنين حريّتهم المقدسة، ولا تكون قدريّة مفروضة على الشعب ومحتكرة لفئة معيّنة مختصة بها وكأنّها قدرية لا يمكن نقدها أو محاسبتها أو معارضتها أو تغييرها وتداولها بين أفراد الشعب. وكلّ إساءة وتعدّ على حرية الفرد اعتداء صارخ على الإنسان وكرامته وقيمته الاجتماعية، وعلى العقل الفاعل حراكاً وإنتاجاً وإبداعاً، وبالتالي فإنّ الحزب أو الفرد الحاكم الذي يحتبس حرية الإنسان ولا يسمح بالرأي للآخرين تكون نتيجته وقبل كلّ شيء على الحاكم ذاته، حيث يتوقّف تطوّره وتقدّمه ويصبح عالة على الشعب ومستقبله، ويختفي الفساد بطيّات الحاكم المتسلّط حيث يحجب عن الأعين حين.
إذن فقدان الحرية يولد الفساد المقاوم.
لقد تطوّر الزمن ليصبح الفكر أكثر حرية رغماً عن الحاكم، فهو يجوب الكون على أجنحة من ذبذبات أثيرية، ويضحك هازئاً من أولئك الذين ينصبون أنفسهم أوصياء على الحرية .
إذن، عدم السماح للرأي الآخر والحوار والمعارضة والنقد البنّاء لواقع الحكم والمجتمع وعدم السماح لهؤلاء بحق التعبير والقول والإعلان بكلّ وسائله.
تكون السلطة غاشمة وسالبة لحرية الشعب، وتزرع الفساد في بنيان الدولة والمجتمع. إنّ الديمقراطية هي ممارسة العمل السياسي وبذرتها الحرية بصورة ملازمة لها، فلا معنى لأحدهما كاملاً من دون الآخر، فالديمقراطية تتوخّى العدالة والمساواة في كلّ شؤون الحياة الراقية عملاً وصحة وعلماً وضماناً.
«الحرية حق طبيعي يشعر الإنسان بحاجة إليه كما يشعر بحاجته إلى الهواء والغذاء، والأفضل الاهتمام بالحرية قبل الخبز لأنّ الحرية تؤمن الخبز أما الخبز فلا يؤمن الحرية».
«الحرية هي الحياة، ومن لا ينهض لنيل الحرية خوفاً على حياته خسر الحرية والحياة معاً».
«الحرية ليست حرية العدم بل حرية الوجود، والوجود حركة هي حركة صراع، صراع العقائد في سبيل تحقيق مجتمع أفضل».
ويل للعقائد الباطلة من الحرية.
«إنّ مأساة الحرية ليست بالمحاكم ولا بالسجون، إنّها أقلام العبودية في معارك الحرية».
وإنّ الحصول على الحرية لا يعني التفلّت من كلّ واجب وكلّ مسؤولية، بل نريد الحرية لننشئ المجتمع المثالي الموضوعة قواعده في مبادئنا . إذن الحرية الشاملة حق التعبير والقول والكتابة والصحافة والنشر وحرية الأحزاب هو منطلق المحاسبة والمساءلة للفاسدين.
إنّ فقداننا بمجتمع من المجتمعات يعني نشوء الفساد وبقائه واستمراره واستغلال السلطة بفقدان الحرية المسؤولة.
سابعاً: غياب المحاسبة
عدم وجود المحاسبة القانونية العادلة والجدية والصارمة للفاسدين المتسلّطين والمحميين بقوة الحكم أو المال وبوسائل الإعلام أو بالأكثرية الانتخابية إلخ… هو تعميق للفساد في المجتمع وإمعان الفاسدين بالفساد.
فلو يطبق قانون من أين لكم هذا على جميع المسؤولين بالحكم ومصدر أموال المستثمرين لتوقّف الفساد وانحسر وتراجع كثيراً.
إنّ عدم وجود قاعدة الثواب والعقاب لأولئك المستغلين والمرتشين والمحصنين يبقى الفساد وينتشر بالمجتمع.
ثامناً: قانون الانتخاب
إنّ قوانين الانتخابات والاقتراع، سواء للبلديات والمجالس المحلية أو للمجلس التشريعي، يجب أن تكون سليمة وصحيحة وتكون إرادة الشعب هي مناط سلطة الحكم، وتتجلّى هذه الإرادة من خلال انتخابات نزيهة تجري دورياً وبالاقتراع العام وعلى قدم المساواة بين الناخبين.
وإذا انحرفت عن الأُسس والقواعد الوطنية والأخلاقية والمجتمعية تكون نتائجها بفساد المنتخبين والمرشّحين وفاعليّتهم في تلك المجالس.
اي إذا قامت هذه الانتخابات على أسس غير قويمة فتكون الانتخابات فاسدة، ويساعد هذه الفساد على إفساد المواطنين، ونذكر بعض الأمثلة:
1 ـ إنّ عدم تحديد نفقات ومصروف الانتخابات بشكل ما تكون النتيجة فاسدة، ولكي لا تصبح بالتالي السلطة فاسدة، لوصولها إلى مقاعد المجالس بأموالها وتحاول استرجاعها بطرق فاسدة.
2 ـ اعتمادها على قواعد غير متوازنة بين أبناء المجتمع الواحد، والذي يعتبر هيئة اجتماعية واحدة متحد في حياته المصيرية المشتركة في وطن واحد.
هذه القواعد المرفوضة هي الطائفية والمذهبية، والإثنية، العرقية والعشائرية. وأن لا تعتمد على الطبقية، أيّ يصبح هناك فرز للهيئة الاجتماعية، بل يجب أن يكون أفراد الشعب كلّهم متساوون بالحقوق والواجبات، لأنّ المجتمع كلّه نسيج واحد مشترك بالحياة المصيرية، وهو وحدة اجتماعية لا فواصل بينها ولا تقسيمات طبقية، والجميع يسعى في سبيل تحصين المجتمع كلّه كوحدة متكاملة ولا يوجد فواصل بينها، وتصبح حينئذ المصالح متضاربة بين الطبقات ضدّ بعضها، ثم الطبقات مع بقية أفراد الشعب، بل يفترض أن يكون الجميع غايته مصلحة الشعب.
أن لا تتدخّل السلطة في سير عمليات الاقتراع لصالح أي شخص أو حزب، بل تبقى حيادية، وإلّا كان الاقتراع يشوبه الفساد المتحيّز والمنحرف عن العدالة والمساواة، لأنّ الوطن يقوم على المواطنة، ويعني ذلك المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين.
3 ـ أن تكون وسائل الإعلام كلّها في خدمة المرشحين بالتساوي، ومن دون أن تكون لمرشحي الحزب أو الفرد الحاكم، وعلى أن تحدّد نفقات الإعلام والدعاية سلفاً لكلّ مرشّح، كما لا يجوز وضع أجهزة الدولة في خدمة ودعاية مرشّح دون الآخر، بل عليها أن تبقى حيادية، وإلّا وصمت النتائج بالفساد المقصود.
4 ـ أن لا يكون بين المرشّحين وزير أو ضابط أمن إلّا إذا كان مستقيلاً قبل ستة أشهر من تاريخ موعد الاقتراع.
5 ـ أن لا يسمح بالترشيح لكلّ من اًُدين بالكسب اللامشروع خلال عمله في الدولة أو معها بايّ صفة كانت.
6 ـ نقول إذا انتفت هذه السلبيات وغيرها من الأسباب الأخرى، انتفى الفساد من المجتمع والدولة، وإذا بقيت فإنّ فساد الانتخابات سيكون لطخة عار وتزوير للإرادة العامة.
هذه بعض مَواطن الفساد وأسبابه وغيرها كثير.
طرق مكافحة الفساد
بعد تعداد المَواطن والمواقع التي يمكن أن تنبت فيها خلايا الفساد ثم تنمو وتنتشر وتصبح في الأخير آفة سرطانية يصعب معالجتها إلّا بوسائل ناجعة وحازمة وجدية وصادقة، وأول هذه الوسائل:
1 ـ مراقبة ومحاسبة أصحاب الأموال والثروات التي تثار شبهات حول مصادرها، ثم مراقبة كيفية استعمالها، وذلك بتقديم بيانات دورية لسلطة عليا مختصة.
2 ـ أن لا تكون السلطة محصورة في يد فرد واحد أو حزب واحد، بل لجميع الأحزاب الوطنية ذات الأهداف القومية والاجتماعية الموحّدة بالعمل لعناصر الأمة، والسماح بالتعددية وحرية إنشاء الأحزاب.
3 ـ القضاء قدر الإمكان على الفقر والجهل والمرض الحاصل في المجتمع وضمان حق العمل والشيخوخة والصحة، حتى يتحرّر الإنسان من كلّ قيد أو استبداد أو فساد.
4 ـ أن يكون عمل الدولة واضحاً وشفافاً وصريحاً وعلنياً بالأمور التي تهمّ المواطنين والمسموح الإعلان عنها.
5 ـ تحقيق الديمقراطية بأوسع مفاعيلها، وإعطاء الحرية للمواطنين تحت مسؤولية الواجب والالتزام بمصالح الشعب والوطن، وذلك بحرية القول والكتابة والتعبير والصحافة وانشر وتأليف الأحزاب.
6 ـ إجراء محاسبة دقيقة وجدية وحازمة للمسؤولين الذين توالوا على السلطة؟ ومنذ عدة عقود، وليقدّموا بيانات بأملاكهم وأموالهم إلى لجنة عليا مختصة في شأن المحاسبة والمساءلة.
7 ـ وضع قانون انتخاب لجميع المجالس يعبّر عن وحدة الأمة، باعتبارها هيئة اجتماعية واحدة وبحسب ما جاء في الفقرة الثامنة.
قُدّمت إلى مؤتمر الحوار الوطني الذي عقد في دمشق في تشرين الأول 2011