لامع الحرّ في ديوان «ربّي زدني عشقاً»… اقتحام الشعر بثقة الحزين
جهاد أيوب
يغوص الشاعر والزميل لامع الحرّ في بحر الشعر بثقة الفاهم والعالم والمشاغب من دون كلل أو ملل. يدرك متى يصبح بحره نهراً فيصطاد منه ما طاب من صوَر يفوح منها الجمال والعمق والكلام. ويعلن متى يعود إلى بحره بجداره كي يرسم على شواطئه ما يريد من أصوات تشبهنا في كلّ الحالات. ولا عجب إن سرق منّا لحظاتنا في زمن لا مجال لقراءة الشعر فيه.
لامع الحرّ في جديده الشعريّ «ربّي زدني عشقاً» الصادر عن «دار نلسن»، لا يخاف من الشعر بقدر ما يعتبره مسؤولية توصل الهدف والمعنى والقضية. هو متمكّن لا يخاف المغامرة، فكتب 15 قصيدة بين العمودية والحرّة، من دون أن يتطاول على أصول الشعر ومكنوناته، ومن دون أن يتطفّل على الشعر وعالمه، بل هو الشعر والشعر هو، هو القصيدة وكلّ القصائد هو.
وبين «قراءة في الوجه النبيذي»، و«ورق أبيض»، و«ماذا أصاب هوانا؟»، و«آخر التجلّيات»، و«سأعبر يوماً إليك»، و«السرمديّ»، و«طواحين الهواء»، و«عودة إلى الغيهب»، و«يمامة الشوق»، و«لصوتك هذي القصيدة»، و«تجيئين من زمن غامض»، و«سراب»، و«ذكرى»، و«قبلة لم تعانق دموعي»، و«بوح»، يجد محبّ الشعر ضالته وعالمه، وتفاصيله وصوره، ومغامراته وأشواقه، وغرامياته وأحزانه، ومشاغباته وأوجاعه، لا لأجل المتعة، بل من أجل الإفادة، وتحريك الذاكرة، وتثقيف الروح، وتهذيب السمع، وسَحر الخيال الفوّاح بما طاب من مفردات متصالحة مع الشعر والمعنى واللغة.
يكتب لامع الحرّ لذاكرة الأيام، لصعوبة الأحلام، لوجع يتراكم في حبّ الوطن حيث جدار الصمت والخوف.
كما يتراقص لامع الحرّ مع أنغام كلماته المنسابة كعازف كمانٍ لا يعرف غير رومنسية المواقف واللحظات. يرقص ويراقصنا معه على سطوح منازلنا التي زرعها بالورود، وسقاها بجهود متعبة، لكنه يصرّ أن يغمر شوكها كي تدمّى أصابعه. حينئذٍ، يتنشّق لامع الحرّ مع الشعر هواء الحرّية. وحرّيته تتأبّط السجون، لا تعرف الانطلاقة من دون قضبانه، ولا تعرف التحليق عالياً من دون رمق أخير على زوايا زنزانته.
لامع الحرّ في هذا الديوان كدواوينه السابقة، لا يبرح حرّيته ومعتقله. هو مسكون بالبحث عن الحرّية والحبيبة التائهة، لكنهما ليستا مفقودتين، وكأنّ أيام الاعتقال الصهيوني حرّيَته وشرَفه ووطنَه وحبيبتَه لا تزال عالقة حاضرة معه، ولا نبالغ إذا قلنا إن هذه الحالة تسطّر خطواته حتى في قصائد الحبّ والغزل. هو ليس أسيراً في الأسر، بل أصبح وجعاً لكلّ الأسر، وأينما حلّ وكان.
قصائد لامع الحرّ في هذا الديوان هي امتداد لمسيرته مع تطوّر مفرداته التي أصبحت أكثر بساطة وجرأة وحنكة وشطارة في تحايله باستخدامها بعيداً عن فذلكة اللغة وتعقيداتها. لذلك، تشبه قصائده اللغز، حيث تتكشف مع كنه الأشياء، ومتصالحة مع الزمن والمرحلة من دون بساطة، بل بعمق المعنى واتّزان اللغة.
لا يزال لامع الحرّ في قصائده عاقد العزم مع الألم، ومصرّاً على اتفاقية عدم المبارحة والمغادرة. فرحه ألم، عشقه ألم، حزنه ألم، ضحكته ألم، وتعصّبه في الحبّ ألم. لذلك هو جادّ ومرن، صلب وهامس، حاسم وحنون، لا طفولة بل كهولة تبحث عن طفولة فقدت في زمن التعب وشيب الشباب. باختصار، لامع الحرّ مسكون بألم الجنون الشعريّ والمعنويّ الإنساني، وكلاهما جنون في الوصف والعطاء اللامحدود.
ديوان «ربّي زدني عشقاً» الذي وُقّع في معرض بيروت العربي الدولي للكتاب منذ أيام، ينبع من تجارب شاعر يرتوي بالشعر الحقّ، وينثره في كلّ محيّاه، ويصرّ على أن يبقى الشاعر المسؤول لا الشاعر الخمول. هو يبحث عنّا في قصائده، ونحن بدورنا نبحث عن صوَرنا في أشعاره، وهذا ما يميّز لامع الحرّ عن زملاء دربه، وللأسف أصبحوا قلّة قليلة. وأجمل ما وصلنا في تجربته الجديدة أنها تخاطب الجميع، وتصفع الجميع، وتتواضع كي ترتفع مع الجميع، وتغنّي عزفاً شعرياً حتى يرقص الجميع على جمر كلماته المنتقاة بعناية تصلنا بسهولة، إنّما شاعرها رسمها بجهد وتعب وجدّية.
ويقول: سألت فؤادي لماذا تصرّ على وردة لا تبالي بحبّك؟
لا تسأل الأرض خصباً
ولا ترتجي من سمائك غيثاً
تحبّ كما لم تحبّ الغواني
كما لم يلامس شذاها بريق
يحطّ غريباً أمام مدى ناظريك؟
أداوي هواك البعيد بنبض
يؤجّج شوق الحياة إلى نخلة
لا تغادر عطري
ولا تسأل الله غير العبور إليّ.