«السلطنة» الأميركية وولاياتها الأطلسية: مشروع ترامب الجديد؟
د. وفيق إبراهيم
يعْرف الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب أنّ انكفاء إدارته نحو الداخل الأميركي مشروعٌ متعسّرٌ من دون إنجاز ترتيبات مسبقة تؤمّن استمرار الجيوبولتيك الأميركي، بما هو أداة متنوّعة هدفها تحقيق المصالح الاقتصادية لبلاده في العالم بوسائل عسكرية واقتصادية وسياسية. انقلابات، أساطيل، قواعد، تحالفات، معاهدات، ضغوط، إثارة فتن وحروب، مؤامرات وإعلام .
وهناك أسباب إضافية تُرغِم ترامب على الترتيب المسبق للاستمرار بهذا «الجيوبوليتيك» بأقلّ قدر ممكن من الأكلاف المترتبة على واشنطن، وبشكل يبقى فيه العامل وخصوصاً هنا المتخلّف منه بقرة حلوباً تغذي الاقتصاد الأميركي… لا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ الديون الأميركية للداخل والخارج مرشحة للارتفاع من 19 تريليون دولار إلى ثلاثة وعشرين تريليوناً وربما أكثر مقابل ناتج وطني لا يزيد عن 14,5 تريليوناً. لذلك تنتفضُ إشكالية مثلثة الرؤوس أمام إدارة ترامب: أولاً: كيف نحافظ على الجيوبولتيك الأميركي من دون تورّط عسكري كبير، وكيف تحافظ أميركا على مصالحها الاقتصادية من دون أداء أدوار مباشرة. أما الرأس الثالث فهو الأخطر ويتعلق بالوسائل التي يُفترض بالدولة الأميركية اعتمادها لإجهاض أيّ تشكل محتمل لقوى عالمية صاعدة تهدّد الأحادية الأميركية في تفرّدها في ضبط العالم حسب الساعة الأميركية.
واستناداً إلى تسريبات من دوائر أكاديمية للتخطيط الاستراتيجي في واشنطن تظهر أنّ هناك قراءات أميركية جديدة كمتاعب وإشكاليات الأنظمة السياسية في العالم، الموالية والمناهضة. الهدف إثارة المزيد من المتاعب لهذه الأنظمة بشكل تصبح فيه موادّ هلامية الشكل تنساق لأهواء المُشغِّل الأميركي كيفما تموضع واتجه أو مال.
وللمزيد من الإمساك بهذه البلدان، تطمح إدارة ترامب إلى تشكيل أحلاف عسكرية وسياسية على منوال الحلف الأطلسي، تشمل ثلاثة محاور: حلف أطلسي إسلامي، حلف أطلسي أفريقي، وحلف أطلسي آسيوي. والأهداف معروفة: أولاً الإمساك بالموارد الأولية والنفط والغاز والسيطرة على الاستهلاك في العالم بما يؤدّي إلى منع الصين من مواصلة الصعود والمنافسة الاستراتيجية وتطويق روسيا داخل حدودها وطردها من نعيم المشرق العربي وعزل إيران ومنعها من الاتصال ببلاد الشام.
لكن الشرط الأميركي الأول لرعاية هذه الأحلاف هو أن تتولى دُوَلُه تمويله مقابل الحماية الأميركية. وتُعتبر الولايات المتحدة عضواً مركزياً أساسياً في كلّ من هذه الأحلاف ولها القرار النهائي في أموره.
والإغواء الأميركي لدول هذه الأحلاف مردّه إلى قدرة واشنطن على منع أيّ هجمات خارجية تستهدف هذه البلدان وقمع أيّ انقلابات داخلية لقلب أنظمتها. وبهذين الإغراءين، تتدافع دول كالسعودية وقطر والإمارات وأفغانستان وباكستان والمغرب ودول آسيا الوسطى وأخرى غيرها… فتتدافع للانتساب ودفع «الأتاوة مقابل الحماية» كما قال الرئيس ترامب عشية انتخابه. وبذلك يتأمّن حلفٌ موال لواشنطن تُسدِّد أكلافه دول الخليج. وجيشه متكوّن من الدول الإسلامية الفقيرة. فتتوفر للأميركيين فرصة منع الصين من الاستيطان في العالم الإسلامي.
وكذلك بالنسبة لروسيا وإيران اللتين تضطران للحدّ من طموحاتهما وربما الاكتفاء بأدوار يحدّدها لهما الأميركيون، كما تزعم مكاتب الدراسات وتطمح واشنطن إلى حلف أطلسي أفريقي بالتعاون مع فرنسا التي تتمتع بعلاقات أفريقية واسعة تعود إلى مراحل استعمارها لتلك القارة ومعها بريطانيا.
وقد تؤدي نيجيريا دور المايسترو في هذا الحلف فهي البلد الأكبر في أفريقيا وتمتلك نفطاً وسلاحاً. أما أهداف هذا الحلف فالموارد الأولية والاستهلاك لمنع السلعة الصينية من استيطان هذه القارة. وتقليص الطموحات الروسية الباحثة عن مواقع للتجذّر..
وإذا كانت السلعة الصينية عابرة للحدود بأسعارها الرخيصة، فقد تشجع واشنطن دول شرق آسيا النمور على تصنيع سلع أكثر منافسة للسلع الصينية، لتسويقها في القارة السوداء ـ فتسيء بذلك إلى الصين وتزيد من حدة الصراع بينها وبين بلدان شرق آسيا.
ماذا إذاً عن الحلف الأطلسي الآسيوي؟
هو الحلف الذي يُفترض أن يضمّ كلّ البلدان الآسيوية المصابة «بفوبيا الصين» من اليابان إلى كوريا الجنوبية وما بينهما. ومراميه السياسية هي إشغال الصين في «بحر الصين والمدى الآسيوي» وإثارة قلق لها في المناطق المحيطة بها.
أما اقتصادياً فإنّ بلداناً مثل اليابان وكوريا الجنوبية، وتايلند وبروناي وماليزيا وسنغافورة وميانمار الخ… بوسعها منافسة الاقتصاد الصيني بشكل متوسط، ما يتيح للأميركيين فرصاً أفضل للمنافسة.
لجهة روسيا فإنّ واشنطن تعتقد أن لا مكان لها في الصراع الآسيوي ـ فليس لديها سلع للتسويق، وتنقصها علاقات عميقة مع بلدان هذا القسم من العالم.
يتضح في المحصّلة أنّ الولايات المتحدة الأميركية التي تريد أن تنعزل لمعالجة مشاكلها الداخلية تضرب في اتجاه تأسيس أمبراطورية «غير معلنة» عاصمتها واشنطن وتشمل أميركا وأوروبا وأفريقيا وآسيا والعالم الإسلامي ـ العربي. ومراميها سياسية واقتصادية.
وتستطيع بالتالي أن تتفرّغ لمعالجة مشاكلها الاقتصادية الداخلية من دون أن يتأثر نظام هيمنتها على العالم الذي ابتدأ مع انتصارها في الحرب العالمية الثانية ووراثتها للاستعمار الفرنسي ـ الإنجليزي القديم وسيطرتها على أهمّ منطقة في العالم وهي الخليج بضفتيه الإيرانية والعربية، بعد معاهدة كونيسي التي عقدها روزفلت مع عبد العزيز آل سعود عام 1945.
من الواضح أنّ مشروع ترامب يستلهم نماذج الأمبراطوريات القديمة، التي كانت تطبّق نظاماً كونفدرالياً بسبب ضعف الاتصالات والمواصلات في تلك الأيام. فكانت السلطنة العثمانية تقيم في عاصمتها الآستانة وترتبط بها ولايات في سورية والخليج ومصر واليونان وبلغاريا وبلاد المغرب العربي… كانت ولايات مستقلة لها جيوشها ومراكز جباياتها، لكنها كانت مضطرة للتواصل مع المركز في الآستانة لتسليم أموال الجباية أو طلب إسناد عسكري في حالات التمرّد والغزو.
فهل هذا المشروع لا يزال ممكناً في القرن الواحد والعشرين أم أنه حلم وهلوسات قوة عظمى يتلاشى نفوذها بسبب تراجعها الاقتصادي من جهة وصعود قوى عسكرية واقتصادية جديدة من جهة أخرى مستعدّة لواحد من أمرين: أما الحلول مكان الولايات المتحدة الأميركية أو مقاسمتها إدارة العالم.
وهناك منظمات قائمة تتشكّل من دول وازنة في ساحة التفاعلات الدولية قتل منظمة شنغهاي التي تضمّ دولاً، ينقص عديد سكانها عن نصف عدد سكان الأرض بقليل. وهناك دول منظمة «بريكس» التي تتشكل بسرعة على أسس اقتصادية وسياسية قد تتجه نحو العسكري أيضاً.
فما مصحلة بلدان صاعدة لها صلاتها المميّزة بأميركا كاليابان وألمانيا في الالتزام بأحلاف عالمية تعيق تطورها نحو العالمية الفعلية أكثر مما قد تفيدها. وللإشارة فإنّ من أسباب المحدودية العسكرية لليابان وألمانيا استمرار أميركا في منعهما من إنتاج أسلحة نوعية التزاماً بالعقوبات الصادرة بحقيهما منذ الحرب العالمية الثانية.
إشارة إضافية إلى «همايونية» مشاريع أحلاف أميركا الأطلسية… هناك النموذج السوري، لأنّ ما فعلته أميركا في هذا البلد هو الحدّ الأقصى لإمكاناتها. حاولت إسقاط النظام من خلال تركيا والسعودية اللتين دعمتا مئات آلاف الإرهابيين. وأسّست تحالفاً غربياً يزعم أنه يقاتل الإرهاب لكنه لا يفعل إلا السماح للقوى العالمية باستباحة سورية. كما شكلت غرفة عسكرية لدعم المجموعات الإرهابية في «الموك» الأردنية… ولا تزال سورية صامدة ويحقق جيشها الانتصارات تلو الانتصارات في استعادة أراضيه مدعوماً من روسيا وإيران.
ونموذج اليمن ملهم أيضاً… الحلف السعودي ـ الأميركي ضمّ دولاً تشارك في غزو اليمن لديها أكثر من إمكانات الحلف الأطلسي، لكنها لم تفعل شيئاً ولا يزال اليمن صامداً وقوياً.
ولا ننسى العراق الذي غزته أميركا بشكل عسكري مباشر ومزّقت وحدته السياسية والاجتماعية، فها هو العراق يعود تدريجياً إلى تماسكه مع استعادة تدريجية لمعظم أراضيه من القوى التكفيرية.
لذلك تبدو مشاريع الولايات المتحدة في ولاية ترامب وكأنها محاولات عبثية لن تفعل إلا إعادة تأليب القوى العالمية ضدّ مشروعها.
كان الحلف الأطلسي الأساسي أقوى مؤسسة في العالم لكنه عجز عن وقف اندفاعة الصين وعودة روسيا إلى مسرح التفاعلات الدولية، ولم ينجح في القضاء على الصمود الإيراني وتماسك الجيش السوري.
إنّ الجيوبوليتيك الأميركي هو المُهدّد في أكثر من نقطة من نقاطه في العالم ولن تنقذه مشاريع إنتاج أحلاف أطلسية جديدة، لأنّ العلاقات الدولية تتجه بقوة إلى نظام تحالفات قطبية تمنع الاستفراد في إدارة شؤون العالم.
وهنا نستنتج وجود محاولات ترامبية لإنقاذ الأمبراطورية الأميركية إنما بشكل لن يؤدّي إلا إلى إسقاطها بسرعة أكثر لأنّ واشنطن عجزت حتى عن ضمّ دولس مثل باكستان ودول آسيا الوسطى إلى الحلف السعودي ضدّ اليمن. وعجزت السعودية عن ضمّ بلد كمصر لمشروعها في سورية واليمن على الرغم من الإغراءات الكبيرة.
فالعودة إلى مجلس الأمن الدولي ومناقشة سبل الاتفاق على احترام القانون الدولي وإلغاء المغامرات العسكرية الأميركية التي كلفت العالم آلاف التريليونات وملايين القتلى. فلعلّ العودة إلى العقل هي التي تنقذ البشرية من جنون ترامب وصنمية آل سعود وشبق العثمانيين.