حلب تهلك ملوكاً وتستخلف آخرين…!

محمد صدق الحسيني

1 ـ لعلّ أهمّ شيء لافت في اتفاق حلب الذي قضى بلفظ آخر مجموعة إرهابية من أحياء حلب الشرقية ورفع علم الجمهورية العربية السورية هو فرض ما يمكن تسميته بـ «عقيدة الضاحية». أيّ إما القبول بشروطنا نحن محور المقاومة او التسليم بالحسم العسكري… وهذا يعني أنّ المايسترو الأميركي المشغل لمجموعات الإرهاب على امتداد السنوات الخمس الماضية يظهر لأول مرة وجهه الى الحائط ولسان حاله يقول: لم أعد قادراً على فرض أية شروط تسوية فضلاً عن حماية مرتزقتي لا في الأحياء الشرقية ولا في غيرها…

2 ـ إنّ أهمية هذا الاتفاق في انه بالإضافة الى كونه يثبّت تحرير المدينة الثانية الأساس في سورية من المسلحين الإرهابيين، فانه يعزز الانتصار الاستراتيجي من خلال تفاهمات كبرى تشمل أطرافاً إقليمية وعالمية وليس محلية فحسب، مما يعطيه صبغة دولية تنطوي، حسب معلوماتنا، على اعتراف وتسليم دوليين بفشل مشروع تدمير سورية نهائياً والتسليم بانتصارها وحلفائها.

وهذا اعتراف سيقوم الطرف الروسي والإيراني بالبناء عليه مستقبلاً باتجاه مواصلة العمل على تكبيل أيدي راقص الهيلاهوب أردوغان مما سيكون له تأثير إيجابي كبير على سير العمليات العسكرية في الجبهات الأخرى.

أيّ أنّ هذا الاتفاق يمكن أن يشكل منطلقاً لإغلاق الحدود التركية أمام إمدادات المسلحين نهائياً في القريب العاجل.

من جهة أخرى فإنه لا بدّ من التأكيد على أنّ اجتياح حلب

الذي كان المنطلق الذي أريدَ له ان يكون الخطوة الأولى على طريق إسقاط الدولة الوطنية السورية ونقلها من ضفة المقاومة الى ضفة الاستسلام يتمّ اليوم إسدال الستار عليه بشكل واضح وشفاف.

أيضاً كان يُراد لها أن تكون البقعة الاستراتيجية التي منها تبدأ إعادة تقسيم العالم العربي كله من جديد من خلال إقامة إمارة «إسلام أميركي» يمزق سورية ويقسّمها على قواعد مذهبية وطائفية، ومن ثم المنطقة كلها من بلاد الشام إلى المغرب العربي الكبير، وهو ما تمّ دفنه في حلب السورية الوطنية الموحّدة العائدة إلى حضن الوطن السوري بقيادة الرئيس المقاوم بشار حافظ الأسد اليوم…

ولما كان التدفق الإرهابي للعصابات والأموال والسلاح الأطلسي والأميركي عبر بوابة الإسلام الأميركي العثماني الجديد أردوغان ، والحضور القوي لأموال البترودولار السعودي والقطري كان بمثابة صفارة الإشارة لانطلاق «أمر عمليات» مخابراتي دولي لعبت فيه كلّ من واشنطن وتل ابيب دوراً أساسياً هدفه إنجاز الهدفين المذكورين أعلاه، مع هدف إضافي أساسي يعود للطبيعة الاستعمارية الناهبة مقدرات الشعوب، ألا وهو السيطرة على حقول النفط والغاز على الضفاف الشرقية للمتوسط والتمكّن من بسط اليد على طريق أنابيب الطاقة الاستراتيجي البحري والبري لهذا الإقليم والذي تمثل سورية مرتكزاً أساسياً له…

وهي محاولة قد يكون أفقها الأبعد أيضاً التطويق الاستراتيجي لكلّ من إيران الثورة وروسيا المعادية للهيمنة الأحادية الأميركية.

لذا فإنّ تحرير حلب واستعادتها من قبل الجيش العربي السوري سيشكل عملياً ضربة قاصمة لأحلام امبراطورية واستعمارية عديدة أميركية صهيونية ووهابية وعثمانية، ومعها مشاريع اقتصادية عملاقة للاستكبار العالمي…

الغرب الأطلسي المنكسر أصلاً على بوابات حمص ودمشق من قبل، والذي يتجرّع كأس السمّ مجدّداً اليوم على تخوم حلب، وفي أهمّ المواقع الجيو استراتيجية لبلاد الشام، سوف لن يتمكن بسهولة من التفلّت من التزاماته الدولية بخصوص مزاعم محاربة الإرهاب، لا سيما وهو الذي سيخضع من الآن فصاعداً لضغوط هائلة من جانب المحور الإيراني الروسي الصيني الذي سيطالبه بحزم أكثر بفك ارتباطه بهذا الإرهاب المنهزم والغارق في التيه في أحياء حلب…

هذا الوضع الجديد الذي يعزّزه فضاء ما بعد انتصار حلب المدوّي والاستراتيجي والكبير اليوم سيجعل مستقبل المنطقة والعالم يتجه أكثر فأكثر نحو مزيد من الاستقطاب بوجه الأحادية الأميركية وليس لعقد صفقات تسوية معها، ومن ثم تالياً الى مزيد من المعارك والحروب المتنقلة ضدّ هيمنتها، المعارك التي ستكون من الآن فصاعداً اليد العليا فيها للمقاومة ومحورها الممتدّ من طهران الى حارة حريك وامتداداً الى الجليل الأعلى وفلسطين…

حروب ومعارك سياسية واقتصادية وإعلامية وأمنية واستخبارية وليس عسكرية فحسب، من شأنها أن تشعل سواحل المتوسط مروراً بباب المندب وهرمز وصولاً الى بوابات سور الصين العظيم ولا ننسى أوكرانيا والقرم وكلّ أوروبا الشرقية سابقاً، والتي سيكون الأفق فيها انتقال العالم الى ما بعد عصر الدولار، وصعود آسيا باعتبارها القارة الأكثر اقتداراً…!

باختصار شديد، يمكننا القول بانّ انهيار الأحلام الامبراطورية الغربية على أسوار حلب وفي تخومها سينعكس اقليمياً ودولياً سقوطاً متدحرجاً لكلّ ما تبقى من معادلة المنتصرين في الحرب العالمية الثانية ابتداء من الدولة السعودية الثالثة مروراً بالأحلام العثمانية الأردوغانية، وصولاً الى تصدّع كبير لجبروت الكيان الصهيوني وسقوط معادلة سايكس بيكو وتداعي معادلة احتكار الغرب والأطلسي للنفوذ في المشرق الكبير، مقابل صعود قوى إقليمية جديدة في مقدّمتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومعها حلفاؤها في محور المقاومة، وعلى المستوى الدولي صعود لافت ومثير للقوتين الروسية والصينية.

هذا الأمر لن يكون في أفق فترة قصيرة البتة، وإنما في بحر السنوات المقبلة والتي قد تمتدّ إلى أواسط العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى