أربعون يوماً على رحيل الدكتورة خيرية قاسمية أسطر متواضعة عن مؤرّخة ألوف الصفحات
د. جورج جبور
كانت مؤرخة ذكية جادة، غزيرة الإنتاج، لا تمل من العمل ولا تتعب منه. بل لعلّها كلّما عملت ازدادت نشاطاً. عملها حياتها في مجمل ساعات اليوم وعلى مدار الأيام والفصول والسنين. وكانت إلى ذلك شخصية اجتماعية محببة مرحة تتقن فن الحديث والحوار والفكاهة. أما عن التزامها الفلسطيني والسوري خاصة، والعربي عامة، فحدّث ولا حرج. كذلك لا حرج عليك في الحديث عنها لجهة التزام الأمانة العلمية.
عرفتها من خلال صلتي بمركز الأبحاث الفلسطينية في بيروت أواخر الستينات. امتدحها وحبّب إليّ التعرّف بها الصديق الدكتور أنيس صايغ رحمه الله، والصديق الأستاذ الحكم دروزه مدَّ الله في عمره. واستمرت صافية صداقتي معها حتى وفاتها . بل ومن عجيب المصادفات إنها في اليوم ذاته الذي انتقلت به الى رحمة الله أوصيت فضائيّة «تلاقي» السورية أن تدعوها لنتشارك معاً في ندوة لمناسبة الذكرى 14 لوفاة المفكر المؤرخ الدكتور قسطنطين زريق.
تزاملت معها في القاهرة مرتين، وفي أوائل السبعينات كنا معاً في جامعة القاهرة، كل منا يسعى إلى الحصول على الدوكتوراه. هي من قسم التاريخ وأنا من كلية الاقتصاد والسياسة. في تلك الأيام جمعتني بمصرية عروبية احتلت مكاناً متميزاً في الشأن العام العربي هي الدكتورة عواطف عبد الرحمن. معاً، كما أذكر، ضمتهما صورة كتب فوق رسمها وزيرة خارجية دولة فلسطين، وكتب فوق رسم الدكتورة عواطف: وزيرة إعلام جمهورية مصر العربية. سيدتان عروبيتان باحثتان جادتان تختزنان من القدرات ما يؤهلهما لشغل أعلى المناصب السياسية والعلمية. وتزاملت معها ثانية في معهد البحوث والدراسات العربية ومقرّه القاهرة خلال فترة كالحة من التاريخ العربي المعاصر. ففي تشرين الثاني 1977 قام السادات بزيارته إلى القدس. في العام الدراسي 1977-1978 عهد إليَّ برئاسة قسم السياسة في المعهد وعهد إليها بالتدريس في قسم التاريخ. تمتع المعهد في ذلك العام وللمرة الأولى في تاريخه بأساتذة متفرغين يأتونه يومياً. في تلك الأيام الصعبة كان اللقاء مع الدكتورة خيرية ضمن لفيف من أساتذة المعهد بينهم الأساتذة الدكاترة محمد أنيس وأحمد صدقي الدجاني وأحمد الصياد، رحمهم الله، ويحيى الجمل، مد الله في عمره، كان اللقاء معهم، وهي منهم، نتدارس حوادث الأمة، نسمة ارتياح في عاصفة قلق.
في زحمة الخطوب لم يتأثر إيمانها بالعروبة ولم تفتر همّتها في المتابعة العلمية الرصينة لقضية فلسطين ولغيرها من الهموم العربية. بل لعلّ الخطوب أمدَّتها بمزيد من العزم.
لها مساهماتها التاريخية المتميزة، ولا سيما في الشأنين السوري والفلسطيني. كتابها عن المملكة العربية السورية في عهد فيصل لا يزال الأول في مجاله. وكتبها عن فلسطين مراجع لا بد منها للباحثين. مساهماتها العلمية عبر المؤسسات الثقافية العربية معروفة على امتداد الوطن العربي، ومشاركاتها الفاعلة في النشاطات الثقافية العالمية متنوعة ومقدرة. ولعلها قليلة المؤتمرات العالمية التي شاركتُ فيها، عن تاريخ الشرق الأوسط، من دون أن أُسأَََلَ عنها.
قادها ميلها ومعه الظروف إلى تكريس كثير من وقتها، ولاسيما في سنواتها الأخيرة، إلى الريادة في حقل تاريخي لم يعرف حتى الآن ازدحاماً في مرتاديه من العرب. هذا الحقل هو المذكرات والأوراق الشخصية. أَبدَعَت. أما آخر إنجازاتها التأليفية فقد زفّت إليّ نبأ حلواً عنه قبيل وفاتها بأشهر: « سوف ينشر مركز دراسات الوحدة العربية كتابي عن يهود البلاد العربية. هكذا قال لي الدكتور خير الدين حسيب». حين خاطبت الدكتور حسيب معلناً له النبأ الأليم كان سريعاً بقوله لي إن المركز يقوم بطباعة آخر ما أنجزت. كيف لا وهي عضو في مجلس الأمناء؟
في الذكرى العشرين لوفاة مؤسس معهد البحوث والدراسات العربية، الأستاذ ساطع الحصري، وكان ذلك أواخر عام 1988، أطلقت عبر محاضرة عامة في اتحاد الكتاب العرب، فكرة إنشاء «رابطة أصدقاء ساطع الحصري» . استجاب للفكرة عدد من كبارنا في طليعتهم العميد الأستاذ الدكتور نور الدين حاطوم، شيخ المؤرخين السوريين. عُقِدَت عدة لقاءات شاركت فيها التي كَرَّستُ لها هذه الأسطر ومعها الأساتذة الدكاترة محمود السيد وعبد الكريم رافق و محمد حرب فرزت وغيرهم. لم تَؤل الأمور إلى شيء . في أربعين الدكتورة خيرية أعود إلى إطلاق الفكرة. فلننشئ « رابطة أصدقاء خيرية قاسمية». إن نجحنا فبها ونعمت. وإن لم ننجح تعادل حظ خيرية قاسمية مع حظ ساطع الحصري وحظ العلوم الاجتماعية العاثر في بلادنا.
ألاّ أن كل نفس ذائقة الموت. بيد أن ألوف الصفحات حياة دائمة . ولا ينقطع ذكر ابن آدم إذا كان له علم ينتفع به الناس.
مستشار الرئاسة السورية بين عامي 1970 و1989