معالم السياسة الخارجية لترامب وفريقه

رافق إعلان الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب عن مرشحه لمنصب وزير الخارجية ريكس تيلرسون صخب وضجيج دلّا على عمق الهوة الفاصلة بين سياسات المؤسسة الحاكمة «التقليدية»، وبين توجهات ترامب لانتهاج مسار جديد يبتعد عن المواجهة والصدام واللعب على حافة الهاوية مع روسيا في القضايا العالمية.

وتجدر الإشارة إلى أنّ حقيقة الجدل الدائر بين فريقي السلطة، من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وتصاعده بشكل ملحوظ باتهام الديمقراطيين لروسيا بالتدخل في جولة الانتخابات الرئاسية، واكبه رفض صريح وقاطع للاتهام من فريق ترامب وبعض مؤيِّديه في الكونغرس.

ويُنذر استحضار المؤسّسة لإثارة مشاعر العداء لروسيا تحديداً بتوجه قيادات الحزب الديمقراطي نحو العودة «لزمن مكارثي» الإقصائي لكلّ من ينتقد أو يتباين مع سياسات المؤسّسة الحاكمة، ويأمل المراهنة على استنهاض الجناح الجمهوري المتشدِّد تقليدياً ضدّ روسيا، لتشكيل تحالف مصلحي موقت لعرقلة أيّ مسار انفتاحي لترامب.

سارعت قيادات بارزة من الحزب الديمقراطي في الكونغرس لمناشدة الرئيس أوباما خطياً، مطلع الأسبوع الماضي، إجراء تحقيق عاجل في تلك المسألة. وجاء في المذكرة «نعرب عن عظيم قلقنا من جهود روسيا لتقويض والتدخل بل والتأثير على نتائج الانتخابات الأخيرة».

ربما التباين الأكبر هو في روايتي وكالة الاستخبارات المركزية «سي أي آي» ومكتب التحقيقات الفيدرالي «أف بي آي»، المنوط به التحقيق في أعمال التجسّس والانتهاكات الداخلية. رواية الأولى، التي تبنّاها أقطاب الحزب الديمقراطي، تتهم «أطرافاً أخرى ترتبط بالأجهزة الروسية» بالقيام بأعمال تجسّس. بالمقارنة، جاءت رواية مكتب التحقيقات شبه قاطعة في عدم مشاطرتها أو تقاطعها مع مزاعم الأولى، وفق ما تسرّب عبر بعض أعضاء لجان الاستخبارات في الكونغرس.

روسيا خصم أم شريك… من نصدّق؟

لا يدعو سيل تصريحات ترامب ونواياه إلى الارتياح لتشكيل لوحة توضح معالم سياساته المقبلة، في ظلّ ميله إلى التهوّر والاندفاع، بل تنضح بالإبهام والتناقض في التوجهات. وبالتالي فإنّ أيّ محاولة متواضعة لفهم مدارك الرئيس المنتخب ستقود إلى الإقرار بركيزتين تخرجان عن المألوف في توجهات الحزب الجمهوري وقياداته التقليدية.

لعلّ أبرز القضايا الخلافية لترامب مع المؤسّسة الحاكمة هي علاقاته المستقبلية مع روسيا التي يعتبرها «شريكاً» يمكن التفاهم والعمل معه، على نقيض التوجُّهات الرسمية التي تعتبر روسيا «خصماً»، بل عدواً ينبغي مواجهته بشدة.

تمثلت الرؤى الأميركية لروسيا والاتحاد السوفياتي بثلاثة تيارات، وفق أسبوعية «ذي أتلانتيك»: الأول، اعتبرها صراعاً بين حضارتين تستند كلّ منهما إلى رؤيتها وإدراكها لمفهوم الله، كان من أبرز رموزها المسيحيون الإنجيليون المتشدّدون، والثاني يعود للمحافظين الجدد الذين استندوا إلى وهم تفوّق وتميّز النظام السياسي الأميركي على كافة ما عداه، من أقطابه اشتهر بول وولفويتز وإليوت أبرامز، أما الثالث فهو المدرسة الواقعية التي اعتبرت الصراع مع روسيا والاتحاد السوفياتي قبلها ثمة صراع تحدّد ملامحه المصالح الجيوسياسية، والتي يمثلها هنري كيسنجر، على سبيل المثال.

تعرض ترامب لحملة انتقادات واسعة من داخل الحزب الجمهوري على خلفية تصريحاته المتباينة حول روسيا وتراجع الخطاب العدائي لها، يعزوها بعض الخبراء الأميركيين إلى تطور في الوعي الأميركي العام ونظرته إلى روسيا منذ عام 2014، بالتزامن مع تعثر المشروع الأميركي في المنطقة. البعض الآخر يشير إلى المصالح والاستثمارات الاقتصادية التي يملكها ترامب مع روسيا كمبرّر لتعديل الخطاب السياسي. بالمقابل، أشارت قلة ضئيلة من المراقبين إلى العامل العنصري في توجهات ترامب وفريقه الانتخابي وازدهار شعار «روسيا تمثل القوة البيضاء الوحيدة في العالم».

سيواجه ترامب مقاومة قوية من أقطاب الحزب الجمهوري في الكونغرس، جون ماكين وليندسي غرام، حول روسيا واللذين يطالبان الحكومة الأميركية بفتح تحقيق لكشف ما يعتقدانه تدخلاً روسياً في الانتخابات الرئاسية التي أفضت إلى فوز ترامب.

فريق متباين الآراء ولكنّ الرئيس صاحب السمو!

نظرة فاحصة على ترشيحات الرئيس المنتخب لبعض المناصب الرئيسة تدلّ على جملة معطيات، منها إيلاءه الأولوية للقيادات العسكرية المتقاعدة واستقطاب كبار الأثرياء وما يجمعها من تباينات في الرؤى والقناعات المختلفة، وما سيرافق ذلك من تسخير نفوذها والتأثير في بلورة وصياغة القرار السياسي الأخير للرئيس المقبل.

منصب وزير الخارجية: الأعراف والتقاليد السائدة، قبل ترامب، كانت تستقطب المرشح لمنصب الوزير من داخل المؤسّسة شريطة امتلاكه خبرة وافية في مجال الاستراتيجية والسياسة الخارجية. التحولات الداخلية التي طرأت على المشهد السياسي الأميركي برمته، منذ عام 2001، أبرزت أولوية منصب مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي وأهميته القصوى في بلورة وصياغة سياسات الرئيس الأميركي.

تباينت آلية تعامل الرؤساء الأميركيين مع وزراء خارجيتهم بصورة ملحوظة. فالرئيس أوباما، على سبيل المثال، اعتمد بشكل كبير على خبرة وحنكة وزير خارجيته جون كيري، بينما طبع البعض الآخر تعامله مع الوزير بازدراء، الرئيس نيكسون، الذي اعتمد على قنوات منفصلة في تعاملاته الديبلوماسية عبر مستشاره للأمن القومي كيسنجر، وأحال الوزير ويليام روجرز إلى مرتبة أدنى وأقصاه عن التوجهات السياسية الهامة آنذاك: الانفتاح على الصين ومفاوضات معاهدة الحدّ من الأسلحة الاستراتيجية، سالت مع الاتحاد السوفياتي.

في ضوء ما تقدّم من عرض لأهم المناصب، مايك فلين لمنصب مستشار للأمن القومي وريكس تيلرسون لمنصب وزير الخارجية، بالإمكان القول إنّ الدعم الملموس الذي حظي به تيلرسون من قيادات نافذة في الحزب الجمهوري، كوزيري الخارجية والدفاع الأسبقين جيم بيكر وروبرت غيتس، يؤشر إلى تولي الوزير المرشح المهام الديبلوماسية المعتادة وكذلك الاضطلاع بدور هام في المفاوضات الاقتصادية.

منصب مستشار الأمن القومي: مرجع وولاء مستشار الأمن القومي مرهون بالرئيس الأميركي نفسه، ويُستثنى المرشح من قيد الحاجة لموافقة مجلس الشيوخ عليه. ونظراً لطبيعة المهام الملقاة على عاتقه كمستشار خاص للرئيس، باستطاعته التأثير المباشر في صياغة وبلورة مسائل تتعلق بشؤون الأمن القومي، بمستوى أعلى من منصب وزير الخارجية عينه.

وعليه، فالمنتظر من المرشح للمنصب، الجنرال مايك فلين، لعب دور هام ومؤثر في اتخاذ القرارات المتعلقة بالأمن القومي بشكل عام، واستحداث مشاعر العداء للعقيدة الإسلامية التي يعتبرها «مثل السرطان».

منصب وزير الدفاع: بخلاف التقاليد والأعراف المتبعة في معظم الدول الصناعية، فإنّ وزير الدفاع الأميركي ليس هو من يقدم المشورة العسكرية للرئيس، بل رئيس هيئة الأركان.

تربّع وزير الدفاع في منصبه يخوله التحكم بالهياكل والمراتب العسكرية المختلفة، وتحديد الأولويات المستقبلية التي يجري وفقها صرف الميزانيات المُخصّصة. على سبيل المثال، وزير الدفاع في عهد الرئيس أوباما ركز أنظار المؤسسة العسكرية على تطوير قدرات القوات الخاصة، وإيلاء القوات التقليدية مرتبة أدنى.

في الحالة الراهنة، من الثابت أنّ الوزير المرشح، الجنرال جيمس ماتيس، سيساهم بشكل كبير في صياغة الاستراتيجية العسكرية، استناداً إلى خبرته المهنية الطويلة، مع تركيز الجهود على صيانة الهياكل العسكرية وتوفير الأسلحة الضرورية وتحفيزها لتنفيذ الأوامر الرئاسية كأولوية.

وزير الأمن الوطني: استحدثت الوزارة في عهد الرئيس السابق جورج بوش، في أعقاب الهواجس الأمنية وأحداث الحادي عشر من أيلول 2001، ولا يزال هيكلها القيادي يتلمس طريقه بصعوبة نظراً لضخامة عدد العاملين في الوزارة وتقاعسهم عن تفعيل جهود التنسيق مع الأجهزة الأمنية الأخرى، كما كان مقرّراً لها. لكنّ الوزارة تحتل موقعاً متقدماً ومؤثراً في بلورة الإجراءات الأمنية، لا سيما النقاط الحدودية والمطارات ووسائل النقل الأخرى. ونظراً لطبيعة مهامها في «حماية» حدود الدولة، المشتركة مع المكسيك بشكل أدقّ، يُتنظر منها أن تشكل خط الدفاع الأول في مواجهة موجات الهجرة والمهاجرين، سواء الذين يمتلكون وثائق رسمية أو يفتقدونها، علاوة على التيقن من هويات الداخلين ومدى ارتباطهم بالتنظيمات الإرهابية.

التعاطي الرسمي المقبل

يتوصل المرء، بقليل من الجهد والعناء، إلى تحديد القضايا الدولية «المركزية» التي تواجه إدارة ترامب، والتي تشكل أساس الخلاف مع الوضع الراهن لناحية تعريف «خطورتها» وأولوية التعامل معها، وهي: إيران، سورية وتنظيم «داعش»، روسيا، الصين، ودور الولايات المتحدة المقبل على الصعيد العالمي برمته.

إيران

تتشاطر الرؤى الأميركية المختلفة في عدائها للدولة الإيرانية، وتتباين حول آليات التنفيذ، بيد أنها مُجمعة على الاستمرار في ممارسة العقوبات الاقتصادية ضدها، على الأقل من الجانب الأميركي. وقد شكل تطور التقنية النووية لدى إيران نقطة فاصلة في الوعي والتعاطي مع طهران، والتلويح بإبطال مفعول الاتفاق النووي المبرم دولياً معها. كما أنّ تطور الصناعات العسكرية الإيرانية، تحت الحصار، لا سيما على مستوى الصواريخ الباليستية، يشكل عامل قلق إضافي للنخب الحاكمة بغية تحجيم ترسانتها على أقل تعديل. أما الشكوك في نية إيران تصنيع قنابل نووية فهي تسري في عموم مراتب المؤسّسة والنخب الحاكمة، الأمر الذي يعزِّز أهمية الدور المنتظر من وزير الخارجية المقبل لتحقيق جملة من الأهداف.

الوزير المرشح، ريكس تيلرسون، امتنع عن الإدلاء بتصريحات سياسية، خاصة حول الملف الإيراني برمته، واكتفى بترديد خطاب سياسي تقليدي قائلاً: «نحن لا ندعم إنزال العقوبات، بشكل عام، إذ أننا لا نعتبرها ذات فعالية باستثناء تطبيقها بصرامة وشمولية، وهي مهمة شاقة».

العقوبات الاقتصادية الأميركية، في حال تفعيلها، ستضم وزارة المالية أيضاً، إذ تُناط مهام تنفيذ الإجراءات بوزير المالية المقبل.

الجنرال فلين، ضمن مهام موقعه، سيكون له دور بارز في السياسة الأميركية تجاه إيران، كما أنّ مهامه السابقة كرئيس لوكالة الاستخبارات الدفاعية أتاحت له الفرصة للتعرف عن كثب على كلّ ما يتعلق بنشاطات إيران «العسكرية»، فضلاً عن الإجراءات المتخذة لمواجهتها ومدى فعاليتها. خطاب فلين حول إيران اتسم بصراحته الشديدة في التعبير عن معاداته لإيران، من ناحية، ولما يعتقده بأنّ إيران تمارس نفوذها وتنشر مفاهيمها المتشدّدة في الإقليم. وعليه، من المرجح أن تتميّز توجهاته في منصبه الجديد بسياسة أشدّ عدائية نحو إيران.

وزير الدفاع المرشح، جيمس ماتيس، أيضاً يعتبر إيران «مصدر تهديد رئيسي لاستقرار المنطقة»، متقدّمة، في نظره، على تنظيمي «القاعدة» و«داعش». وهو الذي أعلن في أحد تصريحاته أنه «يعتبر تنظيم داعش لا يتعدّى مجرد مبرّر لإيران للاستمرار في سياساتها الضارة. فإيران لا تناصب العداء لداعش، بل لديها الكثير لتجنيه من الاضطرابات في المنطقة التي يقف وراءها داعش». وذهب ماتيس أبعد من ذلك حين انتقد سياسة الرئيس أوباما واتّهمه بالسذاجة في تعاطيه مع النوايا الإيرانية، ونال الكونغرس أيضاً حصته من الانتقاد «لتقاعس دوره» أثناء مفاوضات الاتفاق النووي.

سورية

نظراً لأهمية سورية في الاستراتيجية الكونية الأميركية، من المرجح أن يحظى مستشار الرئيس للأمن القومي بمهام متقدمة في هذا الشأن، وربما ستكون له الكلمة الفصل. لكنّ ترامب، من جانبه، سيصغي جيداً لوزيري الدفاع والأمن الوطني انطلاقاً من خدمتهما العسكرية في الشرق الأوسط لتعزيز توجُّهاته وقراراته في نهاية المطاف.

عند حضور ملف «داعش»، يُشار إلى دور الجنرال فلين في ديمومة تحذيراته من التهديد الذي يمثله التنظيم، بل إنّ إسرافه في التحذير هو ما أدى إلى إقالته من منصبه مبكراً. ونقل الصحافي المميز سيمور هيرش عن فلين قوله «إنّ وكالة الاستخبارات الدفاعية دأبت على إرسال سيل من التحذيرات السرية للمراجع العليا حول التداعيات الخطيرة المرتقبة بعد الإطاحة بالرئيس الأسد».

وأضاف فلين إنّ جهاز الاستخبارات تحت إمرته أصدر عدة تقارير استخباراتية الطابع توضح الدور المركزي للمجموعات الإسلامية المتشدّدة وتحكُّمها بالمشهد السوري، ما أثار حفيظة البيت الأبيض الذي رمى لترويج روايته الخاصة حول سورية، ودفع فلين الثمن غالياً بإقصائه عن موقع القيادة.

فيما يتعلق بالسياسة المرتقبة للتعامل مع تنظيم «داعش»، سيحافظ وزير الدفاع المقبل على دور مميز في شنّ الحرب عليه. يُشار إلى أنّ الجنرال ماتيس طالب عام 2012 صناع القرار بتقديم أسلحة متطورة للمجموعات المسلحة في سورية، لاعتقاده أنّه بذلك سيقتصّ من نفوذ إيران وحلفائها في سورية، وأيضاً ناشد التعامل بحذر مع حلفاء الولايات المتحدة في الإقليم، معتبراً أنّ إحدى الأولويات الأميركية تكمن في تعزيز العلاقات مع حلفائها العرب بغية إلحاق الهزيمة بتنظيم «داعش». علاوة على ذلك، حذر ماتيس من أنّ تركيز الجهود الأميركية على محاربة «داعش» سيأتي على حساب «التهديد» الأشمل من إيران.

على الرغم من عدم انخراط وزارة الأمن الوطني مباشرة في جهود مكافحة «داعش»، إلا أنّ المرشح لمنصب الوزير عبّر عن ضيق ذرعه مما اعتبره تفادي الحكومة الأميركية الإقرار بانخراط «بعض» القوات الأميركية في العمليات القتالية في الشرق الأوسط، سعياً إلى الحفاظ على صدقية وعود الرئيس أوباما بأنه لن يتخذ قراراً من شأنه دخول القوات الأميركية البرية المعركة.

الوزير المرشح للمنصب، جون كيلي، شدّد على أنّ تفادي الإدارة الإقرار بالأمر الواقع، انخراط قوات أميركية مباشرة، «ينتقص من التضحيات التي يواجهها أولئك، خاصة في حال مقتلهم، عند القول إنه لا توجد قوات على الأرض».

روسيا

تصاعد حساسية آليات التعامل المعقدة مع روسيا تقتضي انتهاج حذر شديد، ما يرجح تعاون الرئيس المقبل مع الثلاثي: وزيرا الخارجية والدفاع ومستشاره لشؤون الأمن القومي.

انطلاقاً من الخلفية التجارية لوزير الخارجية المرشح، تيلرسون، ستوكل إليه مهمة إدارة الملف الاقتصادي وحشد دعم دول حلف الناتو للحيلولة دون تراجعه أو انفراط عقده. يُشار إلى أنّ الاتهامات الموجهة إليه بسبب قربه من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وإجراء سلسلة حوارات معه ستعطيه زخماً إضافياً لتولي مهمة إدارة الملف الروسي.

لم يُخفِ تيلرسون معارضته العقوبات الاقتصادية ضدّ روسيا، خاصة تلك المتعلقة بقطاع الطاقة، لإدراكه المسبق أنّ روسيا بحاجة إلى تقنية الغرب للحفاظ على مستويات إنتاجها من النفط. ومن ثم، باستطاعته ممارسة ضغوط على روسيا من دون الحاجة إلى وضع عقوبات ضدها.

أما المرشح لمنصب مستشار الأمن القومي فلين، فقد كان شديد الوضوح بمطالبته صناع القرار في واشنطن مبكراً «بالعمل بإيجابية مع روسيا في سورية»، وذك بالرغم من هواجسه السابقة على خلفية مناخ الحرب الباردة إبان خدمته في كتيبة المظليين 82 الملحقة بالقوات البرية الأميركية.

يعتقد فلين أنّ القوات الروسية تمتلك أضخم ترسانة من القوات المجوقلة في أوروبا، وبذلك تتفوق على ترسانة دول حلف الناتو مجتمعة. ومن غير المرجح أن يُحابي فلين سياسة الرئيس أوباما المرتكزة إلى نشر وحدات مدرعة صغيرة في عموم دول أوروبا الشرقية بغية وقف زخم أي هجوم محتمل.

يُجمع الخبراء على أنّ فلين قد يسدي نصائحه للرئيس المقبل بضرورة تفادي الولايات المتحدة أي اشتباك مع روسيا خلال الفترة الزمنية الضرورية لإعادة بناء وهيكلة القوات الأميركية التقليدية، التي «يعتقد» أنّ جهوزيتها تدهورت إلى حدّ كبير خلال فترتي رئاسة أوباما لثماني سنوات. بالمقابل، سيطالب فلين بإعادة بناء وتجهيز قوات مجوقلة ومحمولة تقليدية بأحجام تكفي لتوفير سبل الدفاع الضرورية لقوات حلف الناتو.

تشكيلة القوات المنوي إعدادها وتسليحها وإدارتها ستقع على عاتق وزير الدفاع جيمس ماتيس، وهو الآتي من صفوف القوات العسكرية وباستطاعته بلورة صورة هيكلية مناسبة.

الصين

سارع الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى تمييز نواياه حول الصين عن السياسة الأميركية المعتمدة والتي تعتبر الصين «قضية واحدة». وقد تبرز الصين كأحد الملفات الشائكة بامتياز خاصة في ظلّ تصريحات ترامب إبان حملته الانتخابية بأنه عازم على إعادة التفاوض مع الصين حول قضايا تمّ التوصل إلى اتفاق مسبق معها حولها، خصوصاً قضايا التبادل التجاري، إضافة إلى نية الصين تخفيض قيمة عملتها الوطنية، اليوان، أمام الدولار ما سيجعل المنتجات الصينية أرخص من نظيرتها الأميركية.

كما أنّ أقطاب المؤسسة الحاكمة تجمع على نظرتها العدائية للصين رغم اعتبارها شريكاًً تجارياً هاماً للولايات المتحدة، وتنظر إليها كعنصر تهديد استراتيجي رئيسي للنفوذ الأميركي في المحيط الهادىء على خلفية بسط الأخيرة نفوذها في مياه بحر الصين الجنوبي، وعلاقتها الدائمة التوتر مع نظام تايوان.

كما في حال روسيا، سيضطلع وزير الخارجية المرشح، تيلرسون، بمهمة إدارة العلاقات الديبلوماسية مع الصين وفي مقدمتها القضايا الاقتصادية والتجارية. يشتهر تيلرسون بدعمه القوي لاتفاقية التجارة الحرة عبر المحيط الهادىء، التي تضم 11 دولة، باعتبارها «إحدى أفضل التطورات الواعدة على هذه الساحة.. الدول الأعضاء واصلت العمل على خفض الحواجز أمام التجارة وإنهاء العمل بسياسات الحماية، والكل مدرك أهمية عامل السوق المفتوح للتنمية والازدهار في كل دولة على حدة».

سياسة الانفتاح على الصين، الموكلة لوزير الخارجية المرشح، تقابلها سياسة احتواء الصين عسكرياً المنوطة بوزير الدفاع فلين، وفي الوقت عينه توفير مستوى معقول من وسائل الدفاع لتايوان، والتي قد تتضمن إعادة انتشار بعض القوات الأميركية في مياه بحر الصين الجنوبي. التفاصيل العملية لتلك الترتيبات ستقع على عاتق رئيس هيئة الأركان، جيمس ماتيس.

حذر فلين حديثاً من التقارب الصيني ـ الروسي وانعكاساته على الاستراتيجية الأميركية إذ «ينبغي على الولايات المتحدة النظر جيداً إلى تلك العلاقة»، زاعماً أنّ الصين تستغل بلاده «لضمانها أمن منابع وتدفق الطاقة من دون مقابل.. ولم تضطر لنشر حاملة طائرات واحدة» في منطقة الخليج العربي.

من المرجح أن يستمر فلين في التحذير من تنامي النفوذ الصيني في المياه الدولية، والدفع باتجاه استنباط سبل ضغط مستمرة، علاوة على القوات العسكرية الأميركية المنتشرة. بيد أنّ جزءاً كبيراً من الترسانة العسكرية الأميركية، لا سيما البحرية، مستنفذ في منطقة الشرق الأوسط وليس بوسع تلك الترسانة التحرك السريع لسدّ فجوة في المحيط الهادىء في ظلّ غياب أفق تسوية سياسية في سورية والعراق وإيران وحسم المعركة ضد تنظيم «داعش».

الموقف المطلوب اتخاذه من تلك القضايا يفسر إلى حدّ بعيد ميول الرئيس المنتخب إلى التعامل، وربما التحالف، مع روسيا، أسوة بما فعله الرئيس الأسبق نيكسون عندما سخر «ورقة الصين» في خدمة استراتيجيته ضدّ الاتحاد السوفياتي آنذاك. بعبارة أخرى، باستطاعة ترامب ومستشاره للأمن القومي، مايكل فلين، استغلال التقرب من روسيا كوسيلة ضغط ضدّ الصين. كما أنّ ذلك يصب في سبر أغوار الخطاب التصالحي لترامب أمام رئيس الفيليبين رودريغو دوتيرتيه الذي دشّن ولايته الرئاسية بالتهجُّم على الرئيس أوباما وسياساته نحو بلاده.

«التصالح» المرتقب مع روسيا سيوفر للولايات المتحدة نشر قواتها وترسانتها الموجودة في سورية والعراق في مواجهة الصين، بل إنّ مجرد التهديد بذلك سيضع الصين أمام متغير جديد ينبغي أخذه في الحسبان.

الدور الأميركي في العالم

يجادل البعض بأنه على الرغم من غلبة العناصر العسكرية في تشكيلة إدارة ترامب المقبلة، إلا أنّ ذلك لا يعني تلقائياً أنه سيتخذ مواقف تصعيدية وقتالية، في المدى المنظور على الأقل. وإنّ العقيدة العسكرية المشبعة للجنرالات الجدد تجعلهم أشد حذراً عند استخدام القوة العسكرية، في أي ساحة كانت، إن كان عليهم الاقتصاد في استخدام القوة. مستقبلهم المهني والإرث العسكري مرتبط بمدى تحقيق الأهداف وعدد الإنجازات، ويجنحون نحو الإفراط في استخدام القوة العسكرية لإحراز نصر سريع وبأقلّ الخسائر، ومشاركة بعض الحلفاء في تحمل نسبة معينة من الكلفة البشرية والمادية. أما الحروب الطويلة من دون أفق وسقف يحدّدها فيتم تفاديها بكلّ الطرق الممكنة.

من المرجح أن يستند فريق الرئيس المنتخب لشؤون الأمن القومي إلى تلك الصيغة، والسعي إلى تجميد وربما إنهاء الساحات الملتهبة الراهنة في الشرق الأوسط، مع ديمومة تركيز الجهود على تنظيم «داعش» وإيران على السواء.

مواجهة إيران، في عرف القيادة الأميركية، تستدعي تجديد العقوبات الاقتصادية عليها، بينما المعركة ضد «داعش» تجد متسعاً للمشاركة لبعض القوى الحليفة، مثل الأكراد، والتحالف الجديد مع روسيا، وامتداداً مع سورية، كما يعتقد. حينئذ، ستتضح معالم الهدف لإنهاء الحرب والقضاء على تهديد التنظيمات الإرهابية لأوروبا وأميركا معاً، وسيصبح بوسع الولايات المتحدة ممارسة ضغوط حقيقية على دول الخليج لوقف دعمها وتمويلها للمجموعات المسلحة في سورية.

إحدى خصائص فريق ترامب المقبل إنه يمتلك إدراكا أوضح لسقف القوة العسكرية الأميركية وكيفية تسخيرها بفعالية أكبر في خدمة المصالح الأميركية. ثلاثي الجنرالات: مايكل فلين القادم من صفوف الفرقة المحمولة جواً، جون كيلي ذو الخبرة الطويلة على متن حاملتي طائرات، وجيمس ماتيس الآتي من خلفية قيادة قوات بحرية قرب سواحل باكستان وترؤس تنفيذ عمليات عسكرية في أفغانستان، يمتلك خبرة عملية في كيفية تسخير القوة الأميركية، وامتداداً لن يكون من السهل تورطهم في الدخول في معارك مقبلة من دون تحديد معالم الخطة والأهداف المرجو تحقيقها.

أيضاً من خصائص فريق ترامب المقبل النفوذ الواضح للعنصر العسكري، مقارنة مع تكوين فريق الرئيس أوباما خلال ولايتيه الرئاسيتين الذي ضمّ بين أعضائه سياسيين وأعضاء من مجلس الشيوخ وبعض الأكاديميين.

وانطلاقاً من المعطيات سالفة الذكر لفريق ترامب، وخاصة التصريحات المتعدّدة لاسترضاء روسيا، من المرجح اتخاذه خطوات عاجلة تخص الأوضاع في سورية وإيران وتنظيم «داعش»، ولن يكون مستغرباً على ترامب ترجمة نيته في التحالف مع روسيا، بصيغة أو بأخرى.

لا يسع المراقب إلا الإقرار بخاصية مشتركة لفريق ترامب المذكور تتلخص في ميله لحسم قراراته وتطلعه لتحقيق النصر. الأمر الذي يقود إلى استنتاج أنه سيقلص حجم ورقعة المغامرات العسكرية المنتشرة عبر العالم والتشبث بتحالفات متجدّدة مع حلفاء الولايات المتحدة. وباستطاعة الفريق ممارسة الضغوط الديبلوماسية والدعم الاقتصادي كسلاح للحفاظ على متانة الأحلاف، ولن يبخل في استخدام القوة العسكرية واتخاذ قرار بالحسم حين يتطلب الأمر ذلك.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى