هل تنتحر الطبقة السياسية في لبنان؟
د. وفيق إبراهيم
لم يحدثْ أنْ انتحرتْ طبقةٌ سياسية بملء إرادتها، أو تنازلت عن سلطاتها سلمياً. فالطبقات تسقط بالقوة أو نتيجة موازنات قوى مستجدة.. لكنها قد تخطئ أحياناً في التوغل في اقتراف أخطاء قاتلة فتضمحل وتزول.
وللتوضيح فإن ثلاث ثورات طبقية من عيار الثورات الفرنسية والإنجليزية والأميركية أطاحت في القرن 19 الأنظمة الإقطاعية في فرنسا وإنكلترا والولايات المتحدة الأميركية.
ما يجري في لبنان ليس أمراً عادياً. لدينا طبقة سياسية تضم تحالف فئات متنوعة، احترفت مهنة قيادة الجماعات الطائفية والمذهبية والقبلية والجهوية. تعرف متى تسعّر الصراعات البينية ومتى تهدئها. لقد اقتسمت المنافع والخدمات والمال العام بعلنية تعتقد أن الطوائف لا تقاومها ولا تستطيع أن تثور لأسباب طائفية وأخرى لها علاقة بالإقليم والعامل الدولي.
يجري هذا التقاسم في دورة صراعات وهمية تبدو وكأنها حقيقية، لكنها ليست في العمق إلاّ من ضروريات لعبة السلطة بإغراق الجماعات المذهبية بصراعات «بينية» سني، شيعي، درزي، مسيحي وهكذا دواليك.. وبذلك يتعطل الإحساس الوطني لهذه الجماعات ويتقدم «المذهبي والطائفي» فيصبح الزعيم الذي يسطو على المال العام «قبضاي». وتتحوّل لعبة التسعير المذهبية أداة في خدمة الحفاظ على الطبقة السياسية بحالتها الراهنة.
وللزوم اكتمال المأساة. تسيطر هذه الطبقة على التعيينات في الإدارة العامة وأحياناً في القطاع الخاص. فلا يدخل حتى حاجب بسيط إلا بإذنها. فكيف الحال مع التعيينات في المواقع العليا.
وتهيمن أيضاً على وسائل الإعلام التي تنقل ما تريده زعامات هذه الطبقة حرفياً. وتمسك بالدين فترى رجال الدين المسيحيين والمسلمين ينتقلون من منزل زعيم إلى «ديوانية بيك»، يعممون على الناس فنون الانصياع والولاء للقيادات السياسية، لأنها «تحمينا»، على حد زعمهم.
ومن فنون هذه الطبقة أنها تمتلك القدرة على الارتداد نحو الساحة الوطنية عند «الحشرة» ولا يحتاج زعماؤها إلا إلى براعة في أداء حركات جمباز يجيدها الوزير وليد جنبلاط وآخرون.. متجسّد إقطاعياً يترأس حزباً اشتراكياً! وسياسيون متمولون يدعون إلى التقشف والإيمان وهم لا علاقة لهم بالقيمتين..
والطريف أنهم مجمعون على الإشادة بالأحلاف الوطنية والسعودية قبل الخلود إلى النوم.
لقد همّشت هذه الطبقة الأحزاب الوطنية وشلّت حركتها حتى أصبحت شكلاً من دون مضمون.. ترى ألا يمكن لهؤلاء القادة أن يكونوا وطنيين ولا يسرقون المال العام في آن معاً؟
لقد جرى الأمر نفسه مع النقابات التي يُفترض أنها قوة للدفاع عن المجتمع. لكن القوى الطائفية استولت عليها واستملكتها. فلم تعد تعلن إضراباً إلا إذا جرى تهميش زعيمها الطائفي عن مناقصة أو التزام أو لأنه يريد وزارة تبيض ذهباً وعسلاً، فأًصبحت النقابات مضحكة ومخيفة مع تزوّدها «بميليشيات قمع» تعتدي على كل حركة احتجاج فعلي.. وتتواصل أعمال الخفة إلى حدود «إلغاء» كل مظاهر الانتقاد البسيط للطبقة السياسية. وهناك شرائح من هذه الطبقة تفتتح مكاتب توظيفات وتعيينات على «عينك يا تاجر» والكل متساوون في السطو على المال العام والنقابات والتعليم الرسمي والجامعي، حيث ينتشر معلمون وأساتذة لا علاقة لهم بالعلم والثقافة، فيبدون كأنهم خُشُبٌ مسندة من دون أن ننسى الإدارة العامة الهزيلة..!
هناك إذاً حركتان غير متعادلتين: فساد من دون حدود وسرقة دائمة ومكشوفة وتدمير للتعليم وانحطاط في الإدارة العامة والقضاء والجامعة اللبنانية والمباريات العسكرية.. وحركة اعتراض خجولة من المجتمع لم تكتمل بعد للأسباب المذهبية والإقليمية والدولية.. فتستفيد هذه الطبقة من فترة السماح المعطاة لتزيد من سطوها واستهزائها باللبنانيين. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنه بإمكان مؤيد «المستقبل» مثلاً أن يوالي السعودية إقليمياً وأميركا دولياً من دون أن تسرقه طبقته داخلياً. وكذلك أنصار أحزاب 8 آذار والممانعة فهم مؤيدون لسورية وإيران وروسيا، فهل هناك ضرورة لتحويله إلى «درويش» يؤمن بالغيب ويعمل من أجل الموت؟
هناك إذاً طبقة طوائفية لا تأبه للطوائف، وتستفيد من الظروف الحالية لمواصلة نهجها التدميري وتعمّم الصراعات المذهبية والطائفية لامتصاص قدرات الناس على التحرك.. أليست هذه أخطاء قاتلة؟ لأنّ الحراك الشعبي يحتاج إلى ظروف بسيطة حتى يندلع.. وإلى متى سيبقى هذا «اللبناني المطيّف» متجاهلاً صراع فئات الطبقة السياسية حول توزيع حقائب الحكومة والمناقصات والالتزامات.. هناك وزارات تبيض سمناً وعسلاً.. وكيف وصلت الديون العامة إلى 80 مليار دولار؟ لا نرى آثارها في البنية التحتية والكهربا والماء والتعليم؟ وأين الاستثمارات في مشاريع عامة جديدة تستوعب حركة الطلب على العمل؟
كيف نطوّق إذاً هذه الطبقة معيدين إنتاج مشروع وطني بالحدّ على قاعدتين: محاربة الإرهاب التكفيري وضرب الفساد في لبنان؟
وكيف نعطّل إمكانية هذه الطبقة على تسعير الخلافات المذهبية والطائفية؟
إنها مهام صعبة في هذه الحروب الإقليمية العاصفة، لكنها ليست مستحيلة بدليل أنّ الثورة التاريخية حدثت في ظروف أصعب.
يحتاج لبنان إلى تغيير بنيوي. أيّ إلى نظام سياسي جديد يقوم على إلغاء الطائفية السياسية بالحدّ الأدنى، وإلاّ فإننا ذاهبون إلى انتحار وشيك… وكيف السبيل إلى تكوين نظام سياسي جديد؟ لقد فهم المرحوم رفيق الحريري أنّ لبنان ليس أكثر من «قانون انتخاب» فدفع في اتجاه قانون الستين لإمساكه بالبلاد، لأنّ قانون الانتخاب منتج للمجلس النيابي والحكومة ورئاسة الجمهورية. ولعبته قامت بتعويم وإغراق الداوئر الانتخابية على مستوى القضاء بآلاف الأصوات التي تمّ ترحيلها اليها والأصوات المرحّلة اليها تلعب دور بيضة القبان في النظام الأكثري، لكنها تصير بلا فعل في النظام النسبي، لذلك يصبح المطلوب تركيب قانون انتخابي يلبّي ضرورة القضاء على الطائفية. لأنها تشكل المرض الأساسي الأخطر الذي يسمح بإنتاج الفساد والتلاعب بالإدارات والمال العام وكلّ شيء تقريباً.
فإذا ما راجعنا متفقهين في شؤون القانون الدستوري وسألناهم إلى ماذا يحتاج لبنان لإعادة وحدته الاجتماعية وسلامه وإدارته وأوضاعه الداخلية؟ لأجابوا بصوت واحد: إلغاء الطائفية… لذلك ومع كامل احترامنا للطبقة الدينية والسياسية نقول إنّ الطائفية وبالٌ يمهّدُ تفاقمها إلى انهيار النظام في لبنان، ولا حلّ له إلا بقانون انتخاب نسبي ومدني يحفظ لدورتين فقط المناصفة الطائفية والمذهبية. وهذا يؤدّي على الفور إلى إلغاء دور المال السياسي في الانتخاب ويؤسّس لانتقال اللبناني من المذهبية إلى المواطنية. كما يتيح لعهد العماد عون محاربة الفساد واستئصاله من جذوره.
ويجب الاعتراف أنه من دون هذا الأمر فلن تبقى الطبقة السياسية تمسك بالنظام، لكن انتحارها قد يؤدّي إلى اضطرابات ضخمة في العلاقات الاجتماعية الداخلية، يجب تجنّبها لما تحتويه من مخاطر على الكيان السياسي اللبناني.. إنها فرصة.. وبقي على المستنيرين أن يستغلوها قبل فوات الأوان.