جدلية الموت والحياة
جهاد أيوب
بين الموت والحياة جدلية عمرها من عمر الكائنات، رمزها التمسك بالحياة، ومحورها الموت المحسوم والمحسوب على الحياة التي بدورها محسوبة على الموت.
الحياة تنتظر الموت، والموت ينتظر الأمر، والأمر هو الوقت المحدّد، والحياة هي الوقت الضائع.
بين الموت والحياة مفارقة بسيطة وعميقة اسمها ضباب الوجود. وبين ضباب الوجود، وبساطة الحياة، وعمق الموت جنين ظلم كي يكتشف الشمس، وما استطاع من الموجود.
كلّنا نعيش الموت، ونتلهّى بالحياة، ونتلفت إلى ما تيسر من حاجات العيش، ونتصارع في زحمة الحياة، ونتباكى في لحظة الموت، ونحلم حتى التكالب على ما لدينا من عمر نعتقد أنه حياة قصيرة نتطلب المزيد منها.
الحياة وقود الموت، والموت حياة أخرى، ونحن حكاية في حياة مزوّرة ينتظرها الموت المحتوم، والموت جدار الحياة وسرّها، والحياة كذبة تمارس الموت في سبات الليل، والموت سراب في حياة حلمها الهروب من الموت من دون جدوى.
الموت حقيقة موقّتة، لا نعرف بعد الموت ماذا يحدث، وكلّ ما قيل كلام في الوهم، ومحاولات ترهيبية من أجل الايمان، وهذا خطأ فادح من قبل بعض العلماء، ما أضاع البحث الحقيقي حول ما بعد الموت.
الموت حقيقة موقّتة لوجودنا، ولكننا لا نعرف ما بعده، وبالتأكيد هناك حياة أخرى ما بعد الموت نحن لا ندركها، ولأننا نؤمن بالله نعتقد ذلك، نؤمن بحياة ما بعد الموت، ولكننا لا ندركها، ولا نعرفها، ولا نتلمّسها.
الحياة بساطة الواقع، فلسفة الوجود، مرحلة نتعلم منها ونكاد لا نعرفها، دورنا فيها نرسمه نحن ونؤمن بالحظ فيها، والحظّ هو رقيب من الله، وتبقى الحياة مشوارنا السريع الخافت، والخافت السحري، والسحري الحالم، والحالم هو الحلم، والحلم رغم سرابيته هو حقيقة.
ولا عجب في أن يقع البشري في شرك الحياة والخوف من الموت، وكثرٌ يدّعون الزهد في الحياة خوفاً من الحياة ذاتها أو لإصابتهم بفشل في استمرارية الحياة، وأحياناً الفهم العميق والفلسفي الذي يوصل إلى الجنون أو الايمان الحاد قد يجعل صاحب هذه الامور مصاباً بالزهد أو النفور من الحياة فيتعامل معها بخفية رغم أنه يسعى جاهداً إلى تعليم ما اكتسبه للآخر، والمفارقة أنه كره أو زهد فيها ولا يزال متمسكاً بها لذلك يرغب في إيصالها إلى غيره.
والخائف من الموت يحاول أن يتفاخر أمام الناس أنه لا يخاف الموت، خصوصاً من يؤمن بالله. والآخر الذي لا يؤمن بالله لا يكترث لسانه بالموت، ويفاخر بأن الموت مجرّد رحلة أو نهاية، ولكن هذا وذاك ما أن يقعا بالخلوة الذاتية وبالتفكير بالهجرة عن الحياة ومادتها يُصابا بفوبيا الخوف من الموت، وتجدهما يؤمنان بالموت، ويطالبان بتأجيله، وإذا شعرا بفسحة نشاط حيوية تجاه الفرح لا يتذكّران الموت إلا في نهاية فسحتهما فيقولان: «الله يستر»، أو «ربي خيراً من كثرة الفرح والضحك».
هذا حال الغالبية، وحتى من يصاب بمرض عضال وخطير وعاهة وفقر قابح تجده يتمنّى الموت أمام الناس، وفي سرّه يأمل في تغيير حالته حتى يعيش حياة جديدة، وقد ينظر إلى المعافى أو الاطفال الذين يلهون من حوله ويتمنى أن يكون مكانهم، وربما حسدهم على ما هم عليه.
نحن هنا لسنا ضدّ هذا وذاك بقدر إعطاء صورة عن محبّي الحياة والموت، ومن المستحيل جمع هذا التضاد في كائن بشري حتى الانبياء والزهد ومن عصموا انفسهم عن شرور الحياة طلبوا التأجيل، ومنهم من خاف من الحياة وآخر خاف من الموت… أعني من المستحيل أن نجمع بينهما في فكر وجسد، ولكنهما واقعان لا محال.
الحياة في صعوبتها نقمة عند غالبية البشر والموت نعمة في ظروف البشر، وهنا مخاض وجودي آخر، يجد الانسان انه يرفض الحياة لكثرة مشاكلها، وضيق فسحة الامل، ورغم قناعته بوجود الرحمن أو عكسه، أي حياته من حقه يقرر الرحيل متمنياً الموت، إما قولاً وإما فعلاً.
القول يكمن في تمنّي الموت رغم الحياة، وتمنّي الحياة رغم الوقوع في الموت، فيسعى إلى هذا الأخير بلسانه لكن حبّ الدنيا يطغى، وما أن يشفى من مرضه، أو تنجلي همومه، وتُصحَّح أموره يعاود التمسك بحياته من دون أن يتعلم.
والفعل ينطلق من قرار الانتحار معتقداً انه وضع حدّاً لمشواره، وهنا يبدأ الرفض، رفضه هو حياتَه متنشقاً موته، ورفض محيطه فكرةَ انتحاره وموته، المحيط الديني يتعامل معه كمجرم حتى يثبت جنونه، والمحيط الذي لا يؤمن بالخالق يستخف بتصرّفه نحو الموت، ويحاول أن يشير إليه بجنون، وفي كل مراحل قرار الموت الارادي هو ضعف وعدم ثقة، وحالة من عدم الاستقرار الوجودي.
إذاً، لا ميزان عدل في الحياة والموت عند البشر، والعدل يكمن في الحياة والموت عند المؤمن، العدل هنا افتراضياً لا نشعر به، وإن فكرنا ملياً نجده واقعياً أراح هذا وأنعش ذاك. وكم من اناس يستحقون الحياة يختارهم الموت، وكم من أناس يستحقون الموت وتختارهم الحياة، وهنا التمنّي يصبح مطلباً فردياً أو جماعياً لا يتحقّق إلا بقدرة قادر.
وكي نجد الفرد مستعدّاً ليلعب دور المقرّر، ويضع حداً لشخص لا يوافقه الرأي، ينصّب نفسه المقرر الحاسم لإلغاء روح غيره، وقد تفشل المحاولة ويبدأ صراخ الموت… وهنا علينا التفكير ملياً بعيداً عن عقد التزمت والتجاهل بين الافتراضي والمفتعل وواقع المفعول به.
الافتراضي والمفتعل هما ملازمان لأيّ فعل، وتحديداً في فعل القاتل والمقتول والقتل، وفي حال الانفلات من القتل تصبح الحياة بين قوسي التشبث بها وقلق الموت، ويصبح الموت حالة انتظارية يعيش في دوامة الحياة رغم قلق الوجود.
حينما يصبح الموت حالة افتراضية تسقط متعة الحياة اليومية، وحينما تصبح الحياة لحظات من قلق الوجود يصبح الموت متنفساً لمسيرة الحياة المسجونة في قفص من سراب، وسراب من شوك، وشوك من قلق، وقلق من مرض البقاء خلف لعبة الموت المنتظر في أيّ لحظة.
وهنا لعبة الموت التي قرّرت من كائن بشري على كائن بشري تصبح تطاولاً على سلطة واهب الحياة أي صورياً على سلطة الحياة، والحياة مرهونة بتصرف اللاعب في الموت، أي من قرّر أن يقتل صاحب الحياةز وفارض حركة الموت المرهونة بقرار القاتل… أعني اتخاذ القرار بالقتل لحياة آخر لا يريده، وهو في تصالح مع حياته، يصبح هنا القتل جريمة مفتعلة، وآخر يعتبره القدر، ويقع التناقض في قرار الحكم.
كيف تريد محاكمة المسبب لموت قرّر آخر أن يوقعه على صاحب الحياة وأنت اعتبرت أنّ قدر المغدور هو الموت؟
وتعاود السؤال: هل تجوز محاكمة القاتل لكونه حقّق قدر آخر ينتظر الموت، والموت ينتظره؟
ولماذا لا نحاسب مسبب موت حياة وهو من تطاول على سلطة الجبار، وقرّر أخذ الروح التي وهبها الرحمن، وكأن الفاعل والمفعول في قفص الاتهام؟
إذاً، الموت هنا قرار فاعل بشريّ قصد إنهاء حياة، والحياة هنا مسجونة بكتاب لا أوراق فيه، وما أن يقع الموت على حياة هاربة تقع فكرة التصالح من أساسه. والموت لا يتصالح مع الحياة، والحياة ترفض فكرة الموت مهما كانت الظروف.
ومهما اختلفنا في لعبة الموت يبقى المسبّب هو الجلاد، ومهما عشقنا لعبة الحياة يبقى العاشق هو المسبّب، وهو جلاد من نوع آخر.
الحياة مستمرّة بك ومن دونك، والموت ينتظرك خلف ستائر شفافة وأحياناً مخاطية، ورغم وضوح الخلفية يجعلك لا تراه، ويرسم مشهديته مهما تذاكيت عليه، وأفضل المتعاملين مع الحياة والموت هو من يسلّم امره لرب العباد أو يعيش على نظام البركة والسلام.