تجلّيات الفلسفة في الفنّ الروائيّ

دعد ديب

اتكاء الأعمال الأدبية الجديدة الصادرة في الغرب على توجّهات التيارات الفلسفية الكبرى من جهة، والأعمال الفكرية الخالدة من جهة أخرى، وإعادة استلهام أفكارها ومحيطها الثقافي والاجتماعي وأشكال صراعاتها الداخلية، يكاد يكون الصورة الأكثر بروزاً في عالم اليوم. رأينا نموذجاً له في «عندما بكى نيتشه» لأرفين د يالوم، العمل الروائي المعتمد على فلسفة نيتشه والمستعار إلى السينما. ورأيناه كذلك في «جحيم دان براون» المستند على الكوميديا الإلهية لدانتي والمرشّح كذلك لعمل سينمائي بِاسم «أنفيرنو»، وليس آخرها مغامرة الروائية الأميركية إليزابيث جيلبرت في عملها الروائيّ الملحميّ «توقيعه على الأشياء كلّها» «دار الجمل» 2016. إذ تعيد صاحبة «صلاة، طعام، حبّ» إلى الذاكرة الصراع الأساس في الفلسفة بين المادية والمثالية والسؤال الأوّلي حول الروح والمادة من هو الأسبق في النشوء ومن منهما علة الآخر، من خلال نموّ عملها على محورين متوازيين في صبّ الفكرة الفلسفية في قنوات السرد، مرّة بوصفه انشغالاً معرفياً نخبوياً، ومرّة أخرى كونه قضية إشكالية معذّبة للفرد الأعزل في علاقته مع صور الكمال للطبيعة الأمّ في تجلّيات الجمال والانسجام الكوني.

ألغاز العلم يجيب عنها العلم والاكتشافات الحديثة. لكن، ماذا عن ألغاز النفس البشرية؟ وكيف تُحلّ؟ وما هو الأساس؟ الإدراك أم الكيان المجسّد المرصود بالحواس؟ من هو الأسبق في التشكل؟ أسئلة صعبة كابدها الفلاسفة على مرّ التاريخ وبُنيت لها مدارس، تعيد جيلبرت صوغها في ستمئة وثمانين صفحة في عمل شيّق من بدئه إلى منتهاه.

رواية تمتدّ طوال قرن كامل عاصف بتحوّلاته هو القرن التاسع عشر، فتنشغل في رصد الملامح والانعطافات في تلك الحقبة عشيّة اختمار العلوم والظروف المهيئة للثورة الصناعية، حيث كان السعي وراء الثروة يقف وراء تطوّر علوم النبات والصيدلة ومحاربة الأوبئة المنتشرة. فـ«إيلما وايكر» التي ورثت الهوس بالنباتات من أبيها الرجل العصاميّ الذي أتى من خطّ الفقر ليصبح واحداً من أغنى أثرياء المنطقة، وأمها عالمة النبات الهولندية الأصل، بيئة أسّست للعقلية التواقة إلى العلم والاكتشافات العلمية، واستكشاف الحياة من علم النبات سلوكه، حياته، تكاثره، البيئات المناسبة له مروراً باستكشاف الرغبة البشرية، المسألة المغيبة التي لم يسمح الاتزان ونمط الأخلاقيات السائد لعالمة النبات بتدريسها لابنتها. استكشاف النوازع الإنسانية الكامنة في الأعماق الأنانية والإيثار… إيثار أختها بالتبنّي الذي تكتشفه لاحقاً . القصة غير المفهومة، ذات الالتباس في منظومة الصرامة العلمية، تلتقي بـ«امبرسون» الفنان الطوباوي، الرجل الذي افتتنت به، توأم الروح الذي اعتقدته مرآة لما ينقصها من كشف في طبقات راسبة داخل النفس، لم تكن لتتخيل وجودها وقد وحّدهما الفضول لمعرفة كيفية صوغ العالم وقوانينه ونواميسه التي تتحكم بأقدار الحياة، حيث تضيء الجانب الآخر من أسلوب الفهم الذي يرى في هذا الاتساق والكمال، توقيع الإله على عناصر الطبيعة المخلوقة، كل الجمال والانسيابية تجسد لغة كونية تدرك بالروح والبصيرة.

الكائن الشفاف المثالي يحملها على الاعتقاد بتناغم الأرواح عبر حديث الصمت بالمكان الأكثر اعتزالاً وخصوصية بتجلّ كبير للخطاب النفسي الداخلي والتوحد مع الذات والطبيعة. المكان ذاته الذي كان خلوة لرغباتها المادية المكبوتة تعيشه في حوار غير مسموع بينها وبينه يأتي من الداخل لتكتشف في النهاية إن كلاً منهما يتحدَّث بلغة لا تصل إلى الآخر. فأمبرسون المجسّد روح الفنان السابحة في الملكوت الإلهي رغم جمالية الشفافية والروحانية التي تطفو من كيانه المفعم بالمحبة والنور وإنكاره حاجيات الجسد والمادة، يجسّد في النهاية فكراً مدحوراً لا نصيب له بالاستمرار، وتجلّى ذلك في موته أو انتحاره عند اصطدامه بنموذج آخر للجمال والقوة «مورننغ تمورو» النموذج الفاتح الذي لا يقف في وجهه شيء.

الشخصيات النسائية ترخي بظلالها وهمومها على العمل الروائيّ برمّته رغم نفي الكاتبة الاتهام القائل إن أدبها محصور بالمرأة والأدب النسائي تحديداً، وبخاصّة عندما تفرد مكاناً خاصّاً لأحاسيس الذات الأنثوية وإحباطاتها المتكرّرة، مثيرة تساؤلات مهمة حول قدر المرأة التي تشتغل على فكرها وتنمية مداركها الفكرية. أيكون ذلك على حساب حياتها الخاصة والشخصية؟ أيكون هذا هو التحدّي الذي يواجه امرأة العصر كذلك.

«إيلما» التي تتابع رسم طريقها في تآلف الاتساق العلمي لأساسيات الحياة عبر أكثر صورها جمالاً: الطبيعة النباتية، النسغ الحيّ الضارب جذوره في الوجود النابض لتخوض في قراءة متأنية لاستكشاف قوانين التطوّر والنشوء، تعيدنا إلى صراع العلم والفكر، إلى داروين وآلفرِد راسل وأشباههما من العلماء والمفكّرين. فالمنطقة تمور بانشغالات العلم وأسئلة النشوء والارتقاء، فلو لم يكن داروين لكان غيره كنتاج لعصر تزاحمت فيه الكشوفات والاختراعات، وتركّز الثروة وتطوّر العلوم كافة، ناهيك عن إضاءة على تاريخ المسألة الاجتماعية بالنضال لإلغاء الرقّ ترافقت مع الحاجة إلى تحرير العقل والإنسان معاً.

تصوغ جيلبرت فضاءها الروائيّ بلغة عميقة وسهلة وبخطّ تشويقيّ عالٍ، محفّزة التوق إلى التساؤلات المعرفية الأولى لترسم شخوصها بِسِماتهم وأفكارهم المتنوّعة بين التاريخ والفلسفة بين المادة والروح، بين العشق والخيبة، لتتصدّر اللقب بأنها الرواية الأكثر إثارة، ويمكن وصفها بأنها رواية العام فعلاً.

كاتبة وإعلاميّة سوريّة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى