بداية الربع الأخير لساعة الحرب على سورية: نواة صلبة للسياسة وميزان قوى حاسم للميدان
ناصر قنديل
– دأب الرئيس السوري بشار الأسد على الإجابة عن سؤال وجّه له مراراً عقب كلّ انتصار سياسي أو عسكري تحققه الدولة السورية، عن كيفية قياس دخول الربع الأخير لساعة الحرب، بالقول إننا لم نبلغها بعد، ونبلغها فقط عندما تُغلق الحدود بوجه التمويل والتسليح وتدفق المسلحين من الخارج، ويقتنع اللاعبون الدوليون والإقليميون الكبار الذين يقفون وراء هذه الحرب بأولوية الحرب على الإرهاب، عندها ينفتح المسار السياسي جدياً وعندها يصير ممكناً محاصرة الإرهابيين وإخراجهم من الجغرافيا السورية بصورة جذرية، وعندها تصير القضية قضية وقت، وكان واضحاً أنّ الحدود التي يقصدها الرئيس السوري ليست حدود سورية مع لبنان والعراق والأردن، رغم صلتها بتسرّب مبرمج أو غير مسيطر عليه للإرهابيين وخطوط إمدادهم نحو سورية، بل لأنّ الحدود التركية مع سورية هي وحدها الحدود التي تمتلك صفتي، القدرة على تحمّل الأعباء السياسية والعسكرية الناجمة عن التورّط بمفردها في الحرب على سورية ويتكئ عليها الآخرون وينكفئون بانكفائها. والقدرة عندما تقرّر التورّط على امتلاك فاعلية التأثير في عمق جغرافي وديمغرافي مؤثر في مسار الحرب على سورية، فبدون تركيا لا نافذة أخرى لمواصلة الحرب من الخارج بفاعلية، هذا تعرفه سورية وتعرفه تركيا ويعرفه حلفاء الطرفين على ضفتي الحرب، التي كانت بنسبة النصف على الأقلّ حرباً تركية ـ سورية.
– كانت الوصفة السورية للانتقال إلى المسار السياسي وتزخيم الحرب على الإرهاب والمعروضة على طاولة موسكو هي إغلاق الحدود مع تركيا بقوة النار والحسم العسكري، ليقتنع مَن في أنقرة بلا جدوى المقامرة والمغامرة، وكانت طهران التي تلاقت بعد اختباراتها الخاصة مع السياسة والدبلوماسية مع تركيا قد توصلت، ولو بعد دمشق، للاستنتاجات ذاتها، التي ساهم حزب الله في خبرته المتراكمة من معطيات ميادين القتال وقراءة مؤشراتها، بتسريع إنضاجها. وبقيت روسيا تراهن على مزاوجة خيار النار وخيار السياسة، ليفهم الأتراك ومن خلفهم الأميركيون بلا جدوى رهان الحرب، ومنذ مطلع العام 2015 أيّ قبل عامين تقريباً عندما شنّ الأتراك حربهم نحو إدلب وجسر الشغور لحساب جبهة النصرة، استباقاً للمسار التفاوضي حول الملف النووي الإيراني، صار بنظر القيادة السورية معادلة مفتاحية لخيار الربع الأخير من الساعة هو حلب. فالإمساك التركي بإدلب وريفها وبعض ريف اللاذقية وريف حلب الشمالي، معادلة تغري الأتراك وعبرهم من ورائهم بالقدرة على إكمال الإمساك بحلب التي يسيطر مسلحون تابعون لتركيا على الأحياء الشرقية منها، وبالتالي بمعادلة الحسم في حلب يمكن إدخال الحرب على سورية الربع الأخير من الساعة.
– مع توقيع التفاهم على الملف النووي الإيراني وما ترتّب عليه من ارتياح إيراني من أعباء في السياسة والاقتصاد، صار لخيار حلب فرصة، فروسيا تخففت من عبء ثقيل هو ملف إيران دولياً، وإيران تخفّفت من أعباء، وجاء التموضع العسكري الروسي بما عُرف بعاصفة السوخوي نهاية العام الماضي، والعين على حلب. فكان ريف اللاذقية وريف إدلب وريف حلب الشمالي مسارح الحرب التي خاضها وانتصر فيها الجيش السوري والحلفاء، حتى وُقعت الهدنة في نهاية شباط الماضي، ليتشكّل إطار سياسي أمني لقياس التفاعل الأميركي التركي لدى روسيا، مع الدعوات لمسار سياسي عقلاني يتزاوج مع حرب جادّة ضدّ الإرهاب، وقراءة التحوّلات والحزم في المضيّ بها بعين واقعية، وكان التفاعل المزدوج في كلّ من واشنطن وأنقرة، الرهان على معركة حلب من جهة، ورسم سياقات الانخراط وتطبيع العلاقات تحت سقف مسار سياسي بسقوف جديدة، ومسار مشترك للحرب على الإرهاب، ونضجت واشنطن عبر التوصل في جنيف لتفاهم مع موسكو هذه عناوينه، لكن البوابة لوضعه في مسار التطبيق، وقف على تفاعل وتجاوب تركيا.
– كان لا بدّ من حرب حلب، كانت تردّد دمشق وطهران ويقول حزب الله، وموسكو تجيب بالإيجاب، لكن بعد استنفاد الفرص السياسية، فبعد حسم حلب لا أمل بلعبة معارضة مسلحة، فلا يبقى في الميدان خارج سيطرة الدولة السورية إلا جيب تركي فيه مناصرو تركيا وجيب أميركي فيه مناصرو أميركا، والباقي موزع بين النصرة وداعش المصنفان إرهاباً، وكان واضحاً حجم الاستعداد لحرب حلب في أنقرة، والوقوف عند حدّ التطبيع دون التزامات أبعد من النية بعدم العودة للمواجهة سواء مع موسكو أو مع طهران، وكلّ ذلك بانتظار ما وصفه في حزيران الماضي الأمين العام لحزب الله بعاصفة الشمال التي وظفت لها تركيا ألفاً وخمسمئة آلية حربية ثقيلة، ووضعت لها السعودية وفقاً لبعض التقارير موازنة ملياري دولار، ووقفت واشنطن التي وقعت التفاهم مع موسكو تنتظر نتائج الحرب، التي خيضت كأشرس حروب العالم على وجبات من المعارك الضارية سقط خلالها الآلاف من المقاتلين على ضفتي الحرب، التي حسمت بانتصار حاسم لسورية وحلفائها، كان لروسيا دور عسكري بائن وفاعل في صناعته وبذل خلاله الإيرانيون وحزب الله دماء غالية ومساهمات بلا حساب، لكن الفضل فيه يبقى للجيش السوري وللشعب السوري وللقيادة السورية، وخصوصاً لأهل حلب وخياراتهم، وهو النصر الذي كانت موسكو تنبّه مفاوضيها في واشنطن وأنقرة دائماً أنه آت ما لم يستمعوا لنداء العقل ويعيدوا حساباتهم جيداً.
– في حلب سقط مشروع الحرب على سورية، ولو أنّ الحرب لا يزال أمامها الكثير، لكن الرهان على تغيير في الموازين والعناوين بعد حلب صار استحالة. فبدأت أنقرة بسرعة في تنفيذ الخطة البديلة، التي طبّعت لأجلها العلاقات مع موسكو وطهران، وتبلورت اللحظة التاريخية لنهاية خيار الحرب، فقد فصل جسم المعارضة الذي يعني الموالين لأنقرة وواشنطن المستعدّين لخوض حربهم وفق حصرية قتال داعش والنصرة بعد اليأس من تغيير سورية وقتال دولتها وجيشها ورئيسها، وليست المعارضة هنا رمزاً لمعادلة الوطنيين السوريين الداعين للإصلاح، وصار ثمة معنى استراتيجي للقاء روسي تركي إيراني برضا أميركي عن بُعد، عنوانه أولوية الحرب على الإرهاب، وفتح مسار سياسي تحتفظ خلاله تركيا بخطاب متحفظ حول الرئاسة السورية، لكنه يقول ما قاله التفاهم الروسي الأميركي من أنّ الشأن السوري الداخلي شأن يخصّ السوريين، وما لا يتوصلون للتفاهم حوله بالتفاوض يحتكمون فيه لصناديق الاقتراع، ما يعني ضمناً التسليم بدولة يعرف الأتراك والأميركيون أنّ رئيسها سيكون الرئيس بشار الأسد.
– عشية انطلاق منصة التحوّل الكبير الذي رعته موسكو، وأعلن تشكيل النواة الصلبة المؤسسة على نهاية اختبار الخيارات والرهانات التركية، وانضمامها لوثيقة عمل مشتركة مع روسيا وإيران يشكل التفاهم الروسي الأميركي أرضيتها، تمّ اغتيال السفير الروسي في أنقرة، في رسالة احتجاج دموية من الذين يريدون استمرار الحرب، ولا يستطيعونها دون تركيا، لكن أحداً لم يأبه لهم، بل كان الردّ بوثيقة تصحّ تسميتها وثيقة كارلوف للحرب على الإرهاب وإطلاق المسار السياسي للحلّ في سورية، ليوضع المحتجّون في الرياض خصوصاً أمام خيار الالتحاق أو البقاء خارج قطار قرّر أن يقلع وبسرعة دون انتظار أحد.
– يخطئ أيّ من اللبنانيين إذا قرّر المغامرة وتحويل لبنان إلى صندوق بريد بديل لحساب رسائل الاحتجاج السعودية، التي يبدو أنّ الطابع الدموي الذي حملته في أنقرة، كما الضغوط الدموية التي يشهدها الأردن، كافية للحذر.