مملكة الخشب… افتراض يجسّد الحقيقة!

النمسا ـ طلال مرتضى

في ميدان «كلاغنفورت» في النمسا، حيث تقام احتفالية عيدَي الميلاد ورأس السنة. كان على النحات النمسوي إرنست بفليجه «Ernst pfleger» أن يدرك أنه ليس على صواب حين تجاهل عن قصد مقولة: الأشجار تموت وقوفاً… ولا تنحني.

لوهلة، هو ظنّ أن الحكاية سوف تمرّ مرور الكرام وينتهي ضجيجها، بعد تدخّل منشاره الكهربائي ليقطع آخر حبال الوصل بين جذع الشجرة المعمِّرة والتراب.

بحجة التقرّب إلى الله، أجاد الدور حين حمل فانوسه لينير الدرب لمريم المجدلية.

كلّ الذين تحدّثوا بِاسم الله، تبوّأوا منازل رفيعة.

عندما جزَ الشجرة، ادّعى، أنها ملّت عناد الريح، فنحتها بهيئة كاهن.

الكاهن الذي يمسك زمام الأمور بين الرعية والراعي الكاهن يعرف تماماً أنّ السياسة تحتاج إلى نَفَسٍ عميقٍ. لذلك، تسلح بـ«شعرة معاوية»، وبدأ برسم خارطة طريقه.

مَن لم يعرف الحقيقة، أعمى بصر وبصيرة، لم يدرك أحداً ما سرّ خضوع الكاهن للمجدلية، ربما هي رفعة إيمانه!

كان عندما يمرّر كفه ـ الكاهن ـ فوق رأس الرسول للتبرّك، ثمّة رجفة تسري بأوصاله تكاد تظهر جليّة للعيان.

المؤمن الذي يلتقط الرجفة، أيضاً يرتعد لرهافةِ حِسِّه، وقد تأخذه الحالة نحو التمسّح بالكاهن «الممسوح بالبركات».

لكن ثمة أسئلة من داخل السياق، تأتي من بديهية القصة. تبدأ: ماذا يُحاك بين الكاهن والوزير الذي أنهى إرنست توّاً، شكله من جذع شجرة نمت عند مجرى آسن؟

الوزير الذي ترك حضوراً لافتاً، يُنبئ بأنّ للرجل أحلاماً وطموحات لا تنتهي. بالتأكيد، وهو الشاب الفتيّ المتّقد كشعلة بالذكاء والفطنة.

كيف لا، وقد دخل القصر من بوابتة الكبيرة بعد أن نال رضا صاحب الجلالة الذي لا يفتأ عن إكرام مريديه وفتح أبواب الخزائن من دون مِنّة؟

وكيف لا ينال الرضا، وحين قدّم ولاء الطاعة، أتى راكعاً أمام الملك وهو يحمل الحجر الأكبر في لعبة الشطرنج الذي يمثّل الملك ذلك الحجر الذي لا يفارقه في حَلِّه وترحاله، لا لشيء إلا لأنه الوفاء. وهو القائل في حضرة الملك: أحملك معي أبداً كي تبقى تعاليم جلالتكم نصب عينيّ يا مليكي.

كان الملك يربّت على كتفه ويقول: نِعم الحليب الذي رضعته يا وزيري الأمين، في هذه البلاد لك اليد الطولى. كاهننا قال: الآلهة وهبتك الرضوان.

لعلّ الخير على يديك، بُوركت مبجّلاً.

لكنه الملك الذي لا يكفّ عن السؤال، ويبحث عن أجوبة شافية، عندما سأله: علامَ تغيب كلّ مساء عن مجلسنا أيها الوزير وتخلد إلى خلوتك، وتترك ليالي السمر؟

من يملك الفطنة، لا يعييه خلق الأعذار، خصوصاً عندما ينشغل الوزير بهموم الرعيّة، الهموم التي تحمّل أعباءها مبكراً والتي حرمته السهر ومقارعة الأقداح وتحسّس الوجوه الملاح.

الشجرة التي نمت على المجرى الآسن ونالت رضا الكاهن والملك، لها في الضفة الأخرى ظل آخر ووجهة أخرى، تسكنها العرّافة الشمطاء التي تكيد المكائد وتنصب الشراك، بحجة أن الآلهة العظيمة خصّتها بقراءة الغيب.

هي ذاتها بيت سرّ الوزير وأصابعه الخفية التي ترسم وتخطّط. حيث كان آخر أقتراح لها، أن طلبت من الملك لِيولم الأفراح في المملكة، لأنها رأت في المنام بشارةً عظيمة، وهي أنّ حلم الملك السبعينيّ سيتحقق في القريب، حين أخبرته إن وليّ عهده قادم. الخليفة الذي سيحمل اسمه ويرث أرثه، ذلك الحلم الذي لم تستطع تحقيقه ملكة القصر، وفعلته جارية رشّحتها هي، أي العرافة.

كل هذه الأحداث جرت فترة انشغال النحات إرنست في التحضير للاحتفالية الكبرى، ترحيباً بوليّ العهد، حيث دُعيَت الفرق الغنائية من جميع أصقاع المعمورة، وقد تحّول القصر إلى مسرح عامر بالحياة، بعيداً عن مكائد السياسة ودهاليزها، بعدما قدَّم النحات آخر افتعالته، معلناً دخول المهرّج ـ الذي نحته من شجرة زنزلخت وجدها طافية في نهر الدانوب ـ في لعبة القصر.

يقول القائل أن تصحو متأخراً خير قبل أن تخسر أناك، هو حال الملك الذي جال بنظره متفقداً الحضور، وقد هاله الأمر حين اكتشف أن جلّهم أغراب، وأنّ المهرّج المزعوم جاء ليقوم بأمر ما. إنها صحوة الروح الأخيرة، حين أيقن أن حياته أصبحت قاب قوسين أو أدنى من نهايتها. بعدئذٍ فكّ لغز علاقة الكاهن والعرّافة والوزير الذين حاكوا المؤامرة بعناية!

أمسك الريشة وخطّ بضع كلمات على رقعة ملساء. ثم وقف وقفته المعهودة طالباً تأجيل الاحتفال لبضع دقائق، كي تتمكّن الناطقة الرسمية بِاسم القصر، من قراءة البيان الذي كتبه توّاً، حيث تقدّمت وأخذت المخطوط.

وقرَأَت التالي: بِاسمي أنا ملك مملكة الخشب، أعلن لشعبي العظيم التنحّي عن عرش المملكة لوزيري الشاب الأمين القويّ، والقادر على جلبِ السلام إلى مملكتنا العظيمة. وها أنا أدعوه الآن إلى تسلّم التاج، ومنذ هذه الدقيقة أضعني في خدمة مليكي الجديد، تحيا مملكة الخشب العظيمة.

ران المكان صمت رهيب ثم انطلقت زغاريد الفرح تلعلع في بهو القصر، وفي غمرة الاحتفال الكبير انسلّ الملك المغلوب على أمره إلى جهة غير معلومة.

في الصورة السابعة حيث أقف والنحات النمسوي إرنست بفليغه، ثمة منحوتة قيد التكوين ظهرت بيننا، تمثّل هيئة رجل سبعينيّ يحمل على كاهله صرّة ذكريات سالفة. يشقّ طريقه نحو المجهول الحتميّ من خلال عكّاز ثلاثية الأرجل تعينه في الاتكاء لِيتابع. ما جعلني أتوقف هنا، الجلبة التي مصدرها قصر مملكة الخشب، وعندما سألت عن السبب، قال أحدهم: المهرّج قتل ملكنا الجديد!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى