«الساعة الأميركية» تتعطّل في سورية!
د. وفيق إبراهيم
يسيرُ العالم على إيقاع الساعة الأميركية منذ انتصارها في الحرب العالمية الثانية في 1945. لم يتمكن أحد من مخالفة تعليماتها ودقاتها، ومَنْ جرّبَ فقد خسر.. حاول عبد الناصر ولم يفلح، وانهار الاتحاد السوفياتي.
وتعرض الخط القومي لتصدعات كبيرة، حتى بدت واشنطن سيدة الساحات، تضع لكل دولة عمراً وتاريخاً ونهاية. لكن هذا السيناريو الذي بدا وكأنه لا يُخترق، تعرقل في سورية حيث وضعت واشنطن كامل إمكاناتها لإسقاط النظام السوري وتمزيق سورية. فحشدت الدعم المالي والإسناد اللوجيستي والعسكري وجعلت الأردن وتركيا تفتحان حدوديهما لكل أفّاك ومتشرد وإرهابي. وبنت حلفاً من ثمانين دولة زعمت أنه لمحاربة الإرهاب وتبيّن أنه لحمايته. وبهذه المواصفات، تدور واحدة من أشرس الحروب على إيقاع الساعة الأميركية. وكان المطلوب أن تسقط الدولة السورية على رنّاتها وبمدة محددة.
لم يتصرف النظام السوري على الطريقة البدوية كما كان مفترضاً.. استوعب أولاً ماذا يجري، متأكداً أن الهدف الأميركي مصوّب لإسقاط الدولة، وجهّز العدة الداخلية المتآمرة ومبرراتها، والحلف العربي ـ الإقليمي الطائفي وأسبابه، والغطاء الدولي و«ديمقراطيته المزعومة» والمتسللة من خلال الرنّات الدكتاتورية لـ«الساعة القدرية».
جرّب النظام مع «الأداة الداخلية» كل السبل، أفهمها طبيعة الاستهداف مركزاً على وطنية المعركة ومبدياً استعداده لتفاهمات داخلية. لكن على مَنْ تقرأ مزاميرك يا داود؟ أموال النفط تخترق جبهات التكفيريين في الداخل، والقوى الإقليمية في تركيا والسعودية وقطر تفتح خزائنها وحدودها بلا حدود وسط دعم «إسرائيلي»، استحسنَ مستقبلوه أن يحافظ على درجة السرية لضرورات الموقف القومي والفلسطيني.
وانتشر الإرهاب في معظم سورية والجيش العربي الصبور والجسور يقف عند حدود داخلية يستطيع الدفاع عنها للدفاع عن الدولة والعودة إلى التحرير في الوقت المناسب.
لم تبخل واشنطن على «الإرهابيين المعتدلين» بأي شيء من أجل تحقيق شعارها بإسقاط الدولة السورية، وذلك لإسقاط كامل المشرق العربي وإعادة بعثرته في إطار ولايات مذهبية وطائفية جديدة.
وانتابَ «الساعة الأميركية» شعورٌ بأن مشروعها السوري ذاهب إلى التحقيق. والمسألة مسألة وقت وأيام.
بالمقابل كانت دولة بشار الأسد تطبق ما قاله الخليفة عمر بن الخطاب: «الحرب لا ينفع لها إلا الرجل المكيِّث» أي الصبور الحكيم. وكانت الخطة المحكمة لإيقاف الساعة الأميركية في سورية مؤلفة من ثلاث طبقات:
أولاً: على المستوى الداخلي، تعزيز التضامن الداخلي المبني على رفض الطائفية والأصولية والتمسك بالعروبة… وتحريك الجيش العربي السوري بأسلوب المراحل لامتصاص الهجمات والعودة إلى بناء هجمات ناجحة كما حدث. والدليل أن الجيش ظلّ متماسكاً بعروبته التاريخية التي أرساها القائد حافظ الأسد، نهجاً لا يتزعزع.
ثانياً: على المستويين العربي والإقليمي: اشترى الخليجيون جامعة الدول العربية ووسائل الإعلام وشنّوا حرب تسعير طائفية في كل اتجاه. ما فرض صمماً اصطناعياً على معظم الدول العربية إلا أن الدولة السورية نجحت في المحافظة على علاقاتها مع العراق ومصر والجزائر، وأوصلت وجهات نظرها إلى كامل الشعوب العربية التي سجلت تعاطفاً معها، ما أثار قلق أهل النفط في الدوائر الغربية.
لجهة الإقليم، تورطت الدولة التركية في مشروع سورية والعراق واعتبرته مشروعها العثماني فأظهرته بشكل بنيوي على مستوى فتح الحدود ورعاية الإرهابيين ونقل السلاح وبيع النفط والاجتياح العسكري.
إلا أن سورية نجحت في بناء حلف إقليمي، من إيران إلى لبنان وظيفته الأساسية «المقاومة ضد المعتدين على المنطقة». لقد شكل هذا الحلف مستوعباً يضم تنظيمات مقاومة إقليمية وعربية وسورية، يكفي أن حزب الله المجاهد هو العنوان الرئيسي لها.
أما دولياً، فتمكّنت الدولة السورية من وضع روسيا في الأجواء الحقيقية لقوى التكفير صاحبة المشروع بتفجير كل الدول، حيث يوجد مسلمون وخصوصاً الذين يتأثرون بالقراءات الوهابية للإسلام. ووجدت موسكو في الصمود السوري فرصة للعودة إلى العلاقات الدولية بعد غياب قسري فرضته واشنطن دام نحو ثلاثة عقود. وتستطيع فيه حماية دولتها وأمنها في إقليمها من التحرك الأطلسي. وهكذا تعود روسيا إلى المشرق العربي من بوابة دمشق. وهي عودة مظفرة تمهّد لعودة روسية تدريجية لكامل أزمات المنطقة في اليمن والعراق ومصر وتونس… والبحرين المنسيّة بسبب النفط السعودي.
ومع اكتمال خطة الدولة السورية بالجمع بين الصمود الداخلي والحلف الإقليمي والدولي والعنوان هو الجيش العربي السوري البطل ابتدأت خطة تعطيل الجزء المتعلق بسورية في دوران «الساعة القدرية الأميركية».. صمود السنوات الخمس، وتحرير حلب وأرياف «درة العرب دمشق»، تتويج لهذا المشروع وبداية له.
لقد وضع حلف المقاومة قسماً لا بأس به من إمكاناته في سبيل تحرير الشهباء، ونجح جامعاً بين تضحيات الجيش العربي السوري، وملاحم المقاومات اللبنانية والإقليمية والدور الروسي والإيراني والقوى الشعبية السورية.
وعلى الرغم من الحشود الإرهابية المدعومة بقوى تركية ترتدي لبوس منظمات تكفيرية ومستشارين غربيين و«إسرائيليين» متنكرين بعمائم ولحى وعيون زرق.. وأسلحة نوعية من كل الأنواع والعيارات، مع الاحتماء بمئات آلاف من أهالي حلب الطيبين والمغلوبين على أمرهم الموالين للدولة… كل هذه العناصر لم تمنع الدولة السورية من تحرير أهم مدينة سورية بعد العاصمة وطرد الإرهاب إلى حضن راعيه في تركيا والأراضي السورية المحتلة منها.
وهنا جُنَّ جنون واشنطن، فأمرت باحتلال تدمر ووفّرت الظروف العسكرية والمعلومات للإرهابيين. وطلبت منهم التحرك في كل الاتجاهات الممكنة لمنع تحرير كامل الشهباء.. كان المطلوب أن تبقى المدينة محتلة، لتبقى الساعة الأميركية منصوبة فوق سورية، فتدوم الأزمة إلى حين تنفيذ أبعاد اللعبة الأميركية.
ولأن الأمر لم يَجرِ كما تمنّته واشنطن، فإن البيت الأبيض الأميركي مرغم على إيقاف «ساعة الموت» عند الحدود التالية: الاعتراف أن الدولة السورية بقيادة الرئيس بشار الأسد هي معطى أساسي ودائم في كل مفاوضات، والتوقف عن معزوفات إسقاط الأسد التي لا يزال الرئيس المغادر الفرنسي هولاند يقولها ويبدو واضحاً أنها لازمةٌ فولكلورية تثير ضحك مَن يستمع إليه، ويريد منها إرضاء السعودية.. و«إسرائيل».
وأخيراً يجب على واشنطن الإقرار أن ساعتها تعطلت في سورية، ولم تعد تسير إلا حسب الساعة العربية السورية المنضوية فوق الشام منذ 1970، تاريخ انتصار الثورة السورية بقيادة الرئيس الخالد حافظ الأسد على القوى الرجعية والأميركية وجماعات الأعراب والردّة.