قصر آل الدرويش التاريخي في زفتا… شاهد على العصر
تحقيق: علي بدر الدين
أدى اكتساح الإسمنت للمساحات الخضراء وللبيوت والقصور التراثية إلى ردّة فعل عكسية من أصحابها على الذين يبحثون عن الربح المادي ولا شيء غيره ولو كان على حساب التاريخ والتراث. وما يرمز إليه من حضارات وقيم ومعان لها مدلولاتها ورمزيتها التي تسجل اللحظة التاريخية بأوجهها المختلفة لدول وشعوب مرت في أزمنة عابرة بحلوها ومرها وبقسوتها وانتعاشها وهي التي تعرّضت لغزوات وحروب مدمّرة واحتلالات وانتدابات بانتصاراتها وانكساراتها وتركت آثاراً وحكايات وبطولات وأمجاد تتناقلها الأجيال وتتباهى بما أنجزه الآباء والأجداد، الذين أثروا عصوراً وحقبات وخلفوا بصمات تبقى الشاهد الأبدي الذي لا يمكن محوه أو طي صفحاته بأبيضها وأسودها، بفرحها وحزنها، مهما أوغل التجار الجدد وحديثو النعمة والثراء في استئصالها أو محاولات اجتثاثها من أصولها وجذورها، لأنها ستبقى حية في الذاكرة وفي بطون الكتب، حتى لو تكدّست هياكل الباطون لطمس معالمها، وستبقى لها مكانتها وصورها المشرقة والمضيئة في كلّ مكان وزمان ولا يمكن لآلات الدمار أن تلغي أثرها أو تدفنها في غياهب النسيان.
وهذا ما يفسّر العودة إلى التراث وإحيائه وعدم الاستهتار به مهما كانت الإغراءات ووسائل الترهيب والترغيب على أصحابها الذين رفضوا بيع تاريخ وإرث أجدادهم ولم ينجرّوا إلى الانغماس في ما يسمّى بالحداثة الإعمارية الملغومة التي تبغي هدم الماضي وزواله بحثاً عن الثراء الفاحش من خلال تعميم ثقافة مزوّرة لبناء مجمعات سكنية ضخمة أو أبنية شاهقة وبناء قصور وفيلات عملاقة للدلالة على غنى أصحابها لاعتقاد البعض المغلوط أنّ ما يقدمون عليه يساهم بطريقة أو بأخرى في رفع مستواهم الاجتماعي ويعطيهم هيبة مفقودة يبحثون عنها مهما كلف الأمر.
أو ربما تحويلها إلى مشهد اعتباري قيمي ولكنه لن يخلدهم في صفحات التاريخ وفي ذاكرة الأجيال، على عكس ما تركته الأجيال التي سبقت من إرث وتراث أغنى المجتمعات بجمالياته وروحه إنْ على مستوى الأدوات والأشغال الصغيرة بحجمها والكبيرة بمدلولاتها ونوعيتها، أو من خلال البيوتات والقصور التراثية التي ظلت على مرمى العين والقلب والذكرى الطيبة حتى لو حلت مكانها الأبنية الشاهقة والقصور الفخمة التي تفتقد الروح والحياة وإلى انعدام تأثيرها أو خلودها ومن أجل التعويض عنهما نرى أصحابها يبحثون عن كلّ قديم مهما صغر حجمه ويدفعون للحصول عليه أموالاً طائلة ليزيّنوا به حدائق قصورهم وغرفها وقلما نجد قصراً يخلو من إرث وتراث الأجداد اليدوي والحرفي الجميل والمتقن بأيادي العمال والمهرة والفلاحين. ولا غرابة في أن يبقى مثلاً قصر آل الدرويش في بلدة زفتا الجنوبية متربّعاً على أعلى تلالها منتصباً كالطود الشامخ متكئاً على تاريخ حفل بالصراعات والحروب والنزاعات والانتدابات، ومنه كانت تصدر الفرمانات والتعيينات وتعقد التسويات.
هذا القصر الشاهد على عصره لم تنل منه الحروب والاحتلالات، ولا الطبيعة، وقد مضى على بنائه ما يقارب الـ 110 سنوات وصاحبه حسين بك الدرويش الذي تولى مناصب عالية إبان الحكم العثماني وحقبة من الانتداب الفرنسي ما بين 1917 1926.
هذا القصر التاريخي في زفتا هو الشاهد الوحيد على عصره وعلى التاريخ، وقد رفض ورثة حسين الدرويش بيعه أو التخلي عنه رغم الضغوط والإغراءات المالية. وهو انتقل بالوراثة إلى نجله بهجت ثم حفيده حسين بك الدرويش الذي ظلّ العين الساهرة عليه ولم يفرط فيه رغم كلّ ما تعرّض لضرر بفعل الحروب والزمن وتغيّر الطبيعة.
والوصية المدوّنة تقضي بالمحافظة عليه وعدم بيعه ليبقى إرثاً لأجيال العائلة المتعاقبة التي ما زالت تحمل اسم الأجداد والآباء كعربون وفاء والتزام بالوصية الوثيقة والتقيّد بمضمونها وفق ما ذكر صاحب القصر الحالي حسين الدرويش، ورغم صمود هذا القصر الذي استمرّ بناؤه ما يقارب خمس سنوات 1900 1905 إلا أنّ حريقاً تسلل إليه في عتمة الليل وأطبق بقسوة على غرفه ومحتوياتها من أثريات وتحف نوعية مميّزة ونادرة تعود إلى حقبات مرت من الاحتلالات والانتدابات التي شهدتها المنطقة على مدى قرن ونيّف، حريق ليلة القبض على القصر كان كافياً لإتلاف معظم المحتويات من صور ووثائق ومستندات ولوحات ومقتنيات فخارية وخشبية وغيرها الكثير من المقتنيات التي لا تقلّ أهمية، وقضى على حلم المئة من الحفاظ عليها وعلى القصر التاريخي التراثي بامتياز الذي ظلّ عصياً وصامداً في مواجهة كلّ الغزوات والاعتداءات الإسرائيلية وقبلها العهد العثماني وبعده الانتداب الفرنسي، وكان صاحبه الحالي حسين بهجت بك الدرويش يعيد ترميمه بعد كلّ هزة أو انهيار يحصل جراء أيّ عدوان أو بسبب عامل مناخي.
قصر آل الدرويش لا يزال منتصب القامة، لا يؤثر فيه عامل الزمن ولا تهز بنيانه الحروب وعهود الملكية والإقطاعية والانتدابات والاحتلالات، مسكون بحكايات وأحداث محفورة على جدران غرفه العشرين أو مركونة في زواياها وفي باحته الواسعة وحديقته الغناء حيث تبلغ مساحة البناء 500 م2.
تكمن أهميته أنه كان مركز القرار السياسي والإداري والإقطاعي على مدى سنوات الحكم وحقبة الانتداب الفرنسي حيث تولى صاحبه حسين بك الدرويش الأول مناصب عالية ما بين 1917 1926 ومنها مدير ناحية إقليم التفاح، وكان مركزها بلدة جباع عام 1919 بقرار من حاكم لواء صيدا الفرنسي. ثم عيّن مديراً لناحية تبنين، وفي عام 1922 عيّن مديراً لناحية الشقيف بقرار من متصرفية لبنان الجنوبي، وفي العهد التركي كان واحداً من أبرز إقطاعيّي الجنوب.
هذه المكانة السلطوية والإقطاعية والإدارية لحسين الدرويش حوّلت قصره في زفتا قبلة للكثير من قادة ذاك الزمان وملتقى وملاذاً لهم وفيه كانوا يحطون رحالهم ومنه يصدرون أحكامهم ويناقشون أمور مديرياتهم ونواحيهم الجغرافية.
هذا القصر المهمل من الحكومات ووزارات الثقافة المتعاقبة بل من هيئات وجمعيات ومؤسسات تعنى بالتراث كان شاهداً على حقبة سياسية تاريخية مهمة سبقت إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 وما تلاه من أحداث فضلاً عن أهميته التراثية والهندسية والجمالية ما جعله من القصور التاريخية النادرة والفضل في المحافظة عليه يعود إلى حفيده حسين بهجت الدرويش شكلاً ومضموناً ومحتويات، غير أنه أعاد ترميم أجزاء منه عام 1988 بإشراف مهندسين على مستوى عال في فنّ العمارة.
ومن مميّزات القصر أنه يشبه المتحف لما يحتويه من غرابة وندرة الموروثات والأثريات ذات النوعية المميّزة، ففيه أثاث عتيق فخم وفخاريات وبنادق وخناجر نادرة الوجود ومعصرة زيتون حجرية تتربع وسط الباحة وغيرها من الأثريات النحاسية والمعدنية والحجرية والخشبية التي تأنس بها العين وتنطق بأحداث التاريخ وحضارات الذين عبروا هذه المنطقة وتركوا خلفهم آثارهم التي تدلّ عليهم.
اللافت في القصر أنّ العلم التركي المحفور على حجر صخري يعلو المدخل لا يزال ثابتاً في مكانه لم تقدر عليه عقود من الزمن أو أيّ عوامل أخرى من انتزاعه أو سرقته مع أنّ آثاراً مشابهة سرقت وجرى بيعها بأسعار زهيدة لهواة جمع الآثار ولا يخفى أنّ هذا العلم المركون المنسي هو ذكرى مؤلمة لعهد ظالم ولى إلى غير رجعة.
إنّ فرادة هذا القصر الهندسية والتراثية والتاريخية حفزت الكثير من المخرجين والمنتجين اللبنانيين للاستفادة منه في كثير من أعمالهم الإخراجية والمسرحية والتمثيلية. وللشعر أيضاً مكانة خاصة حيث علق بعض شعراء الجنوب قصائدهم على حوائط غرفة الضيوف في القصر ومنها أبيات شعرية في القصر تقول:
حسين بني الدرويش قد أنشأ منزلاً
وقد كان درويش إلى المرتجى أبا
وما هو إلا درة الكرام التي
عليها لسان المجد يغني طربا
أدِمه إلهي للمسرّة والهنا
يحف به سعادة شرقاً ومغربا
يقول لمن وافاه تشرف مؤرّخاً
وأهلاً وسهلاً بالضيوف ومرحبا
هذا القصر الذي تحوّلت سقوفه الخشبية رماداً وتحطم قرميده العتيق وترمّدت محتوياته لم يجد من ينقذه من الاندثار والاحتضار ولا من يعيد إليه مجده الغابر ويرفع عنه غبار الإهمال المزمن، ويمسح عن جدرانه التقصير والعجز وقلة الحيلة سوى الوريث الحالي حسين الدرويش ونجله بهجت.
كان على وزارة الثقافة أن تتحمّل مسؤولياتها وتتطلع إلى الأطراف والمناطق اللبنانية المختلفة التي تختزن ذاكرة لبنان تراثاً وتاريخاً وحضارة حافظ عليها اللبنانيون وكانوا حرصاء عليها أكثر من الدولة ومؤسساتها وجمعياتها الأهلية. فهل من يسمع ويحترق قلبه على احتراق القصر؟ أم انّ الغرق في وحول الطائفية والمذهبية والمصالح السياسية أعمى البصيرة والبصر؟ وبما أنّ الجرح لا يؤلم سوى صاحبه فإنّ المؤتمن على هذا القصر التاريخي قد باشر بترميمه بإشراف نخبة من المهندسين المتخصّصين وبتكلفة مالية ضخمة بغياب وزارة الثقافة والجمعيات التي تدّعي رعاية التراث وحمايته.
وقد شارفت أعمال الترميم والتحديث في إطار المحافظة على طابعه التاريخي على الإنتهاء، وقد تمّ اختياره من ضمن بيوت الضيافة التراثية والسياحية التي شهدتها بعض المناطق اللبنانية على أن يتمّ افتتاحه في نهاية العام المقبل بإشراف الحفيد الثالث لصاحبه الأساسي حسين حسين الدرويش.