من نبع الرغبة تولد الحكايات ليلة الأعياد
آمنة بدر الدين الحلبي
ربع قرن ونيّف وليالي الفراق القاحلة تحيط بمفاصل جسدي على امتداد الأيام التي عشتها منكَ وإليكَ، ورياح الخماسين تعصفُ بروحي مثل غريقٍ يتعلق بقشة، بعدما ثَنَيْتَ عِطْفَك مكرهاً، وتركت البعد يحضنني لأعوام خلت.
وصمت العالم من حولي، ليقابله عويل في داخلي يتحوّل شوقاً هاجعاً في أعماق كياني، ينطلق مع تراتيل الكنائس كي يستقبل عاماً جديداً معبأ بالفرح ويمدَّ موائده على امتداد ريح الحياة، فزحفتُ على رصيف الركام كي أزخرف شجرة الأيام لعام يدقُّ أبواب روحي بالحبّ والمحبة، ويزرع ياسمينة العشق كي نستظل بها بعيداً عن عيون المتلصصين حين نمارس لغة الحب معاً، فاسْقِنْها رشفة مقدسة من كأس معتقة.
أحاول أن أسدلَ الستار على مرارة الأمس، كي أعيد ما سرقته الأيام منّا وأرسم الليالي التي لم أعشها معكَ بعدما ربَتْ محبتكَ في قلبي، وأنْبتَتْ حباً وعشقاً، وأزهرتْ ياسميناً لنعطر ليالي الأنس ونقرعُ الأجراس لعام جديد يحمل بين طيّاته أحلاماً لحبٍ يُشعلُ روحي في غوايتها، ويوقد القلوب بالمحبة ويبقى فوق الماديات واضحاً كالشمس.
جمعتُ رحالي وامتطيتُ صهوة الريح، كي أكون بين أحضانكَ، وأنزعُ ثوب الحزن الذي استمرّ ودقُه ست سنوات ونيّفاً. هكذا همست ليَ العرافة حين غاصت في قعر فنجان قهوتي التي كثّفتُ بُنَّها ورشفتُ حنينها بأنكِ قيد انتظار لأيام جميلة تحملُ معها الفرح وحياة تعجُّ بالعشق الجميل، والحب الأجمل.
كانت رياح المهداج حنونة. وهي تحملني إليكَ في ليلة المحاق الذي يستعدُّ لمخاضٍ عسيرٍ، كي يطلَّ هلالاً من بين همس الغياب حين تستقبلني وتحييّ الشوقَ في مرايا الروح التي تنتفض من بين سويعات الليل.
كلما اقتربتُ من سماء الشوق ألامس قلبك، ازداد تناوحُ الريح من كل حدب وصوب حاملة معها أنفاس الحياة وعطر الياسمين، وريحكَ.
جاءني الهاتف يعتقلني بريح الصَّبا، كي تمنحني الحياة لأكون في قلب من أحببت. وحين وصلت مشارف القصر تُخمتُ برائحة الياسمين، الذي ضم فضاء الكون، فأخذني الفضول للمسير نحوه، وإذ بحورية الليل تتدثر بزهر الياسمين، وتجدلُ شعرها بأغصانه، أخذتها الحيرة كمن يبحث عن خلٍ وفيٍ في تلك الليلة كي تشي له بأسرارها.
قالت: سريانية أنا كنت أنتظره على جناح غيمة لأملأ الأقداح وأسقه نخب عام جديد، وأسمع كركرات الكأس في الثانية عشرة بعد منتصف الشوق.
قلت: من أنّى لك هذا العشق الذي هب مع ريح البليل ولثم بنداه وجنتيك.
قالت: ما زال بين ضفتي القلب يراوح، فهل يملك النهر تغييراً لمجراه.
قلت: انزعي ثوب آلامك وارتدي أحلامك الوردية، وغردي مع النوارس التي عادت لأعشاشها منتصرة في هذا القصر الجميل، وقدمي لهم كؤوس الفرح في عيد الفرح، لنقيم أفراحنا سوياً.
صمتت وآهة خرجت من صدر عاشقة كادت تبحث عن صدر حنون تسند رأسها وتعيد ما أفسدته غربان الليل.
قالت: كيف أنسى مَن في الجفن سكناه، وفي الروح مجراه، كلما سألته عن الحب؟؟
قال: من نبعِ الرغبة تولد الحكايات ويورقُ الحنين، ويتّقدُ الحب تحت أشجار الياسمين.
قالت: ريح الصَّبا تهب من الشرق، وأنت مستوطنٌ في جنوب الحياة.
قال: حملتني الذاريات إليكِ كي أسرقكِ من غربةٍ صخرية جدرانها هشة، واتكأتُ على الحاملات لأطفئ عطش السنين، وأمدَّ لك مائدة الفرح عربون وفاء في أنحاء القصر، وليشاركني نشوة الفرح كل أرجاء المعمورة، حاملاً معولي كي أزرع لك بذور المحبة التي ستضمك بين جناحيها كأغمار الحنطة وتدرسك على بيادرها فتحيي الشوق في عمري، بهمس حصادها اليومي.
قالت: وصلتَ متأخراً بعد أن تداعتْ أركان القصر، وسرقتْ غربانُ الليل ذكريات حبنا.
قال: كنت مشغولاً بحياكةِ ثوب السماء، كي يهطلَ هتَّانُها بلسماً للجراح، ويمنحُ شفتيك وهج الحياة، كي أرتشفَ منها عبق القهوة.
قالت: ارتق ثقب قلبي الذي نخره الوجع، ولفني بوشاح الحياة، المزخرف بنجمتين خضراء اللون، إن كنتَ تُحبني.
قال: أنا لا أحبكِ لأنني أحتاجكِ، لكنني أحتاجكِ لأنني أحبكِ.
قالت: ابق جانبي ودع الحياة تهبُّ من مراقدها في مفاصلي، ودثِّرني بشفتيك حين تُقرع الأجراس مهللة برحيل الحزن.
قال: الحزن سيرحل رويداً رويداً، وسنعيد الفرح بسواعدنا، وسنبني ما أفسده البغض الذي تكلَّم عنه جبران خليل جبران «البغض جثة هامدة فمَن منكم يريد أن يكون قبراً؟».
وصمتت يلوِّح الحزن مُحيّاها وهي تتمتم معاً سنقرع الأجراس ليلة العيد.
قلت: أجل معاً سنقرع الأجراس في قلب القصر، ونمدُّ موائد الفرح لأعوام مقبلة، وسنرتل آيات سريانية من حبٍّ ومحبة.
قالت: لكنه لن يأتي تلك الليلة لقلب القصر وسيبقى على سفوحه خوفا من عودة الغربان.
قلت: دقي طبول الفرح كي يسمع كل عاشق، واقرعي أجراس الحياة بسمفونية العام الجديد لنعزف على كرات الثلج، إنه العيد هلّ يحمل الفرح ويوزعه على كل حبيب قلبه قُدَّ من عشق، لتولد الحكايات من نبع الرغبة في يوم العيد.