المثقف واحد… وإذا تعدّد خان لتكن سنتنا: بعد الانتصار… ما العمل؟
عادل سمارة
استعيد هنا عبارة قلتها في تكريم اتحاد الكتّاب في الأرض المحتلة لعدد من المثقفين وكنت أحدهم: «يتمترس المثقّف وراء وعيه كما يتمترس المقاتل وراء سلاحه». لذا، ليكن شعارنا اليوم: «بعد الانتصار… ما العمل؟».
ولكن، لماذا يكمن هذا خلف وعيه وذاك خلف سلاحه؟ أليس مقاومة لقمع السياسي؟
لذا، كان يجب على القناة أن تطرح للتشريح الخاصرتين الضعيفتين في عالمنا العربي: السياسي والثقافي، تحالف الطابور السادس الثقافي مع السياسي ومن يقفوا ضدّهما. اقتصر النقاش على نقد المثقفين، لا بأس. لكن اللغم، وفي تلك القناة ألغام عدّة لما يُقارب تحولها إلى حقل ألغام، كان المديح لمثقفين مارسوا الردّة والخيانة للأمة! من دون أيّ إشارة إلى خيانتهم؟ ترى، هل جاء ذلك صدفة! وهل تجنّب نقد الأنظمة السياسية بالأسماء صدفة؟
بدايةً، لست بصدد الحديث عن «الميادين»، فكما يبدو أضحت أوضح كثيراً، وهذا في صالح الطبقات الشعبية التي علينا حتى قبل الانتصار في سورية أن نستعيدها. لذا، سأتحدّث عن المثقف والوطن في حالتين ملتهبتين سورية وفلسطين عبر مناقشة سوري وفلسطيني.
الحديث عن المثقف ممكن وبلا حدود، وحقّ لكل الناس. ولكن الحديث عمّا كُتب عن المثقف يشترط احتراماً لما كتبه هذا أو ذاك من باب احترام القارئ/المستمع واحترام حقّ الكاتب نفسه، سواء كنت معه أو ضدّه.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فالحديث من دون أمثلة يبقى كضرب السيوف في الهواء تلمع وتقطع في الهواء. أي هناك أمثلة لا بدّ من أن تُذكر، وأما ما ذُكر فكان يجب ذكره بأمانة.
هنا نتحدّث عن نمطين من الديكتاتورية الصغيرة في نقدها للديكتاتورية الكبرى أي السلطة/الحكم/ النظام… إلخ.
إذا كان للمثقف من قيمة، فهي بقدر إحاطته بالمرحلة وتحديد موقف منها. وهنا، ولكي أكون واضحاً، أقصد كافة أنواع المثقفين، كافة انتمائاتهم، تبعيتهم أو انتمائهم الطبقي وبالطبع الفكري.
فكل مثقف هو مثقف عضوي لطبقته. مثقف السلطة هو مثقف عضوي للطبقة الحاكمة والمستغٍلة، هو يضيء لها طريق الاستغلال والقمع وصولاً إلى الخيانة كما حال طبقة الكمبرادور في العالم العربي وضمنها طبقة الريع وتمفصلاته الإرهابية.
والمثقف الثوري النقدي المشتبك هو أيضاً ابن أمته وطبقته ونبراس تنويرها.
في حلقة «الميادين» عن المثقفين، ورد ذكر الراحل صادق جلال العظم ولكن بشكل مجزوء. والاجتزاء مجانبة للحقيقة ويفتك بوعي الطبقات الشعبية خاصة.
كان العظم نقدياً وكان فيلسوفاً وكان في فترة ناشطاً. ولكنه للأسف لم يتخلَّ عن جذر أو عرق من التبعية لمثقفي الغرب وبالتالي أنظمته. فقد عجز عن أن يقول لمثقفين ألمان ومراكز أبحاث إنّه في النهاية عربي وإنّ موقفه من وطنه غير موقفهم، وإنّ المسألة القومية في العالم العربي حالة نضالية لأنه وطن تحت عديد الاحتلالات والاستعمار بما فيه احتلال حكام الريع النفطي.
بدأ العظم تواطأه الفكري منذ أكثر من عشرين سنة، حينما كتب يبرّر العولمة بلسان ملتو، وكتبت نقداً له حينذاك كتابي بالإنكليزية «وباء العولمة Epidemic of Globalization»، وقد صدر مؤخّراً بالفرنسية. وقبل أكثر من عشر سنوات حينما ظهر اسمه مع فريق من المثقفين سمّوا أنفسهم «العقلانيون العرب». اسم ينمّ عن فوقية نخبوية غريبة لأنه يحتكر العقلانية فيهم وحدهم .
كنت ألاحظ تغيّراته وأشعر أن المثقف حين يتغير يفقد نفسه، ودائماً أتساءل: هل هناك غير عدم تمثّل الوعي وراء هذا التواطؤ؟
وهكذا كان، حيث انتهى الرجل إلى أن يكون فيلسوفاً طائفياً للطائفيين السنَّة. كان بوسعنا فهم أنه ضدّ السلطة في سورية، ولكن أن ينتهي إلى طائفي!
وقبل ستّ عشرة سنة، التقيت الطيّب تيزيني في محاضرة مشتركة في جمعية مناهضة الصهيونية والعنصرية في عمان، وفوجئت بطروحاته الليبرالية بِاسم التنوير. طبعاً، كان من قبيل الأدب ألّا أردّ عليه. وما أن بدأت الحرب على سورية حتى تضاءل، وصار من تلاميذ عزمي بشارة ومستمعيه في الدوحة، وانتهى طبعاً مرتدّاً على ما كتب وعلى سورية، وفي لحظة إحراج بكى على الشاشة.
كما ورد اسم الراحل إدوارد سعيد في الحلقة المذكورة على «الميادين» وبدرجة كبيرة من التبجيل ولكن من دون نقد قط!
طبعاً، يذكر كثيرون من الناس أن إدوارد سعيد بدأ يمينياً وانتهى يمينياً، ومثقّف عضوي لرأس المال. وفي هذا هو متّسق مع نفسه. وبدأ ضدّ الكفاح المسلّح وحمل رسالة من سايروس فانس إلى عرفات لأجل التفاوض. وانتهى مع التفاوض مع الصهاينة حتى رحل. وحينما رشّح عزمي بشارة نفسه لعضوية «الكنيست» ورئاسة وزارة الكيان، جاء إدوارد سعيد إلى الأرض المحتلة ليبثّ دعاية لبشارة في مدينة الناصرة.
الطريف أن صادق جلال العظم، كان مِن أفضل مَن نقد ما ورد في كتاب سعيد «الاستشراق» بمقالته المعروفة «الاستشراق معكوساً» حيث نقد قول سعيد: «أنا لا انتحب على تبعية العرب للغرب، ولكن على طريقة معاملة أميركا للعرب».
ولكن للأسف، فإن سعيداً رحل قبل أن يشهد تبعية صادق العظم لآل سعود وآل ثاني وباقي الطائفيين السنّة! لربما كان قد نام قرير العين أكثر.
لفت نظري ما ورد في الحلقة الميدانية قول أحدهم، إنّ المثقف يقوم بتدوير الزوايا! أليس هذا افتئات وعدوان على كلّ المثقفين الثوريين المشتبكبن؟ هل كان هكذا فرانز فانون؟
عجيب، كيف يمكن التوفّر على كل هذه «الجرأة»، بل التطاول على إهانة كلّ المثقفين الشرفاء وأصحاب المواقف! كان بوسعه القول إنه مع مقولة «المثقف الدبلوماسي»؟ أو الانتهازي! هل حفزته الشاشة فانتفخ طاووسياً؟
لكنّني أعتقد أنه كان تحت وحي الراحل إدوارد سعيد، الذي قال بوضوح إنه مثقف انتقائي، ومثقف إنساني ومثقف غرامشي ومثقف متأثر بأدورنو. نعم قال سعيد إنه كلّ ذلك. ولكنني أعتقد أنه لم يكن سوى مثقف انتهازي. فغرامشي مثقف عضوي مشتبك وثوري إلى درجة الموت في السجن. بينما ميخائيل أدورنو مثقف خائن علانية، حين استدعى الشرطة لطلبته في ثورة 1968، طبعاً أدورنو لدى أكاديميين في جامعة بير زيت هو «قدّيس» كما مدرسة فرانكفورت الثقافوية. وطبعاً أيضاً معظم هؤلاء الأكاديميين اليوم في كنف عزمي بشارة في قطر ومن بينهم مثقف وصفني بـ«المثقف الانتحاري». بل هناك مئات المثقفين والأكاديميين الذين كما يبدو كان بشارة قد اشتراهم أو غرّر بهم قبل أن يخون سورية، ولذا، لم يجرؤوا على قول كلمة ضدّه. هناك قاعدة دقيقة: «من لا ينقد المكشوف، يدفعك إلى البحث من أين حصل على ما في جيبه»؟ ومن اللافت، وآمل في أن أكون دقيقاً، أنّ «الميادين» وجريدة «الأخبار» لا تقولان كلمة نقد لبشارة رغم أنه فايروس التخريب الثقافي والسياسي في العالم العربي! فهل نقد «الأخبار» لمراسل «الميادين» هو مناكفة مع «الأخبار». بينما جريدة «البناء» ساهمت طوعاً في تعريف الناس بهذا الرجل الخطير.
أحد المتحدّثين ذكر الدوحة، فأدرك أنه تورّط فلم يستمر! بل أدرك وجوب تدوير الزوايا!
من أطرف تناقضات سعيد قوله: «إنني قلق أيضاً على المثقفين الفلسطينيين والعرب الذين تعقد لهم لقاءات من طراز لقاء غرناطة في أوائل كانون الثاني 1993 من قبل الأونيسكو، الذي حضره لوقت قصير شمعون بيريز وياسر عرفات». طبعاً ذلك اللقاء كان تطبيعياً. ولكن سعيداً كعادته، يرمي جملاً مخلَّعة. فما مصدر قلقه على هؤلاء المثقفين، وهو منذ عام 1969 يدعو ويمارس اللقاءات مع المثقفين اليهود؟
أذكر أنني سألت عزمي بشارة قبل أن ينكشف: لماذا حضرت هذا اللقاء التطبيعي؟ فقال: كي أسمع وأعرف ما يقولون! ومن الطريف أنّ سعيداً اكتسب شهرة في نقده لعرفات، بينما ذهب هو في التطبيع إلى أسوأ مدى! أليست مؤسسة الإعلام الغربية هي التي أبرزت سعيداً وكأنه ضدّ أوسلو؟
وسعيد هو الذي كتب: «أنا آخر المثقفين اليهود أنا يهودي ـ فلسطيني» في محاولة للتفريق بين اليهودية والصهيونية، وهو تفريق مشوّه تماماً كالجمع بين اليهودية والفلسطينية.
وكتب عن رؤيته لحقّ العودة: «إنها إذن قضية محدّدة جدّاً، إذا سألتني بشكل مجرّد، أودّ القول أنا لي حقّ في العودة تماماً كما هو لزميلي اليهودي بموجب قانون العودة الإسرائيلي».
هذا يذكّرني بفريق «صرخة التعايش» مع المستوطنين التي أُحاكَم اليوم لرفضي لها.
ويصل سعيد إلى ما هو أخطر فيقول: «… لقد أيقنت أن العالم الذي نشأت فيه، عالم والدَيّ، في القاهرة وبيروت، والطالبية قبل 1948، هو عالم ملفّق لم يكن عالماً حقيقياً لقد فهمت أنّ دوري هو أن أسرد قصّة الفقدان وأعيد سردها. إن مفهوم إعادة التوطين، العودة إلى البيت، هو في أساسه مستحيل».
وهذا يفتح على انبهاره بالمفكر اليهودي الثقافوي ميخائيل أدورنو حيق يقول سعيد: «رأى أدورنو أن فكرة المنزل ـ الوطن قد تلاشت في القرن العشرين». ولذا كتبت أنّ سعيداً حوّل الوطن إلى مكان. فالمكان يمكن التخلّي عنه، بيعه، تقاسمه مع العدوّ… إلخ.
ينتهي سعيد بما أعجبه في مثقف أدورنو حيث يقول أدورنو: «… المثقف، يراوغ القديم والجديد ببراعة، يحول بوعي دون أن يُفهم بسهولة ومباشرة». وهذا بالضبط ما تفذلك به أحد المتحدّثين بأن المثقف يقوم بتدوير الزوايا! حبذا لو ينزوي أفضل للناس.
لذا حصر سعيد المثقف في الثقافة وأبعده عن السياسة. لكنّه هو نفسه أخضع السياسة للثقافة رغم أنّ التاريخ عكس هذا.
أختم بما قاله أحدهم في الحلقة «الميدانية» من إفتاء وتخريج: «… لم ينجح القطاع العام في أيّ بلد».
عجيب هذا! هو لم يقرأ ما كتبه كثيرون كيف باع مبارك قسراً شركات القطاع العام الناجحة في مشروع نظامه للخصخصة وتبنّي الليبرالية الجديدة. هذا ناهيك عن تصفية القطاع العام في الاتحاد السوفياتي عبر سياسات «العلاج بالصدمة Shock Thereby». لا بدّ أنّ هذا المثقف يدافع عن الثورة المضادّة. أما المضحك فحديثه عن قطاع عام في الأردن! «ول ول ول يا رجل»، ربما لا يوجد في الأردن قطاع خاص. قل على الأقل قطاع حكومي.
هذا إضافة إلى زعمه أنّ المثقف قلّما، أو لا يمكنه، أن يستقلّ من دون الاعتماد على مصدر ما! وهذا في الحقيقة يفتح على مثقّفي الأنجزة «NGOs»، الذين دمّروا اليسار ويتعيّشون على الارتباط العلني بالأجنبي أو النفطي. انظر عن هؤلاء كتابي مثقفون في خدمة الآخر، منشورات مركز المشرق/العامل للدراسات الثقافية والتنموية ـ رام الله 2003 بالعربية .
ليس هذا هو المثقف الذي نريده للعالم العربي. والمهم من هذا كلّه، إذا كان الإعلام سيحلّ محلّ الكتاب، فليقدّم للناس حقائق الأمور، لا نصفها وخاصة نصفها السيّئ والباعث على الإحباط واستدخال الهزيمة. هذا ما يجب أن تفهمه قناة «ميادين الهزيمة»
ملاحظة 1: ما ورد عن إدوارد سعيد هو في مقالي: «إدوارد سعيد، بين ديالكتيك النصّ والطبقة، يغطّيه النقد وتحرجه السياسة ويحاصره الاقتصاد السياسي». في مجلة «كنعان» العدد 149 كانون الثاني 2010، ص ص 84-129. كما قدّمتها للمشاركة في ندوة للجمعية الفلسفية الأردنية.
ملاحظة 2: لم أذكر عدداً من المثقفين/ات المشتبكين، وهم بين صامد وشهيد وأسير ومضطرّ للصمت ومُغطىً عليه. لكن اكتفي بذكر حياة حويّك عطية والشاعر القطري السجين 14 سنة بسبب قصيدة!