أشكال فنيّة تعبّر عن الهول وجسامة الحدث وقوّة الألم
كتب سمير طحان من دمشق سانا : تستضيف صالة «آرت سوا» في دبي إلى الخامس والعشرين من تشرين الأول معرضاً يضم خمسة وثلاثين عملاً نحتياً من آخر إنتاجات التجربة الجديدة للنحات السوري مصطفى علي من الخشب والبرونز. وتحمل الوجوه المنفّذة بالخشب بين عامي 2011 و2012 الألم والحزن والابتسامات الغامضة، الى جانب التفاؤل من خلال ادخال اللون على العمل، فيما تعتمد الأجساد البرونزية المنفذة بين عامي 2013 و2014 في تكوينها وإشباعها على الكتل المكسرة والشظايا التي تلاقت لتكون الكتلة الأساسية للمنحوتة.
ويقدم النحات علي من خلال هذه الأعمال تجربة جديدة مستمدّة من البيئة المحلية والمحيط الجغرافي بالخشب والبرونز، ولكل منهما خصوصية في الأسلوب والرسالة تحت عنوان «مسافة» وبأحجام متنوعة، معتمدا التعبيرية في صوغ الكتل النحتية التي تعبر في مجملها عن المرحلة الراهنة والشرخ الحاصل بين النفس البشرية مع ذاتها، وبينها وبين الآخر.
لطالما امتلك النحات علي خلال تجربته الفنية الطويلة مفاتيح العمل النحتي القادر على حجز مساحة خاصة به في النحت العالمي، من خلال امتلاكه العمق الفكري والانتماء الحضاري لهذه الأرض الى جانب الأسلوبية الحديثة القادرة على التناغم مع التيارات الفنية العالمية الحديثة، بلمسة إنسانية تتخطى جميع حواجز الانتماء الضيق.
عن تجربته الجديدة واعتماده على الجسد والوجه يقول النحات علي: «إن جسد الإنسان ووجهه هما الأكثر تعبيراً عن الحالة الإنسانية والفن إذ يحمل في طياته المعنى والجوهر، وفي كثير من الأحيان أستخدم الشكل للدخول الى عمق العمل وما يحدث من تشكيلات ولعب على السطح الخارجي للكتلة، بالاضافة إلى القيمة الجمالية، فهو ينقل المشاهد الى العمق والجوهر المقصود».
حول تنوع الخامات في أعماله النحتية يوضح علي أن ذلك يدخل في بنية النسيج الابداعي في تجربته الفنية، مؤكداً ان البحث عن الفكرة أو الموضوع الجديدين في حاجة الى الخامة المناسبة لتفرض نفسها، ما ينتج عنه تنوع وانتقال بين المواد والخامات من برونز وحديد وخشب وحجر وسيراميك ومواد معاصرة مثل البوليستر والأكريليك كي تخدم الفكرة وتقدم بالشكل الجديد للمادة حاملة المعنى المراد منها. يقول: «الأسلوب الذي اعتمده في العمل النحتي ينبع من روح التجديد والبحث في آفاق مختلفة، ويأتي الحجم ليحمل الأفكار فيتم إشباع الكتلة بالقيمة الفنية، وينتقل هذا الشعور إلى المشاهد فيمتلىء شعوره وتشبع لديه العين والروح».
يتلمس متابع تجربة النحات علي مدى امتزاج عقله النحتي بالموروث الحضاري، فهو يحاكي تماثيل حضارة ما بين النهرين وحضارات سورية التاريخية ويحوّلها لتغدو متماشية مع المدارس الفنية الحداثية، فشخصية الفنان مثل النبتة، تملك صفتي المحلية والعالمية وهو يأخذ خلال تجربته الفنية من روح المكان. ويقول الفنان الذي صنّف بين أكثر مئة شخصية عربية قوية: «إن التاريخ يدخل في جينات الإنسان الإبداعية من خلال الإرث الحضاري والفكري والمعرفي، كما أن الجغرافيا تحمل بصمتها الى جانب البيئة والمجتمع والناس، ما ينتج في النهاية فناناً ممزوجاً بذلك كله ويشكل عملاً فنياً ينتمي إلى المكان المحلي ومحوطاً بالسمة العالمية».
يرى علي أن للمنحوتة شخصية مستقلة بحد ذاتها وتدخل ضمن السياق العام لرؤية النحات ذات المدى البعيد وتظل مرافقة له كخط غير مرئي يجمع خيوط تجربته، معتبرا أن الإنسان يرى زرقة البحر والسماء والفراغ وفي الوقت ذاته يرى اشكالا تتفاعل معها لتتقاسم في ما بينها ولتشكل خصوصية الفنان وشخصيته المستقلة ضمن السياق العام لإنتاج المرحلة التي يمرّ بها الفنان.
عن الأزمة ومدى تأثيرها على عمله الفني يؤكد علي أنه لم يتوقف عن العمل البتة قائلاً: «كان الحزن والموت والحطام والامل جزءاً من تجربتي الجديدة التي صنعت من خلالها أعمالاً تحمل هذا الهول المتراكم من المستحيل وهو يتحول الى أشكال فنية لتعلن عن جسامة الحدث وقوة الألم». مشيراً الى أن واقع الفن التشكيلي السوري خلال الأزمة هو مرآة للفنانين فبينهم من استمر في العمل فقدم أعمالاً بناء على موقفه مما يحدث، وبينهم من أخذه عمله أكثر نحو العمق، فيما توقف آخرون عن العمل صمتاً وانتظاراً.
ويؤكد علي أن الأزمة ساهمت في التوجه العالمي على نحو أكبر نحو الفن التشكيلي السوري، نظراً إلى تأثير قوة الحدث لدينا على المستوى العالمي، ما لفت الانتباه الى مبدعي الفن السوري، فراحت الصالات تهتم بعرض أعمال لفنانين سوريين في أماكن مختلفة من العالم.
يقول مالك غاليري مصطفى علي للفنون: «إن النحت في سورية بدأ ينهض ويتطور منذ ما قبل الأزمة، فكثير من النحاتين يعملون، سواء في الداخل أو الخارج، وتبقى ثمة حاجة إلى الدعم المؤسّسي للنحاتين الذين يعملون في سورية كي لا يتوقفوا عن العمل. رغم كل الظروف الصعبة، استمرت المؤسسة الثقافية الرسمية في دعم النشاطات والمعارض الفنية، لكن اللافت للانتباه توقف الصالات الخاصة عن العرض عامة، باستثناء بعض المراكز الفنية الخاصة التي استمرت».
حول عمل الغاليري التي يملكها ويشرف عليها، يوضح علي أنها ما زالت مستمرة في النشاطات الفنية من معارض وورش عمل في مختلف الفنون، رغم الصعوبات والظروف، معبّراً عن تفاؤله باستمرار الإنتاج الفني والإبداعي في سورية وعدم توقفه ومعتبراً أن القسوة تصنع أفكاراً جديدة وأعمالاً إبداعية، فدوماً يخرج من الأزمات فن جديد، وهكذا نشأت الحركات الفنية الكبرى كلها.
يتوجه ذو الرؤية الفنية الخاصة ورافض مبدأ الهجرة إلى خارج الوطن، الى الفنانين التشكيليين الشبّان بضرورة البحث والتجريب قائلاً: «ليس عيباً التأثر بتجارب الفنانين الكبار في بداية مشوار الفنان الشاب، بل على العكس، يساعده ذلك في سلوك طريقه وأسلوبه الخاص أسرع وأوضح».