«أبو صيّاح»: أنا سوري قومي اجتماعي… والعروبة ورطة وخطأ كارثيّ في سورية

نضال القادري

أن يترعرع رفيق سبيعي الشاب والفنان في ثلاثينات القرن الماضي في حيّ البزورية الدمشقي إبان الاستعمار الفرنسي لبلاده، ففيه دلالات كثيرة. احتلال للبلاد! وعيب اجتماعي! أراد رفيق سبيعي أن يلمس المحرّم. دخل فيه العيب الفنّي تحت اسم «رفيق سليمان». كان الفنّ وقتذاك عيباً اجتماعياً كاملاً، كذلك كان الرقص، والغناء. الصدفة شاءت أن يحلّ بديلاً ليلعب دوراً كوميدياً عن الأصيل. نجح في امتحان العيب الجميل. وبعدما تعدّدت أدواره الفنّية، في التمثيل والسينما والمسرح والمونولوج. جسّد شخصية «أبو صيّاح»، وقد ضربت شهرته بعدها، فلقّبه الشعب والإعلام بـ«فنّان الشعب».

خلال تكريمه، ومنحه وساماً من حزبه السوري القومي الاجتماعي، قال الرفيق رفيق سبيعي: «وصلتُ إلى سنّ أعرف أنّني قد أرحل في أيّ لحظة. لذا دعوني أوصيكم بسورية خيراً»، قائلاً للحضور: «تحيا سورية». وها قد حلّ قمر الغياب الكبير عن ضفاف الحياة. ولرحيله ألم كبير بطعم المرار.

هو صاحب الطاقة الهائلة، والابداع المتجدّد، وعاشق الفنّ الحرّ. تعملق به الفنّ كمحبّ، ومارسه هو كهاوٍ أنيق عتيق بعيداً عن أضواء الاحتراف الكذاب. كان أداؤه قريباً من القلب، محبّباً وممتعاً، فيه من الشغف ما يساوي برتقالة في يد ولد، وتفاحة كافرة في يد حواء. لكنه أبداً هو «الزعيم» و«أبو صيّاح» و«القبضاي» و«الزكرت» و«المونولجست» والإذاعي والمسرحي. وفي ذلك كلّه، التمدّد والتعدّد الحيّ، كان شاميّاً جميلاً أصيلاً.

ترك «أبو صيّاح» إرثاً كبيراً في المسرح والغناء والسينما والإذاعة والتلفزيون. كانت له أدوار تمثيلية سياسية تحاكي المقاومة ضدّ المحتل مثل فيلم «سفر برلك» مع الأخوين رحباني. وكانت لرفيق سبيعي أعماله الهامة من المسلسلات نذكر منها: «بنت الشهبندر»، «قمر الشام»، «طاحون الشر»، «طالع الفضة»، «أولاد القيمرية»، «أهل الراية»، «ليالي الصالحية»، «مرزوق على جميع الجبهات»، «رقصة الحبارى»، «الطير»، «أيام شامية»، «الخشخاش»، «وادي المسك»، «حمّام الهنا»، «مقالب غوار»، «دمشق يا بسمة الحزن»، «الحصرم الشامي»، «مطعم السعادة»، و«أبو صيّاح الثاني عشر». كما حلّ ضيفاً شرفياً على مسلسلات أخرى منها: «بقعة ضوء»، و«أشياء تشبه الحبّ». وقدّم أيضاً برنامجاً بعنوان «حلو الكلام»، وآخر تحت عنوان «قصص وحكايا». كانت له صولات وإبداعات في السينما نذكر منها: «عملية الساعة السادسة»، «عنتر يغزو الصحراء»، «أيام في لندن»، «ذكرى ليلة حبّ»، «فتاة شرقية»، «سفر برلك»، «بنت الحارس»، «السكّين»، «عشاق»، «زواج على الطريقة المحلية»، «غرام في اسطنبول»، «أهل الشمس»، «أحلام المدينة»، «الشمس في يومٍ غائم»، «الليل»، «صندوق الدنيا»، و«الليل الطويل». كما الكثير من أغاني الإنتاجات التلفزيونية والمونولوج. أما في السنة الماضية، فقد أطلق رفيق سبيعي أغنية تحت عنوان «لا تزعلي يا شام»، كتب كلماتها بنفسه، ولحّنها سهيل عرفة، متمنّياً فيها انتهاء الأزمة والحرب على سورية والسلام لشعبه.

مؤلم أن تفقد سورية من تحبّ، وأن تنكسر نخلة العمر سهواً لمسيرة مناضل من قيراط رفيق سبيعي في عزّ الحرب الكونية على سورية. أيّ «زعيم» للحارات سيوقظنا من غربة الموت، ومن تغرب بدأت تشتاقه خشبة النضال المسرحي والإبداعي. رفيق سبيعي! ها نحن نزرع غيابك كومة من التقدير. عرفناك ابن حياة النهضة القومية الاجتماعية، منتمياً إلى حركة الثقافة والنهضة وبغير أخلاق أنطون سعاده ـ زعيم الحياة ـ ما حييت وأنتجت. اعتدناك رائعاً في حضور متعمم بقامات عزّ ووقفات ثبات. وفي الزمن الشحيح الذي غادر فيه الفنّ مهنته، تبرّأتَ أنت بطهارة كاملة من كلّ أبواق مواخير الدول الهابطة على سورية، والتي وخزت تحت جلود الضعفاء نقمة ونعمة حقيرة، وبين جنباتنا موتاً يومياً أسود، وأحزمة ناسفة مؤمنة بحزّ الرقاب وفنون القتل وطرائقه، وفي جيوبهم كازاً وغازاً ونفطاً، وأموالاً قذرة كثيرة.

رفيقي في الحزب السوري القومي الاجتماعي «أبو صيّاح»، إن تاريخك الفنّي سيكون لنا سفراً كاملاً من التجدّد والإنتاج والعمل، ولحظة حبّ دائمة لسورية التي أردتها أن تحيا في زمن أضعنا فيه صورنا الحقيقية، وأضعنا فيه الطريق إلى قلب سورية التي غرست فينا المحبة. اليوم علّ أرواح الأحياء تحفظ لك جميلاً، أبداً ما بخلت به وزوّدت مساحات الفنّ الحرّ الجميل به. وفي اليوم الذي ستخذلنا فيه أرواحنا المتكاسلة، فإن ياسمين الشام وذاكرتها لن تنزلك عن جواد الوفاء، ولن تنساك «زعيماً» متوّجاً من دون منازعة على كلّ حاراتها.

ابن النهضة القومية الاجتماعية رفيق سييعي «يبقّ» بحصة ما زالت تسدّ أفواه كثيرين من المضللين في عبثهم. لقد فتح رفيق سبيعي باباً واحداً من حارات العقل على كلّ الحناجر التي لم تكسر بعد رهاب الخوف وراهنية العقل حينما قال: «أكبر ورطة تورتطها سورية بتاريخها هي تبنّي الفكر العروبي الوهمي. عشنا كذبة العروبة لسنين ونسينا سورية. كم أضاعت سورية حين تجهالت أنطون سعاده وسارت خلف الوهم العروبيّ».

كم أنت صادق في حضورك، ونقيّ أنت في ماس الغياب! في رحيلك ليت الفنّ يتعلّم «الأكابرية» و«النظافة» و«أناقة الروح» والالتزام، والإخلاص لرائحة الخشبة التي وقفت عليها، وأعطيتها من رئتك كلّ أنواع الأوكسجين، وخبرتها وهي غاية كبيرة في الخطورة. هي تشبه خشبة الحرب التي تقف عليها سورية، ويعاني السوريون من كل ممثليها. وها هو المشاغب «الزكرت» فيك يا رفيقي قد تحسّس أنها صارت أمام ناظريه أرقاً كلّ هذه الأكوام من الأسئلة الضاربة في يومياتنا الشامية وعبثاً وممنوعاً ومستحيلاً.

رفيق سبيعي، يا رفيق الحارات الشامية وسبعها و«زعيمها» الأصيل. هو زمن طويل كنتَ فيه رفيق الشعب، ورفيق الناس، ورفيق الضحكات والفقراء، ورفيق الفرح، ورفيق الصغير والكبير، ورفيق النهضة القومية الاجتماعية، وإنائها الكريم الحنون، و«الزكرت» و«المعدّل»، وشيخ الشباب، وشيخ الأخلاق في العطاء الكبير من أجل بلادك الحرّة الكريمة. إن كلّ القصص التي كنت ترويها على الفقراء، حوّلتنا فيها إلى أطفال حالمين يستمعون إلى زمن جميل طويل تمنّيناه ألا ينتهي. كنتَ زادنا في الأمل، والضحكة التي استرقتها منّا كانت ماسية مثل قلبك الذي تحمّل صعاب المرحلة، وما هوّن علينا مأساة الصعاب سوى ذاك الشغف المليء الماطر بالنصر.

رفيق سبيعي، ترجّل الفارس الدمشقي العتيق «العكيد» بعد رحلة فنية غنية ستبقى طويلاً في الذاكرة السورية والعربية. ترجّل تاركاً جمهوراً مفتخراً به، متمتّعاً بأثره. غادر مسرحه تاركاً سواداً وحزناً شديداً قاتماً حوله. ستفتقدك شامُك، لكنك ستبقى فيها شجرة شامخة، نستظلّ بظلّها ما حيينا. تعلّمنا منك الاجتهاد في الفنّ والتفاني في التجدّد والعطاء. حقاً أنت فنّان الشعب، باقٍ في ذاكرتنا، وصفحتك مضيئة من تاريخنا الفنّي.

في ذات مرّة قال الرفيق رفيق سبيعي: «العروبة ورطة وخطأ تاريخي في تاريخ سورية. أنا سوري قومي اجتماعي، ولا يمكن أن يأخذ العرب مكاناً لهم بين الأمم المتقدّمة. علينا في سورية أن نعطي ونحدّد معنى جديداً للوحدة». تابع رفيق سبيعي: «نحنا انخدعنا بالوحدة العربية، وأنا كنت واحد منهم. وحدة سورية هي الأهم، سورية دائماً رأسها مرفوع. العرب دمى الغرب. لن تكون هناك وحدة عربية ولا من يوحّدون. أنا أعاني من الحالة ومن تبعية العرب أكثر من المرض الذي ألمّ بي. أنا مريض بالعروبة الفاشلة. العرب يهدرون ثروات بلادهم لتقسيم سورية، وهم وشعوبهم أيضاً مشرذمون. وأتمنّى قبل أن أرحل إلى آخرتي أن أرى بلادي مبتسمة فرحةً بنصرها».

يا سيفنا الدمشقيّ العتيق، ستشتاقك ساحات الفنّ مبتسمة. وحارات التجدّد سترفرف فوقها بيارق النصر، وها هم رفقاؤك الذين أحببتهم وأحبّوك في «نسور الزوبعة» وفي كلّ القرى السورية يجتهدون إلى جانب الجيش السوري لتطهير البلاد من إرهاب العرب، بعدما أحرقت ثورة الخونة أبواب سورية.

رفيق سبيعي، اُرقد بسلام الياسمين وفي فيئه، ولا يسعني إلا أن أقول دائماً نحن في حضرة غياب الكبار متساوون. كانت وصيتك أن «بعلم الزوبعة الحمراء دثّروني»، علم الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي قدّس تراب سورية وخلّد دماء شهدائنا في كلّ معركة. وها نحن في الحزب نودّعك كبيراً، ونتقدّم بأحرّ العزاء لابننا الفنان سيف الدين سبيعي، ولعائلتك الكبيرة، ولعائلتك الصغيرة، ولزملائك ولمحبّيك، ولرفقائك بالتعزية، ولهم جميعهم الصبر والسلوان. ودائماً تحيا سورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى