رفيق سبيعي… كفِّنوني بزهر الياسمين بدلاً من نسيج الكتّان
آمنة بدر الدين الحلبي
في أعماق روحي سمفونية حزينة أبت الاحتضار قبل أن ترثي هامة سورية إبداعية قدّمت لسورية الياسمين أعمالاً تقطن حبّة القلب الوردية، ولا تغادر بصائر الروح، بل تسيل مع الحبر على الشريان، وتحيط بمشاعري كغلاف شفّاف، فكيف أسكبها على لساني كالرضاب بغياب من شكّل شخصياتها وشخوصها؟ وما سرح من الروح ترك بصمة سورية بامتياز، وإن أعلن الموت خطف فنان الشعب رفيق سبيعي.
كيف أتنهّد أحداثها وأعيدها عبر دقائق الأثير على مرأى من عيني، لتسعد روحي وهو يُوارى في ثرى سورية العظيمة التي عشقها منذ نعومة أحلامه وما فتئ يباهي في عشقها حتى ذرف الياسمين دموعه، وأعلن حزنه على وداع فنّان الشعب من الطراز الرفيع خلقاً وخُلُقاً في منزله عن عمر ناهز 86 سنة في شام الحبّ.
لم تصدّق أذناي ما سمعت، حتى رأت عيناي ذاك الوداع الموجع والمهيب، تحفّه جموع غفيرة من سورية ولبنان، مردّدين: خسرنا هامة فنية كبيرة تميّزت بالإبداع الفنّي وما أضاف إليها أغنية العشق السوري، تنشرها السكينة، ويطويها الضجيج، وتردّدها الأحلام.
منتصبُ القامة يمشي، في الفجر كان يتلو شرع الغرام لوطن الياسمين على مسامع السوريين، وفي المساء يترنّم بصلاة الشوق للياسمين، وما سرح من حبٍّ ينقشه بصلاة القيام المقدّسة في الشفع والوتر، فأيّ حنجرة تلك التي غرقت في عشق الوطن الأمّ، على أوتارها تسابيح العارفين وأهل الطريق، وبين شرايينها غنجٌ للعذارى، وما بقي على أوردتها منقوشٌ عليه: كفِّنوني بزهر الياسمين بدلاً من نسيج الكتّان.
في أعماقه الدرّ كامنٌ، وفي بصيرته الحكمة، وما حملت جعبته الفنية من سنابل العطاء تكفي لعمر مجتمعٍ على مدار الحياة السورية. حين يتكلّم تبتسم الطلول، وما سرح من همسه على المسارح ترتفع الأزهار ويفوح عبقها، وما ترك من إرث ثقافيّ وفنّي تطرحه الآلهة على مسارح سورية العظيمة، وعبر الشاشات الصغيرة ليصل إلى كلّ فرد سوريّ بعزّة وكرامة، وشموخ.
قدّم أجمل الشخصيات حين رقصت حوله النصوص لتختاره من بين همس الحياة السورية، وأطلق عنان إبداعه في سكينة الليل ليشارك العاشقين إبداعه قبل أن يعانقوا طيف الكرى، وطرح أعماله الذهبية فرآه الكون شامخاً معطاءً على أجنحة الأثير.
هو رفيق اسم على مسمّى للصغير وللكبير، وما بقي بين ثنايا الراء رفعة وعزّة، ليكمل بالفاء فرحاً لمن أراد أن يُثقل روحه في أعمالهم، والياء تحمل دعاء الصالحين حين تتكوّر الحروف ويلهج لسانه: «يا ربّ اِحمِ سورية، من حفلات الدماء التي حمّل مسؤوليتها للعالم أجمع في خطابه الأخير في ضيافة الحزب السوري القومي في لبنان لأنه ابن سورية أولاً وثانياً…. وعاشراً، أما القاف فكانت قاب قُبلتين أو أدنى من التراب السوري كي يوارى في الثرى لتعلن الوداع الأخير.
كان مسكوناً بالوطن، يناديه بين سويعات الليل، وما بقي من حنين يرخيه على شفاه الورد حين ينفقع الندى ليزيح غبش الفجر، ويرحل كرى الليل قبل أن يُثقل عينيه، ليبدأ يومه عطاء لا حدود له، متناوحاً بين خشبة المسرح والشاشة الفضّية، وبرامج لا حصر، وما سعى إليه رفضه الكامل لتلك الحرب القذرة التي حرقت الحجر والشجر والبشر أعلنها بجرأة المناضل من خلال مشاركاته الداخلية والخارجية المتعدّدة، ولم يتوانَ لحظة واحدة ليعلن « إنّ سورية بلد الحضارة والثقافة والفنّ والإنسانية والمحبّة، وهي بلد التنوّع والتعدّد، حيث عدد من الشرائح الاجتماعية والأطياف تتّحد على المحبة والإخاء القومي».
الفنان رفيق سبيعي من أعمدة الفنّ السوري، ترك في نفوس محبّيه رسالة مُذهّبة بعشق سورية على الساحة الفنية التي شهدت وشهادتها حقّ أنه فنان الشعب بامتياز، ومن مؤسّسي نقابة الفنانين والمسرح القومي والتلفزيون في سورية، وضرب مثالاً في الوفاء والإخلاص لأرض أنجبت المبدعين والمفكّرين وما زالت ولّادة لإنجاب الشرفاء كي يتابعوا السير على نهج أنطون سعاده، الشامخ في ثراه، القويّ في فكره، الواثق ممّا تركه لسورية الياسمين ولعشاق سورية الحضارة.
مهما نثر قلمي من إبداعات فنان الشعب رفيق سبيعي، ومهما ذكرَ من مآثره المتعددة، لن يفي حقه، ذلك النجم هبط من علوية الحياة لينير سماء سورية بفكره وعشقه وشموخه وعزّته وكرامته وانتمائه إلى مهد الحضارات، سوريّ بامتياز حين حصد وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة من الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد.
إنه فنان الشعب تمايل على المسارح فزيّنها، وتنفّس الهواء السوري فعطّره عشقاً، وضمّه الكرى فانتبه لعيون الليل وطلب اليقظة كي يحدّق في عيون النهار ليعلن الانتماء السوري قلباً وقالباً، مدافعاً عن كلّ شبر من الأرض السورية، رافضاً لتلك الدماء الطاهرة التي انهمرت أنهاراً وشلالات في شوارع الوطن أعلن عليها العشق الوطني قولاً وفعلاً، ووضع بصمته على كلّ عمل فنّي: «أنا سوريّ الانتماء أولاً وثانياً… وعاشراً. مؤمن بقضيتي ورافع رايتي، إليكم هويتي ووصيّتي: سوريّ الانتماء سوريّ الهوى، أوصيكم أن كفّنوني بزهر الياسمين بدلاً من نسيج الكتّان».