«الذئاب لا تنسى»… أحزاننا حبيسة الذاكرة لا يبدّدها النسيان

اعتدال صادق شومان

اسمحوا لي أن أبدأ مقالي مع قصّة الهدية التي تلقّيتها من صبيّة جميلة شاءت الصدفة أ تضعنا في خانة اللقاء على غير موعد. وقد اختارت لمناسبة الأعياد أن تهديني كتاباً للروائية لينا هويان الحسن «الذئاب لا تنسى»، ولم أكن قد قرأته بعد رغم صدوره العام المنصرم. في الحقيقة، هالني أن تهديني تلك الصبيّة كتاباً يتصدّر «الذئب» عنوانه، بما هو معروف عنه كحيوان قاتل مسعور ومرعب، نظراً إلى الظروف الملتبسة وغير الحميدة التي التقينا بها، حين «اقتحمتُ» في ثورة غضب «مطرحاً» بغير وجه حقّ، وليتني لم أفعل وقد فعلتها لسوء تقدير منّي أو إقرار. على اعتبار أن الأمكنة والمطارح تبقى ملكاً لنا لا تبارحنا أو تغادرنا، أو تؤول إلى غيرنا، على حين غرّة من عهودها لنا. وما لا تدركه الصبيّة أن «ثورتي» لم تكن لولا نوازع جرح عميق لم يجد سبيله إلى النسيان أو حتّى الشفاء.

بطبيعة الحال، نالت تلك الصبيّة نصيبها بعضاً من رذاذ غضبي، في لحظة لم تكن من حُسن طالعها أبداً. وطبعاً لم أكن في أحسن حالاتي. لهذا، تلقّيت الهدية بقلقٍ يشوبه الفضول وتكتنفه الريبة من كتاب عنوانه «الذئاب لا تنسى»، تخوّفاً من مقاربة لن تكون في صالح… «الذئب»!

لكن، سرعان ما هدأت مخاوفي حينما طالعت الكتاب في سطوره الأولى، ليتبيّن أن الذئبة في الرواية «تعوي وتخوض المعركة الأشرس مع حزنها… تعيش مأساتها من دون إذن تلك المخلوقات الأخرى الهامشيّة»، بحال فقدان وليدها أو ساحتها غصباً، لتدخل الكاتبة متن الرواية في بالغ حزن قد ينسكب على هامة وطن شاءت له «الرايات السوداء» أن تجرحه وتقطّع منه الأوصال والأرحام.

«بتجرّد»، استحضرت الكاتبة السورية لينا هويان الحسن أرواحاً جرفها المدّ الحزين المنسكب على الأرض السورية منذ عام 2011، ليحلّ الوجع في قلوبنا وصدورنا أجمعين، في شتّى مشاهد التغريبة السورية في الهجرة والتشرّد والغرق في البحر، واللجوء والخيام. «الجميع حزانى والكلمات ترتجف على شفاه جافة»!

تبدأ الرواية لحظة نالت الكاتبة حصّتها من الوجع والألم. وقد لامسَتْها المأساة السوريّة كما لامست غالبية الشعب السوري، إذ قُتل أخوها «ياسر» على أيدي المجموعات الإرهابية، فأطبقت الكاتبة على القلم والورق، تفضح أسرار الأحزان كلّها من مخابئها القابعة بين العين ودمعتها، في لحظة ضاقت الأرض برحابها على غفلة من الزمن، فانبجست فيها بواطِنُ الأرض على أديمها. لعلّ الكلمات تُلقي بظلالها فوق قبرٍ انتصبت شاهدته في قلب الأخت المنتحب على مسقط قلب، ومسقط رأس. «ياسر مات، طمأنينتي مجروحة جرحها الخوف من دون رحمة». ومع الإحساس بالعدم والعجز أمام هذا الرعب كلّه وهذا الظلم كلّه في دوامة الحرب اللامتناهية، يصبح الوجع أكثر إيلاماً.

انتهجت الكاتبة في تقديم المشاهد في أحداث الرواية بشيء من التماهي بينهما الكاتبة والرواية ، حيث لا فرق بين وِحشتها الشخصية ومصاب وطن، في اتّحاد للحزن والبوح لتغدو الكلمات مرآةً لمرارة الروح في كلا الظرفين الزماني والمكاني، استناداً إلى ذاكرة صحراوية في تخومها للبادية التي تنتمي إليها الكتابة، حيث تستدعي «وحوش التذكّر» لحكايات أحداثها من عمر الذاكرة، «علّ الورق يشفى قليلاً من الحزن». ولكن، من أين للحزن المتربّع على عتبات الدار أن ينتهي؟ «وطني المنكوب ماضيه المرّ حيث لا مسامحة، لا غفران، قدرنا أن نُقتل بذنوب غيرنا».

«الذئاب لا تنسى»، فاجعة وطن يحتلّ الحزن مساحتها الشاملة في المشهدية الواضحة للرواية، لا استمراءً من الكاتبة للحزن أو إدمانه، أو حتّى خلل عاطفيّ، بل «لأنّ الحزن يلازم أيامنا». فالفجيعة بالوطن والأحبة أكبر من أن نقدر معها على ضبط أرواحنا أو ما تخطّه أقلامنا. زاد من مبلغ الحزن الحضور الطاغي في التقاء عواء الذئب والحزن البشري. «البكاء لا ينتهي والحزن مديد كالعواء»، «بسبب جراحنا الأسوأ والأعمق تنطلق عواءاتنا الأسمى والأفضل»، خصوصاً عندما تستذكر الكاتبة حكايات منذ بدء تكوين الذاكرة حتى أفول التضاريس وناسها بين حاضر وماضٍ كلاهما مرّ وحزين، سواء في زمن الحرب أو في زمن السلم، في عالم بعضه قائم على الخرافات المتخلّفة، والنرجسية الذكورية التي ترسّخت على حساب إنسانية المرأة، فتئنّ «الآبار الرومانية» تحت ثقل أسماء أنثوية: «ونسة الأيزيدية»، «الخاتون عمشة»، والصبية «هدلة»، بوصفهنّ قتيلات الشرف، لا شهيدات الحبّ. وقد تتبدّل الأسماء والأماكن والأزمان والقصص، ويبقى التخلّف وحده «مسترجلاً».

في نهاية المطاف، لأن الحزن ليس أبدياً، والحروب حالة طارئة، لم تقطع لينا هويان الحسن في خاتمة الرواية عهوداً بالنسيان أو بالتذكّر، إنّما أيقنت بالتحليق مجدّداً بحثاً عن ارتفاعات أخرى. «المستقبل فينا»، لتصمت الذئاب عن عوائها الحزين، و«لنترك الميتين ينامون، في الصمت… مأواهم،. فللأحياء أوطانهم، لتنتهي الرواية على رجاء القيامة في بطون وطن لا على تخومه، وعلى حوافي ذاكرة… عبرة للنسيان!

أما أنا، فأودّ أن أنهي مقالي هذا كما بدأته مع الصبيّة «كارول»، وهذا هو اسمها: لأشكرها على الكتاب الهديّة، وقد أيقنت أنها لم تقرأ منه إلا عنوانه… «الذئاب لا تنسى»، وقد وشى بذلك سؤالها لي: «لماذا ارتضيتِ في نهاية المطاف الرقص مع ليلى والذئب، رغم أنك لا تنسين ولا تسامحين؟».

وقد غاب عنها، أو لم تقدّره ـ وعذرها عمرها الفتيّ ـ أنّ الطير المذبوح يرقص من الألم!

وعلى حدّ قول الراوية يا «كارول»: «الذئبة تعوي وتعلن أنها موجودة، وحزنها موجود، ولا تنسى ولا تصفح…».

إنّه عواء الماضي يسمّمنا جميعا في النهاية… أيّتها الصبيّة!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى