«مركب بلا شراع»… أمثولة فطرية الكاتب تُعرّي حرّاس الشعر!
النمسا ـ طلال مرتضى
لو كان الشعر أنثى لثارت واستعصمت: «وامعتصماه… وامعتصماه»!
اليوم، ولّى عصر السيوف، بحجّة أنّ العودة إلى العقل أقلّ خسارة. كيف وقد تجاوزنا عصر المحال، باللامحال. والعقل بالفعل سقط ببهو الكفّ، وصار كالعهن المنفوش؟
ها أنا على مبدأ الشيء بالشيء يذكر، أصرخ بملء جبروت الحبر: أما من مجير للشعر! ما باله صار مثلنا؟ عُصباً وطوائفَ، عُرباً وأعراباً، ومطيّة مشاع؟
أسئلة جمّة تحدّيت بها أنا، أخفّها وطأة، في القراءة، هل يُنَصف قارئ القول أم قائله؟
لديَ من الأسباب ما يجعلني حرّاً حدّ قول الحقيقة كاملةً لا سواها، حين أنصف القول على حساب القائل، وبعيداً عن التحزّب، فالقائل أمامي «س» لأنني لا أعرفه، وكوني بشراً قد تدهمني نوبة خجل تفرض عليّ غضّ البصر، كيف والبصيرة حارسي، وهي تلكزني مثل مهماز مدبّب، ما بالك والشعر زادك والحرف منهل قوتك اليومي.
بعد هذه المقدّمة السفسطائية أجدني في تحدٍّ مع المسؤولية التامة والتي تدفع بي نحو الدفاع عن مكانة الشعر. ما الذي يجري؟ حتى في الجاهلية كان الشعر مقدّساً، ولا يقوله إلا من امتلك نواصيه. الغريب ونحن في قرنٍ صار فيه الكون قريةً صغيرة والسؤال الأخير هنا، ماذا لو أحدنا كتب على متصفّحه عدة كلمات سياسية وطيرها، ألن تقوم الدنيا ولا تقعد؟ أين هم رعاة الثقافة وحرّاس يقينها، وا غيرة الدين، في ما يُكتب ويُطبع اليوم بِاسم الأدب والثقافة. في أيّ عصر انحلاليّ وصلت إليه وزاراتنا الثقافية على مدّ الوطن الكبير، أليس هذا مدّاً جديداً هدفه الأول والأخير تخريب ذائقتنا الثقافية؟ حتى لا أذهب بعيداً في الإشارات.
لعلها المصادفة المئة ومن خلال ممارستي اليومية لتناولات الكتب، وقد ضقت ذرعاً، ما دفعني إلى الكتابة وتحدّي أناي في ما تلمّست، ولن أبرّر صمتي الطويل، ولن أدافع عن صحوتي المتأخرة، ولعلّ تطرّقي إلى منجز جديد ليس كي أصبّ جام غضبي على مجترعه. لكنّ الأثم وحده يعود إلى الجنود المجهولين، الذين دفعوا به من دون تقديم النصح، على الأقلّ عدم منعه من النشر بل التريث إلى أن تنضج ملكة الكتابة لدى كاتبه.
وبالفعل، قد أصابت الكاتبة مقتل من يقف خلفها، حين أطلقت على مطبوعها «مركب بلا شراع»، وهو الحقيقة الوحيدة التي أرفع لها قبعة الحبر عالياً. في الموسوم «مركب بلا شراع» لكاتبته اللبنانية رشا الموساوي، بعض من شجون، بعض من نجوى وشكوى، دوّنتها الكاتبة كما دهمتها حالة وجعها، كأنثى عابرة للحواس، لم تشأ إلا أن تؤرخ هذه اللحظات، ما يجمّلها على الورق بأنها ارتأت أن تتركها كما نقول نحن العوام: «مواد خام»!
تارة تذهب بها نحو غواية الجرس الموسيقي للكلمات:
نعم، كان حبيّ وهماً، وحُلماً من أزهى الأحلام
كان عظيماً وأليماً، ولا بُدّ من أن تشفيه الأيام.
وتارة تلزمها القافية بالردح كي لا تكسر ريتم القول:
الكلماتُ تتشرد بين أوراقي
واللفظاتُ تضيع وسط تأوهاتي… إلخ.
وأخرى تذهب نحو عفوية الكلاسيكي الموزون، لا بميزان الوزن، بل بمبدأ موازاة الشطر الأول مع العجز:
استقبلني الحُبّ بنغمات وموسيقى
وطيّرني الهوى وكرمالك صرت غريقة.
وبعيداً عمّا هو مكتوب وعن آلية الكتاب، أتساءل: مَن أجاز ليوسم المطبوع بكلمة شعر؟
الشعر هو حالة من الشعور، وأنا لا أنفي هنا رهافة شعور الكاتبة، فقلبها مترع بالحبّ الأبيض من الضفة إلى الضفة، وعامر بالصدق إلى درجة التماهي مع الحبيب البعيد، والخائن، والمنافق، والحنون، حدّ وصولها إلى الضياع في الخطاب بينها وبين غائبها، بالقول الفصل:
لا حبيبي، ما نسيتُك يوماً
وما زال الحبّ في قلبي
مقيم
أمّا أنت فقد أدركْتُ أنّك مللتني منذ زمن طويل
لأجل ذلك هجرتُك حبيبي
فحُبيّ لك لا يمكن أن
يغدو ذليلاً.
نعم أنه العشق الجنوني الحقيقي، الذي يأخذ مرتكبه نحو نواصي الضياع، فقد كان هذا الجواب: «لأجل ذلك هجرتك حبيبي». حيث الضياع في المطلع، أما أنت.
بالتأكيد كان التحدّي قوياً، وحافزاً كي أذهب إلى خاتمة المطبوع، علّني ألتقط صورة شعرية مجازية واحدة، استعارة، مضمراً لقول ما، تناصّاً يتيماً أُمنّي به قريحتي، لكن عبثاً.
لقد جعلني إصراري لا أقبل الخسارة، حين استطعت من باب الفضول عدّ مفردة محبّبة لي، كم وردت في مطبوع من «80» صفحة، وهي كلمة «قبلة أو قبلات» وقد تجاوزت «22» مرة، مثل: «أحِنّ إلى قبلاتِك»، «قبلاتك اللاهبة»، «قبلاتك تدغدغ»، «قبلاتك العاصفة»… إلخ.
لعلّ البعض ينظر إليّ بحنق، وبعيداً عن كلّ شيء، أنا أُنزّه الكاتبة من أيّ أثم، وأترك الكرة بمرمى حرّاسها قبلاً.