معركة روسيا المقبلة…

تمردان عبّاس

هي السنوات السابقة لما يُسمّى «الربيع العربي» حين كان الدور الروسي في المنطقة، يلتقط أنفاسه ويتأهّب لاستعادة نشاطه التاريخي، ليس في الشرق الأوسط فحسب، بل في العالم أجمع. في تلك الفترة، تواترت التقارير بشأن نية روسيا العودة إلى الانتشار العسكري خارج الحدود. حينها، كانت ليبيا واليمن وجهة محتملة لرسوّ الفرق العسكرية والقوافل البحرية الروسية.

على الدوام، ثمّة من يذكّر بالألم الذي يعتصر قلب قيصر روسيا، إزاء ما وصفه الأخير، يوماً بـ«أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين» على الصعيد الدولي. فيما يخلع آخرون على أحداث «الربيع العربي» لبوس الكارثة الجيوسياسية لموسكو وإنْ بوزن إقليمي ثقيل، إلى حدّ درجت معه أقلام المحللين على القول، إنّ استعادة روسيا لما خسرته جرّاء أحداث العام 2011، تتطلب عقوداً من الزمن.

اليوم، وبعد مرور أعوام، لا شكّ في أنّ الكثير تغيّر. قد يصحّ القول أننا بصدد الحديث عن المنطقة عينها، التي لطالما بكت موسكو على أطلال «حدائقها الخلفية» فيه وعن الشعوب التائقة للتغيير، ذاتها والمترنّحة في «رقصة موتها المزمن» من تبعية إلى تبعية. فيما تلحّ الذاكرة الجماعية لقطاعات واسعة من النخب السياسية، على استدعاء شيء من «الحنين السوفياتي» في عصر «روسيا بوتين»، التي تفلتت من عقال وعقد الكثير من ماضيها، بنسختيه القيصرية والشيوعية، نحو آفاق واقعية براغماتية أرحب. فما الذي تغيّر؟

ربما يكون المناخ السياسي، أو المزاج «الثوري» المضادّ لمخرجات «الربيع العربي» الذي عاد وطغى على المشهد الإقليمي، تزامناً مع تزايد الطلب على الدور الروسي. قالها الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، العائد بقوة إلى المشهد السياسي بعد تدشين تحالفه مع حركة «أنصار الله»، حين أعرب في آب المنصرم، عن استعداده لتقديم التسهيلات من خلال القواعد الموجودة في مطارات وموانئ اليمن، لروسيا، في مجال مكافحة الإرهاب. وهي دعوة يردّد أصداءها قادة عرب آخرون، مثل «المشير الطامح» إلى الإمساك بالوضع في ليبيا، اللواء خليفة حفتر، برغبة تحاكي ما تقلق بشأنه مصر والجزائر، البلدين الأفريقيين الكبيرين والوافد الخليجي الجديد إلى القارة السمراء، القادم من أبو ظبي.

وإذا كان اليمن لا يستحوذ على اهتمام موسكو، في الوقت الراهن، بعكس «شريكها الإيراني» الذي كشف عن طموحاته في بحره، بعدما تجلّت، بشكل أو بآخر، في برّ «البلد السعيد»، من الواضح أنّ ليبيا تشكل هاجساً حقيقياً تتشاركه روسيا مع بعض لاعبي المنطقة، كـ «المشير» ونظرائه من رجالات الحكم الأقوياء، في جدار تحالفات روسيا السياسي والأمني في كلّ من مصر وسورية واليمن والجزائر، التي حلت قبالة سواحلها في تشرين الثاني المنصرم، حاملة الطائرات الروسية «كوزنتسوف»، أيقونة «الحرب على الإرهاب»، قبل أن يزورها قائد الجيش الليبي قبل أيام.

على ما يبدو، فإنّ «كبوة» روسيا الليبية لن تدوم. والمفارقة أنّ «الحالة الليبية» التي خدمت موقف موسكو لجهة دعم موقفها المتصلّب إزاء دعم حليفها في دمشق، نجدها تستلهم اليوم مجريات الوقائع في سورية، لجهة الحديث عن دخول عسكري روسي وشيك على خط الأزمة فيها.

في حقيقة الأمر ومنذ إسقاط نظام القذافي وما عناه عملياً، من انتهاء النفوذ الروسي في «الجماهيرية»، ما انفكّت موسكو تنتقد ما أسمته المهمة «غير المكتملة» لـ«الناتو» هناك، نظراً لما أسفرت عنه من تشظي المشهدين السياسي والميداني في ليبيا. ومع تكشّف حقيقة الدور «الخفي» الذي تؤدّيه الوحدات العسكرية الغربية، شيئاً فشيئاً على الساحة الليبية، يبدو أنّ اقتحام الروس المشهد الليبي من جديد، مسألة وقت تنتظر اكتمال سياقات الظرف السياسي، التي تتطلب تنسيقاً في المواقف مع بعض الدول الإقليمية. ومع الانفتاح الخارجي الذي يبديه اللواء خليفة حفتر على دول الجوار الليبي القلقة، كتونس والجزائر وفي ظلّ الكلام عن مبادرة عربية بنكهة مصرية، يصبح من الضروري القول إنّ المناورات المصرية – الروسية المشتركة، للتدرّب على مكافحة الإرهاب في بيئة صحراوية قبل أشهر وما أشيع حينذاك، عن طلب روسي لإقامة قاعدة عسكرية بالقرب من الحدود الليبية المصرية، توحي بأنّ المعطيات التي توفرت في سورية، قد تتوفر في ليبيا في القريب العاجل، أو أنها قد توفرت بالفعل، وفق محللين.

اللواء حفتر، أو «رجل ليبيا القوي» وفق مؤيديه. والحاكم المستند إلى «شرعية الحرب» وفق معارضيه، حطّ رحاله في العاصمة الروسية، في كانون الأول من العام الماضي، في زيارة هي الثانية من نوعها خلال عام. وعلى الفور، سال حبر كثير بشأن صيغة «الصفقة» التي يسعى إليها الجنرال، من أجل الحصول على الإسناد الروسي السياسي والعسكري لأجندته، في ما يخصّ الحرب على الإرهاب. علماً أنها أجندة يتفق بشأنها الطرفان. الرغبة الروسية بالعودة بقوة إلى الساحة الليبية، من بوابة رصف بوارجها في بنغازي الليبية وتعزيز وجودها العسكري شرق المتوسط، إلى جانب الظفر بمزايا حضور اقتصادي وتجاري، توفرها الجغرافيا الليبية الواقعة خارج الحزام الأوروبي التقليدي لروسيا، ليست خافية على أحد، فيما يبقى الثمن المقابل طيّ كتمان. خففت من وطأتها تصريحات بعض الشخصيات العسكرية المقرّبة من الدائرة المقرّبة من حفتر، حين تحدّثت عن عملية عسكرية كبيرة وقريبة، سوف يكون عنوانها العريض: مكافحة التنظيمات الإرهابية.

في روسيا، ما تغيّر أيضاً، ليس أقله ما نجم عن حالة التململ التي أعقبت إقصاء موسكو على كلّ المستويات، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لا سيما في المنطقة العربية، إبان اجتياح العراق وضرب ليبيا وغزو سورية بـ»جحافل من الجهاديين». ولعلّ المراقب لواقع حال «روسيا بوتين» اليوم، يجد صعوبة في إدراك الحدّ الفاصل بين أفكار «القيصر» وسياسات البلاد لأكثر من عقد. الأكيد أنّ طروحات بوتين السياسية والاقتصادية ومشروعاته الاستراتيجية الرامية إلى إعادة روسيا إلى سابق مجدها كـ «قوة عظمى»، أثّرت في طبيعة وشكل السياسات الراهنة. هو «الرئيس القوي» الذي يرى محللون أنه نقل روسيا من حكم «القيصر الدمية» إلى دولة «قيصر الشعب». والذي يعتبر أنّ «الشركات الروسية تفقد مواقع عملت من أجلها عشرات السنين، داخل أسواق دول الربيع . ويتمّ تجريدها من عقود مربحة كبيرة في هذه الأسواق»، مثلما حصل في غير بلد عربي كالعراق وليبيا، في وقت سابق وذلك لصالح شركات الدول، التي كانت لها اليد الطُولى في تغيير أنظمة حكم تلك الدول، خصوصا الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين. في هذا السياق، لا يمكن إغفال دور بوتين في إرساء العقيدة الروسية الجديدة، في مجال السياسة الخارجية، أواخر العام الفائت، إذ تلحظ العقيدة أهمية الدفاع عن المصالح الاقتصادية الروسية حول العالم. وتشدّد على ضرورة أن تعمل موسكو على تقديم الدعم للشركات الروسية، لاستيعاب الأسواق الجديدة وتطوير وجودها في أسواقها التقليدية، إلى جانب التصدي لمحاولات التمييز بحقّ المستثمرين والمصدّرين الروس، في الأسواق العالمية وضرب الاستثمارات الروسية، كما يظهر مما جرى في قبرص قبل أعوام قليلة.

لا يقتصر الأمر على روسيا، بل تكاد «لائحة المتغيّرات» تمتدّ لتشمل العالم بأسره، مع تصاعد المدّ اليميني في العالم الغربي، بدءاً بالولايات المتحدة وليس انتهاء بأوروبا، التي يفترض أن يثمر موسم الانتخابات المقبل فيها، لا سيما في فرنسا، عن تغيّرات مشابهة، تدفع إلى تضييق هامش التباينات وتقليص فجوات المواقف بين عالمين لأكثر من مصلحة. وقد باتت اليوم أقرب إلى التركيز على معركتها ضدّ ما يسمّى بـ «الإسلام المتشدّد».

بعد تحقيق المحور السوري ـ الروسي ـ الإيراني «نصره المؤزّر» في حلب، تتجه أنظار المراقبين نحو غرب ليبيا وشرق أوكرانيا، كأحد وجهات النار الروسية المحتملة في الفترة المقبلة. من الآن وحتى قدوم إدارة ترامب، لن يطول الأمر، حتى تُحسم هذه الوجهة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى