آفاق الحرب المكشوفة بين ترامب والأجهزة الاستخباراتية
تسارعت التطورات السياسية في واشنطن وهي تتأهّب لتغيير السلطة السياسية بخروج الرئيس باراك أوباما ودخول الرئيس دونالد ترامب.
المسألة الأهمّ والشائكة الآن هي تقرير الاستخبارات الأميركية حول دور فاعل مزعوم لروسيا في سير الانتخابات الرئاسية الأميركية، وما يرافقه من جدل حادّ واتهامات متبادلة وقاسية للطرفين ضدّ بعضهما.
تجدر الإشارة الى أنّ دخول ترامب الحلبة السياسية وفوزه بالانتخابات الرئاسية لا يزال يُعتبر اختراقاً غير مرغوب به من قبل المؤسسة الحاكمة. أما في مسألة المعلومات الاستخباراتية المتاحة فإنّ ترامب لا يعدّ من «المبتدئين» كونه يتعاطى الملف المعلوماتي بكثافة في حياته العملية، وربما لديه مصادر في مناصب عليا. أما عداؤه القوي لنفوذ الأجهزة الاستخباراتية فهو ما يثير غضب المؤسسات كلها ويؤلّبها ضدّه، خاصة لتصريحاته المتتالية عن إحداث إصلاحات شاملة في عمل بعض الأجهزة، «سي أي آي» تحديداً، ورؤيته بأنه ينبغي على الوكالة المركزية التحلي بمهام استخباراتية صرفة وإدارة شؤونها كأيّ مصلحة خاصة، وتوفير معلومات استخباراتية مفيدة عوضاً عن تقارير الاستخبارات لأهداف سياسية.
هاجس الأمن والقرصنة الإلكترونية
استقرأ مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية أولويات الإدارة المقبلة في الأشهر الثلاثة الأولى لتسلّمها مهامها، وعلى رأسها تعزيز الأمن الالكتروني الذي بالإمكان تطويره «ان استطعنا البدء في مسار تقييم ايّ من الخطوات والخيارات من شأنها فتح باب المخاطر»، موضحاً أنّ عدداً من المهام العاجلة تستدعي التحرك الفوري وهي «هجوم الكتروني التجسّس والأعمال الإجرامية… إذ انّ التجسّس والإجرام يعملان بتزامن دائم اما الهجمات الالكترونية الحقيقية فهي نادرة الحدوث». واضاف موضحاً انّ تصاعد معدلات القرصنة الالكترونية «يعكس كم هي واهية إجراءات الحماية المتبعة في معظم الشبكات والسبل الميسرة لتنفيذ الاختراقات». أما أعمال التجسّس، حسب المركز، فالقائمون عليها «عادة ما تكون أجهزة تابعة لدول معينة او لأعوانها.. وإجراءات الفصل بين العمل الجاسوسي والإجرامي ازدادت ضبابية». وأردف انّ تلك الأعمال المنسوبة «لأعداء الولايات المتحدة الرئيسيين روسيا، الصين، إيران، وكوريا الشمالية… تنفذ تحت السقف المحدّد لاستخدام القوة المنصوص عليه في القانون الدولي بيد انّ الغرض من تلك الأعمال هو إلحاق الضرر بالاستقلال السياسي للولايات المتحدة».
https://www.csis.org/analysis/awareness-action?block3=
وحذر معهد كارنيغي الإدارة المقبلة بأنه يتعيّن عليها المباشرة بتحديد متطلبات إجراءات الأمن الالكتروني اذ انّ «عمليات القرصنة الروسية ينبغي ان تتصدّر اهتماماتها.. خاصة أنّ «فعالية هجمات القرصنة قد تطوّرت على مدى العقدين الماضيين». ومضى في تحذيره من «روسيا التي أثبتت قدراتها في مواكبة، وفي بعض الأحيان ابتكرت، تقنية القرصنة مما يحتم على الإدارة الأميركية المقبلة بذل جهود لتطوير وتطبيق خطة عمل مضادة من شأنها حماية الشبكات الأميركية من المخاطر الكامنة في الوصول للبيانات وعمليات اقتحام الاجهزة».
http://carnegieendowment.org/2016/12/13/russia-and-cyber-operations-challenges-and-opportunities-for-next-u.s.-administration-pub-66433
سياسة الإدارة المقبلة
سلط مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأضواء على المرشح لمنصب وزير الدفاع، جيمس ماتيس، في ما يخصّ أداءه في مجمل قضايا الشرق الاوسط، منبّهاً الأصوات المعارضة السابقة لترشيحه انّ عليها «الإقرار بصوابية وجهة نظر الجنرال ماتيس بتركيز الجهود على التهديد الإيراني وتهديدات أخرى في المنطقة». وأشاد المركز بما اعتبره استراتيجية ماتيس «لإقامة علاقات شراكة استراتيجية مع إسرائيل والدول العربية». واضاف انّ الأوضاع الدولية الراهنة تتطلب من وزير الدفاع الأميركي المقبل «أهمية الحفاظ على شركاء استراتيجيين، استخدام أسلوب الحزم والعمل المناسب سوياً.. وقادر على توظيف وإدارة الطاقات بفعالية».
https://www.csis.org/analysis/iran-mattis-and-real-threat-us-strategic-interests-middle-east
ندّد معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى بما اعتبره سياسة إدارة الرئيس أوباما «انتقاد إسرائيل تحت واجهة الإعلان عن حماية حلّ الدولتين، معرباً عن اعتقاده ان يتمكّن الرئيس المقبل «من تجاوز إخفاق أوباما مع إسرائيل». واوضح المعهد انّ الرئيس أوباما أول رئيس أميركي «منذ الرئيس جونسون لا يحقق ايّ إنجاز او تقدّم باتجاه تحقيق السلام العربي الاسرائيلي… وبتركيز الإدارة على أنشطة بناء المستوطنات الإسرائيلية أثبتت أنها لم تتعلم ايّ شيء تقريباً من خبرتها خلال السنوات الثماني الماضية». واضاف في تهميشه لخطاب الإدارة في أيامها الأخيرة انه «لا يمكن للمرء أن يفصل انتقاد إدارة أوباما لإسرائيل في نهاية ولايتها عن جوانب استراتيجيتها الإقليمية الأوسع نطاقاً: أيّ التحرّر من «مستنقع» مشاكل الشرق الأوسط، وإعادة التوازن بين إيران وأعدائها السنّة اللدودين» مضيفاً انّ أولئك الأعداء يشمل «الدولة اليهودية عدوة إيران». ومضى في مناشدة الإدارة المقبلة اتخاذ إجراءات لتصحيح «العلاقات الأميركية الاسرائيلية.. وإحراز تقدّم في عملية السلام الاسرائيلية الفلسطينية ان سعت لتبني افكاراً إبداعية لديبلوماسية تصاعدية وتفاهمات واقعية مع إسرائيل حول بناء المستوطنات». وذكرت الإدارة المقبلة بأنّ «ضرراً لحق بالمصالح الأمنية الأساسية لاسرائيل في السنوات الاخيرة نتيجة تراجع دور ونفوذ حليف الدولة اليهودية».
http://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/view/can-trump-overcome-obamas-israel-failure
شكك معهد كاتو بقدرة «القوات العسكرية الأميركية حماية منابع النفط في الشرق الأوسط، معتبراً التوصيفات السائدة لوجود عسكري أميركي مكثف «وقدرتها على حماية تدفق النفط مبالغ به». واوضح انّ التبريرات الرسمية لتواجد الأسطول الخامس وقطع حربية اخرى في مياه الخليج «للحيلولة دون قدرة إيران إغلاق مضيق هرمز» أمر غير مؤكد، اذ انّ إيران «وفي غياب قوة بحرية أميركية لن تقدم على تلك الفعلة لكلفتها الباهظة التي لا قدرة لها عليها وما سيرافقه من إلحاق الضرر بمصالحها الخاصة». واستدرك بالقول انّ الاحتمال «الوحيد» االذي يبرّر لإيران إقدامها على إغلاق المضيق هو «انخراطها في لهيب صراع اقليمي والتهديد الذي يمثله لبقاء النظام».
https://www.cato.org/publications/commentary/does-us-military-actually-protect-middle-east-oil
إيران
مناوئو الرئيس أوباما والاتفاق النووي سارعوا إلى إعلان نواياهم «تمزيق الاتفاق»، والعودة لمرحلة العداء والصدام. وتناول مجلس السياسة الخارجية الأميركية ما يخطط له من إجراءات ضدّ إيران في الكونغرس وتوسيع نطاق القانون المعمول به ضدّ روسيا، قانون ماغنيتسكي، الذي جرى تجديد العمل به وأدرج ضمن الميزانية السنوية لعام 2017. وأوضح المجلس انّ للقانون «بعداً أوسع وأشمل مما ينطبق على روسيا.. من ضمنه حظر تأشيرات الدخول، تجميد الأرصدة وإدراج مؤسسات تجارية على القوائم السوداء وإمكانية تطبيقه على ايّ مسؤول رسمي أجنبي «له ضلع في انتهاكات حقوق الإنسان او الانخراط في الفساد». يشار الى انّ تلك الصيغ الفضفاضة للقانون يحيل مسالة حقوق الإنسان الى سلاح تستغله السياسة الأميركية الخارجية. وأضاف المجلس انّ إيران «تشكل حالة منطقية لاختبار فعالية العقوبات الجديدة».
http://www.afpc.org/publication listings/viewArticle/3391
لبنان
اعتبر معهد أبحاث السياسة الخارجية انّ الحكومة الجديدة في لبنان بعد تشكيلها «ستواجه مساراً شاقاً في التوصل لإجماع من شأنه إعادة الثقة بالحكومة وإخراج لبنان من حالة الشلل السياسي وتفعيل الإصلاحات التي تحتاجها البلاد بدءاً بتعديل قوانين الانتخابات وتهيئة للانتخابات البرلمانية المقرّر عقدها في حزيران المقبل». وكان المعهد اشدّ تشاؤماً في مستقبل علاقات لبنان الدولية وما ينتظر «الرئيس الجديد من مهمة التوفيق.. بين حزب الله وسياسة النأي بالنفس الرسمية في ما يخصّ المنافسة الإيرانية السعودية». كما يتعيّن على رئيس الوزراء الجديد، سعد الحريري، اتخاذ تدابير من شأنها «إرضاء داعميه الدوليين وفي نفس الوقت إدراك التغيرات الديناميكية في مراكز قوى المشرق». ومضى مستنتجاً انّ «إعادة ترتيب الأوراق السياسية في لبنان تعكس تغيّرات موازين القوى الداخلية والاقليمية.. والتحدي الأكبر يكمن في قدرته على تفادي هبوب العاصفة الإقليمية».
http://www.fpri.org/article/2017/01/re-shuffling-cards-lebanon-meet-new-government/
التحليل
برزت معالم مواجهة بين الرئيس المنتخب دونالد ترامب وبين الأجهزة الأمنية الأميركية، وتصاعدت حدّتها عقب «ظهور» تقرير في وسائل الإعلام يزعم انّ ترامب قد تمّ تجنيده من قبل روسيا والتي لديها معلومات محرجة جداً حول مسلكه قد توظفها في ابتزازه. ترامب بدوره سارع الى اتهام مسلك مراكز قوى الأجهزة الأمنية «بالمشين».
تضارب الرواية مع السردية العامة وعزوف الأجهزة عن تقديم الأدلة الحسية أسهم مباشرة في وأدها واعتبارها خدعة، مما دعا كبريات الصحف الى رفض نشرها، خاصة صحيفتي «نيويورك تايمز» و»واشنطن بوست»، نظراً لعدم صمود الرواية أمام الحقائق. اما شبكة «سي ان ان» الإخبارية التي روّجت للرواية على شاشاتها فقد نالت ازدراء المراقببين واتهام ترامب لها بأنها مختصة بتلفيق الاكاذيب.
اخطبوط الوكالة المركزية
يعتقد انّ مصدر الرواية الكاذبة اما أحد أو بعض الأجهزة الاستخباراتية، مما سيعرّضها لردود فعل ربما قاسية من الرئيس المقبل، وتوفر له مبرّرات ومنصة انطلاق لاتخاذ إجراءات «إصلاحية» في عمل الأجهزة كافة غلب عليها البعد السياسي وربما الانتقامي.
العارفون بخبايا عمل الأجهزة الاستخباراتية يعتبرون انها بمجموعها تعاني من عقدة نقص «المهمة المستحيلة»، تيمناً بالمسلسل التلفزيزني الشهير بذات الاسم في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم. ركز المسلسل على تكليف ضباط الاستخبارات القيام بمهام استخباراتية معقدة وإنجازها بالكامل. وعليه، ترسخت مفاهيم عامة انّ تلك الأجهزة «معصومة عن الخطأ».
لا يجادل أحد في القدرة والإمكانيات المتطورة الضخمة المتوفرة لتلك الأجهزة، تفاصيلها محاطة بجدار سميك من السرية، أحسنت توظيفها بكفاءة تحسد عليها، لا سيما في مجالات الأقمار الاصطناعية التجسّسية واعتراض الاتصالات بكافة تنوّعاتها، واسترداد غواصة نووية روسية من أعماق المحيط الهادئ. بيد انّ مجمل السجل لا يخلو من اخفاقات بليغة امتدّت لعقود عدة.
واجهت وكالة الاستخبارات المركزية، «سي أي آي» تحديداً سلسلة من الفشل الاستخباراتي منذ نشوئها كانت بالنسبة لها «فضيحة بجلاجل». أبرزها عملية العدوان على كوبا الفتية بعملية خليج الخنازير، محاولات متواصلة فاشلة لاغتيال الرئيس الكوبي فيدل كاسترو، تخبّط الوكالة في حرب فييتنام، فشلها في عدم التنبّؤ بالدخول العسكري السوفياتي إلى أفغانستان، الفشل المميّز في عدم صوابية رؤيتها لمصير شاه إيران والإطاحة به، قصف معمل الأدوية في السودان، ما ينسب لها من فشل في اعتراض هجمات أيلول 2001، المعلومات الملفقة لما أسمته أسلحة الدمار الشامل في العراق، وفشلها ايضاً في بؤس تحليلاتها التي أدّت لسوء تقديرها في نجاح تنظيم داعش.
تراكم الفشل ادّى بالقائمين على الوكالة الى استحداث مزيد من العمل البيروقراطي أبرزه إنشاء منصب مدير للأمن الوطني عقب هجمات أيلول 2001 الأمر الذي يمكن تعداد فوائده على آليات العمل الاستخباراتي بمشقة كبيرة.
يشار الى انّ الرئيس الاسبق ريتشارد نيكسون أدرك مبكراً ضرورة إدخال إصلاحات على عمل الوكالة، دون تحقيق ايّ تقدّم ملموس كما انّ الرئيس جيمي كارتر ايضاً كرّر المحاولة، كلاهما لخدمة الأجندة السياسية للرئيس. مدير الوكالة ابان عهد الرئيس كارتر، ستانسفيلد تيرنر، اتى به كارتر من صفوف البحرية وكان برتبة ادميرال، حدّد مكامن الضعف في مديرية التجسّس وسعى لتشذيبها بإلغاء نحو 820 وظيفة في صيف عام 1977. لم يدم له البقاء طويلاً لاختبار نجاعة أسلوب معالجته.
من أبرز «ألغاز» الوكالة اختفاء ووفاة مديرها الأسبق ويليام كولبي، 27 نيسان 1997، في حادث بحري غامض بالقرب من منزله الصيفي على شاطئ جزيرة «كوب» جنوبي العاصمة واشنطن بعد 9 أيام على غيابه. ترأس كولبي مديرية «سي أي آي» لسنتين فقط، 1973 1975، حين أقيل من منصبه. خلال تلك الفترة الوجيزة، مثل أمام لجان متعددة في الكونغرس «56 مرة»، تميّزت شهاداته بإجابات واضحة مباشرة «مما أغضب طواقم الاستخبارات الذين اعتبروا مهمته المركزية هي الكذب والرياء على الكونغرس».
تلقى كولبي أمر إقالته مباشرة من مستشار الأمن القومي الأسبق هنري كيسنجر، ابان عهد الرئيس جيرالد فورد، اللذين تملكهما الغضب لصراحة كولبي ونزعه الغطاء عن «جواهر المؤسسة الاستخباراتية»، لا سيما مسؤوليتها عن الاغتيالات وسبل أخرى لا تقل دناءة وخسة. كولبي ايضاً أقال عدداً كبيراً من مسؤولي وموظفي الوكالة في أقسامها المختلفة، مما وضعه نصب الأعين المتربصة. لليوم، السبب الرسمي لوفاته هو حادث غرق وهو السباح الماهر.
في مواجهة مؤسسة عريقة لها تاريخ طويل من النفوذ وشراء الذمم، والتخلص من ايّ شخص مهما علت مكانته، هل يستطيع الرئيس المقبل ترامب تحقيق ايّ انجازات تذكر. السؤال يتكرّر على ألسنة الاجهزة الرسمية والمراقبين على السواء.
كلف ترامب فريقه لشؤون الأمن الوطني إعداد تقرير مفصل يحدّد آليات يمكن تطبيقها «لتطوير» عمل الأجهزة، بما فيها تهديدات القرصنة وسبل مواجهتها، وتقديمه خلال 90 يوماً من تسلمه مهامه الرسمية.
الشائع عن ترامب انه يغفل أهمية عمل أجهزة الاستخبارات وتطبيقاتها. بيد انّ حقيقة الأمر تكمن في «نجاحات» ترامب العملية التي لا يمكن تحقيقها بهذه الشمولية والتوسع الدولي دون توظيف فعّال لجمع معلومات استخباراتية واتخاذ سبل حماية مناسبة، أسوة بالشركات الكبيرة وأصحاب الثروة: معاملاته اليومية مع الشركات متعدّدة الجنسيات التعرّف بدقة على سوق العقارات وما سيعرض منها للبيع بغية الاستثمار، وما يرافقه من مفاوضات تخصّ القيمة الشرائية والترتيبات الأخرى، فضلاً عن ردود أفعال السلطات المحلية، البلدية وما فوق، لأيّ مشروع يقدم عليه.
يطلق على المهام الآنفة الذكر «الاستخبارات العملية»، التي ينبغي ان تتحلى بالدقة والموضوعية كي يتمّ تسخيرها بفعالية تعود بالفائدة القصوى على أصحابها.
الإطلالة على كيفية استفادة ترامب او تسخيره لتلك المعلومات تؤشر على نواياه المستقبلية لتوظيفها والاستفادة منها في القريب المرئي، ودلالة على نواياه لإجراءات إصلاحية.
نظرة سريعة على خلفية طاقم ترامب لشؤون الأمن القومي تفيد أنه بمعظمه لديه خبرة عسكرية إضافة لمدير شركة اكسون العملاقة، والذين بمجموعهم كانوا يتلقون «استخبارات عملية».
على الطرف المقابل، الخلفية السياسية الصرفة لطاقم البيت الأبيض بمن فيهم الرئيس أوباما نفسه يجد ارتياحاً أوفر في معلومات استخباراتية بأبعاد سياسية وتسخيرها لخدمة أغراض سياسية مباشرة. الأمر الذي نتج عنه تلك التقارير الاستخباراتية التي عوّمت مقولة أسلحة الدمار الشامل، ابان عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن، وما رافقها من غزو واحتلال كارثي للعراق والدول الاقليمية الأخرى المرشحة مباشرة حسبما أفادت تلك التقارير والإفادات لاحقاً.
شهدت ولاية الرئيس أوباما اتهامات متعدّدة لتلاعبها بتقارير الأجهزة الاستخباراتية «وحجب» التقارير التي لا تؤيد رؤاها وسياساتها الخاصة بتنظيم داعش، والتي جاءت على نقيض مباشر لسردية إدارة الرئيس أوباما الرسمية. سردية تشبّثت بإبراز «نجاح سياستها حول سورية»، خلافا للتقارير الميدانية والتحقيقات الإعلامية ايضاً.
إصرار ترامب وحماسة فريقه لتملك زمام القرار بإدخال إصلاحات على الأجهزة الاستخباراتية يقود المرء الى حملة مواجهة وتغيّرات، ربما بوتيرة سريعة، لتحقيق مقاصده في توفير معلومات ذات فائدة عملية.
بعض الإصلاحات المرئية
نوايا إجراءات الإصلاح تشمل مروحة واسعة من تعديل على صعد الإجراءات البيروقراطية وتعزيز مفاهيم نواة إنشاء الأجهزة الاستخباراتية، جمع المعلومات وتنقيحها، والتصدي للتسريبات عبر الوسائل الإعلامية بمختلف توجهاتها، الخ…
إصلاحات سياسية
تجاوزت الأجهزة الاستخباراتية مهامها الأولية بدخولها ميدان الحلبة السياسية واستحداث مراكز ومناصب جديدة، نالت آيات الثناء والرضى على إنجازاتها المتصورة. في المقابل تمّ استبعاد المهنيين من الطواقم المتعدّدة الذين يميلون لتوفير معلومات خضعت للتدقيق والفحص، بعضهم فضل الإحالة المبكرة على المعاش.
من الجائز ان يضخ ترامب دماء جديدة في تلك الأجهزة، تحت بند التعيينات السياسية، مما سيضع الشرائح القيادية العليا الراهنة في عين العاصفة للتدقيق في نوعية ووجهة التقارير الاستخباراتية السابقة.
من خصائص ترامب، وامتداداً فريقه المتشدّد، ميله لعدم التسامح وسرعة الردّ وجاهزيته لإقالة من هم في المراتب الأدنى وأصحاب الأداء المتدني عن المعايير الموصوفة. وعليه، يمكن القول انّ أولئك أصحاب التقارير السابقة والمشكوك في دقتها قد يخضعون للمساءلة تفرض عليهم الدفاع عن مجمل أدائهم، وما سينجم عنها من تهميش او اقالة مرتقبة.
تداخل المهام العسكرية والاستخباراتية
توجهات إدارة الرئيس أوباما الخارجية أوجدت مجالات متقاربة لعمل الأجهزة الاستخباراتية والعسكرية، ويمكن القول انّ العمل الاستخباراتي خضع لتوجيهات القيادات العسكرية في البنتاغون، مما ساعدها بشنّ سلسلة حروب فضّل البيت الأبيض بقاءها بعيدة عن أعين الإعلام. وأوكلت مهام حرب الطائرات المُسيّرة للاستخبارات المركزية بالتنسيق مع وحدات القوات الخاصة لفرض حقائق ميدانية.
عانت تلك العمليات من اوجه قصور ذاتية متعددة، منها انّ القوات الخاصة أثقلت بتنفيذ مهام ساهمت في استنزاف سريع لإمكانياتها البشرية خاصة لقرب نهاية الخدمة الفعلية على صعيد ضباط الصف تحديداً، ويتهيأون لدخول الحياة المدنية.
ترامب وفريقه سيعتمدون بشكل شبه كامل على المدّ البشري المدرّب من صفوف البنتاغون، وتوفير أقصى ما تحتاجه القيادات العسكرية من إمدادات قد تتباين مع بنود للميزانيات المخصصة.
تقارير استخباراتية عملياتية
ندّد ترامب منذ بدء صعوده على الساحة السياسية بالتقارير الاستخباراتية اليومية المقدّمة، التي يعتبرها حيكت لخدمة أجندات سياسية وهدر للوقت، الأمر الذي دفع به الى تفادي اللقاء اليومي مع ضباط الاستخبارات وفعل الأمر عينه الرئيس أوباما في بعض الأحيان.
ترامب ايضاً لا يتحلى بميزة الإصغاء بعمق للآخر، وأوضح مراراً انّ تلك التقارير لا توفر له معلومات لم يطلع عليها مسبقاً في معظم الأحيان. كما انّ بعض أعضاء فريقه لا يخفي امتعاضه من المعلومات الاستخباراتية «غير المفيدة»، وسيسارعون لتوضيح احتياجاتهم من أطقم الاستخبارات.
لن يدّخر ترامب جهداً لتوضيح نواياه من التقارير الاستخباراتية وضرورة تفادي نزعة اتساقها مع الرغبات الذاتية والتركيز على حقيقة ما يحتاجه.
الإعلام نقيض ترامب
تسريب المعلومات بكافة أنواعها لوسائل الإعلام هي قضية مرحّب بها جماهيرياً وتمقتها الأجهزة والقيادات الرسمية بشكل عام. معظم الإدارات الأميركية عانت وتعاني من اكتشاف الشعب لحقيقة نواياها وخطابها في الأروقة الخاصة، ولم تسلم منها إدارة أوباما التي تعدّ من اشدّ الإدارات قمعاً للحريات الصحافية بأساليب متطورة وخداعية. مثلاً، رحّلت الإدارة ما لا يقلّ عن 2 مليون «مهاجر فاقد للإثباتات الرسمية» مما يفوق ما فعلته إدارة سلفه جورج بوش الابن المحافظة والمتشدّدة.
ترامب بطبيعته كثير الشك بمقرّبيه ولا يثق الا بنفسه ويحظى بكراهية كبيرة بين الأجهزة الاستخباراتية بمجملها. وسعى ترامب الى «ابتزازها» مؤخراً على خلفية سلوكه المنسوب له إعلامياً، بالإعلان في مؤتمره الصحافي الأول، قبل بضعة ايام، بأنه أخفى عمداً بعض المعلومات الناجمة عن لقائه بقادة الأجهزة عن مستشاريه ليتبيّن لاحقاً انها أضحت متداولة في الإعلام. الاستنتاج الطبيعي انّ المسؤول عن التسريب هو من داخل الأجهزة الأمنية، ليس إلا.
تفاقمت المواجهة بين ترامب والأجهزة الاستخباراتية عقب تداول وسائل الإعلام تقارير ثبت خطأها حول العلاقات المتينة التي تربط ترامب بروسيا. المواجهة اتخذت منحى خطيراً بين الطرفين وإعلان ترامب انّ «بعض الأشخاص» يغامرون بالنيل من مصداقية الولايات المتحدة وأجهزتها بغية إلحاق الضرر بالرئيس المنتخب.
من المرئي تصميم ترامب وفريقه للأمن الوطني على تحديد حلقة التسريب ومن وراءها، واتخاذ التدابير المناسبة ضدّ افرادها مما يبشر بصراع سياسي مكشوف قريب.
براءة ترامب
تصميم ترامب على الذهاب في مواجهة مع أخطبوط الأجهزة الأمنية، ونظراً لفقدانها الدليل المادي القادر على إقناع الجمهور بتبعية ترامب لروسيا، ادّى بإطاحة سريعة لتلك السردية واضطرار بعض الوسائل الإعلامية الى عدم الترويج لها، وبعضها الآخر لزم الاعتذار.
واوضحت شبكة «ان بي سي» للتلفزة، في ما يخصّ الملف الخاص بترامب بين ايدي روسيا، بأنّ «مسؤول استخباراتي رفيع أوضح انه الرئيس المنتخب لم يتمّ اطلاعه على المعلومات المضافة للملف، التي تمّ إعدادها كجزء من جهود الحزب الجمهوري المناهض لترامب».
وأردف المسؤول الرفيع انّ اللقاء مع ترامب وإطلاعه على المعلومات تمّ بطريقة شفوية ولم يتمّ تبادل ايّ وثائق او ملفات سلمت للرئيس المنتخب. الأمر الذي يناقض كلياً رواية الأجهزة قبل ساعات معدودة من «فضح» ترامب للأسلوب الرخيص للنيل منه.
بل أكد المسؤول في روايته للشبكة انّ «مسؤولي الأمن والأجهزة الاستخباراتية وافقوا على انّ كافة جهود التحقيق لم تتوصل لنتيجة قاطعة او مباشرة للربط بين ترامب والحكومة الروسية، مطلقا».
ما بين ما دلت عليه تلك المواجهة ميل الأجهزة الإعلامية بشموليتها نشر معلومات ملفقة، حول ترامب، وامتداداً لكلّ ما يتعارض مع توجهات السياسة الأميركية. النتيجة المنطقية التي توصل اليها العامة هو تمتين حرصها على عدم التسليم بصدقية ما ينشر دون فحص وتدقيق.