الردّ… من الوريد إلى الوريد
آمنة بدر الدين الحلبي
حين نفضت الكرى عن عيني صباح الجمعة لم تكن أغصان الشمس بعد قد فردت على الأفق لونها الذهبي، وزيّنت فضاء الروح بهمسها الجميل تملؤها بالأسئلة عن ساحات وطن موجوعة، وياسمين يشكو العطش، بعدما كانت شام الحب تسقي العطاش ماء عذباً مطعّماً بالياسمين.
شام الحياة جنة الله في أرضه، كانت مروية بسبعة أنهر، وبردى يغدق عليها صوته بخرير جميل، ما زالت تحت رحمة الرؤوس الممحونة بحوريات الجنة والمسعورة بالدماء، والتي ما فتئت تنفذ مخططات «إسرائيل» لتنام بين أحضانها بين غمضة عين وانتباهتها، من دون حساب لطفل رضيع يسأل أمه قطرة حليب من أمّ تطوّق بطنها بحبلٍ تصرخ من جوع، أو عجوز تبحث عن شربة لتطفئ ظمأها. إنه وطن منحهم كلّ شيء وأعطاهم الأمان فغدروا به وقطعوا ماء الحياة عن أهله من نبعه الأصلي في وادي بردى.
بين تلك الأسئلة التي تدور، وتدور في ضباب الروح مشاكسة قهوتي التي كثّفت بنّها لأرى شام الياسمين أيام الصَّبا والصِّبا حين كانت ترفل بالحياة، المغمّسة بالحب، والمطعّمة بالعشق، تئنّ اليوم من وجع بلغ السنوات الست ونيّفاً.
صراخ روحي خناجر، وصوتي طفولة مقتضبة بات ينهش فيها القاصي والداني، ولا أملك غير الأمل الذي أعيش عليه لأرى وطن الياسمين منعّماً مكرّماً.
وبينما كنتُ مسترسلة في ذكريات الأمس الجميلة بين شموخ قاسيون ونبع بردى قُرِع الباب وسرقني من أحلامي الجميلة صوت متهدّج، وعيناه يقطر الدمع من مآقيها، ووجه شاحب لا يعرف للنوم طعماً.
قالت: ودمع العين يسبقها، ألا يكفيها العطش أيقونة العواصم، حتى تهاجمها غارة «إسرائيلية» بعد منتصف الليل.
كأنها غرست خنجراً في خاصرتي حين تَعَقَّبَتها عيني، وسَمِعَتْها أذني، وهي تخبرني عن غارة «إسرائيلية» لفَّت مطار المزة العسكري بعد منتصف الليل، في ضواحي العاصمة دمشق بصواريخ متتالية.
صمتت وصمت العالم من حولي، وأصابني دوار قطع للحظة روح الحياة، لكن نحيب صوتها ويدها التي هزّتني أعادت إليّ نبض القلب ليدجَّ في مفاصل روحي.
قلت: ربما هي محاولة يائسة لدعم المسلحين جعلت بني صهيون يطلقون صواريخهم بعد منتصف الليل، ومن أين أُطلقت الصواريخ؟ وهل من ضحايا؟
قالت: من شمال بحيرة طبريا، فسقطت في محيط مطار المزة العسكري ما أدّى إلى نشوب حريق في المكان، فقط وربما بعض الجرحى.
قلتُ: هم يلعبون بالنار ويستفزون دمشق العظيمة ومجدها لن ولم يغبِ، ألا يكفي أنها كسرت مشروعهم وأسقطته في مزابل التاريخ.
قالت: لماذا لم نردّ على تلك الغارة بعملية أعنف؟
قلت: الحكمة ضالّة المؤمن أنّى وجدها عمل بها.
قالت: يجب الردّ على تلك الغارة، بغارة أعنف حتى تعرف «إسرائيل» قدرها فتقف عنده.
قلت: دعي السياسة للساسة سيكون الردّ من الوريد إلى الوريد. ثقي تماماً.
قالت: دائماً نقول سنحتفظ بحق الردّ، ومتى يكون هذا الحق؟
صمت قلبي عن النبض، لكن الروح ما زالت تنشد قسماً مع الأرواح الحزينة، تلك الغارة أثقلت كاهلي وبتّ أبحث هل من ضحايا يا تُرى، ونحن في غربة صخرية جدرانها هشّة.
قطعت هذا الصمت بصوت التلفاز الذي أعاد الخبر المرير والمؤلم لشام الياسمين. هذا الخبر الذي نزل كالصاعقة على روحي، وبعد تفكير طويل.
قلتُ: ربما هذا الاعتداء السافرــ هدنة ــ للمسلحين كي تكون بوابة حقيقية لمعركة وادي بردى.
قالت: لا أعتقد، لكن كلّ الذي أعرفه يجب أن نردّ، بدلاً من تحذير العدو «الإسرائيلي»، لأنّ الصواريخ «الإسرائيلية» ضربت شحنة صواريخ من نوع «فاتح 111» موجودة في مستودعات مطار المزة العسكري، بالرغم من كلّ التحذيرات لـ»إسرائيل» التي صدرت من البعض بعدم استفزاز سورية، لأنها ستطال عمق تل أبيب.
قلت: كيف نردّ وكلّ الجبهات مفتوحة أمام حرب قذرة، ألا يكفي أننا مستمرون بحربنا على الإرهاب للقضاء عليه وبتر أذرعه الممتدّة كالحباب. وعلى ما أعتقد هناك «مصالحة تقتضي بمغادرة الغرباء المسلحين من منطقة وادي بردى، بعد تسليم أسلحتهم الثقيلة، ليدخل الجيش ويطهّرها من العبوات الناسفة والألغام لتعود آمنة سالمة تمهيداً لدخول ورشات الصيانة لإصلاح الأعطال والأضرار التي لحقت بمضخات المياه والأنابيب نتيجة اعتداءات الإرهابيين».
صمتت وصمت العالم من حولي يوخز روحي ويدقّ مثل جمر النار على مفاصل جسدي. عدو صهيوني يتربّص بوطني بمساعدة بعض السوريين، فهل وصل بهم الأمر ليسلموا أمّهم لبني صهيون؟ ومَن يتخلى عن أمه للغرباء؟ الأمّ التي حملت وهناً على وهن، وأرضعت تُرمى للغرباء؟
أيّ عصر نعيش لنقدّم سورية على طبق من ذهب لبني صهيون؟ أيّ عصر نعيش لنفتح أبواب الله ليدخلوا شام الياسمين تحت وابل من القذائف والرصاص والغارات التي حرقت ودمّرت؟ حتى قاسيون انتفض حزيناً من هؤلاء القتلة المجرمين.
بعد صمتها المقيت أعادت عليّ السؤال تلو السؤال: متى سنردّ عليهم؟ وانصرفت تحمل جرحها النازف بين قلبها.
لكن الروح متيقنة من أنّ شيئاً ما سيحصل، وما هي إلا أيام قليلة إلا كان الردّ السوري من الوريد إلى الوريد مزلزلاً وصامتاً من دون أن يذكر شيئاً، وكان الردّ قوياً ومن طبيعة الضربة، حين ردّت دمشق بصواريخ بعيدة المدى واستهدفت قاعدة جوية عسكرية «إسرائيلية».
فما كان من الخبير العسكري روي بن يشاي إلا أن أعلن لصحيفة «يديعوت أحرنوت» أنّ هذا الردّ إنْ دلَّ على شيء فإنما يدلّ على أنّ قواعد الاشتباك بيد السوريين، وأنه لن ينفع «إسرائيل» بعد اليوم أيّ ضمانات روسية أو غيرها، محذّراً القيادة «الإسرائيلية» بعدم استفزاز دمشق، لأنّ الضربة ستكون قاضية في المستقبل القريب وستكون الصواريخ السورية تهلّ على سماء تل أبيب كودق المطر، ولن ينفع بعد ذلك قبة حديدية ولا قبة «إسرائيلية» وربما تكون نهايتهم بضربة قاضية.