الجيشان السوري والعراقي يتصدّيان لإعادة إنتاج «تركيا 1920»!
د. وفيق إبراهيم
تستكمل الجيوش في سورية والعراق تحرير المناطق الشمالية من الدولتين وسط رفض تركي عنيف يستخدم أسلوبين لعرقلة هذا التقدّم إثارة الفتن المذهبية والطائفية، واحتلال عسكري مباشر لأراضٍ سوريّة وعراقية.
ولا يجوز إغفال أسلوب التفاهمات التركية مع روسيا وإيران، الذي تتخذه أنقرة وسيلة لتغطية اجتياحاتها العسكرية.
ما يثير الانتباه هنا هو تطابق نظريات القضم التركية الحالية، مع ما صدر عن «مجلس المبعوثان» التركي في العام 1920 من تحديد لتركيا ضمّ إليها شمال العراق وشمال سورية ولواء الاسكندرون في إطار ما عُرف بـ»الميثاق المللي».
وإذا كان المستعمرون الفرنسيون والبريطانيون حالوا دون سيطرة تركيا على تلك المناطق في مطلع القرن الماضي، فإنّ حكّام أنقرة لم يتوقّفوا عن التذكير بـ»حقهم» في أراضٍ سورية وعراقية. طورغوت أوزال أشار في 1991 إلى أنّ «العراق جزء منّا». أمّا سليمان ديميريل فاكتفى في 1994 بالمطالبة بالموصل، وكذلك فعل عبدالله غول، الذي لوّح في 2004 بضمّ الموصل «النفطي» إذا تقسّم العراق.
أمّا أردوغان، فناح على ما أسماه «الحدود العاطفية» لبلاده، مستذكراً قبرص وأسوار فيينا في 1683، شاملاً العالم العربي بأسره من 1516 حتى 1920. وإذا ما طابقنا بين مقرّرات «المجلس المللي» في 1920 وبين التقدّم التركي على الأرض في 2017، لاكتشفنا تماثلاً مذهلاً: تركيا تحتلّ ثلث جزيرة قبرص بثلاثين ألف جندي يرابطون على أراضيها. وكانت تلقّت لواء الاسكندرون في 1939 هدية من المنتدب الفرنسي آنذاك، الذي حلّ مشاكله السياسية مع أنقرة على حساب سورية، وتواصل حالياً اجتياحها الأجزاء الشمالية من سورية والعراق على أمل الإمساك بحلب والموصل كما تشتهي، فلا يبقى من مقرّرات «مجلس المبعوثان» شيئاً غير الحدود العاطفية لأردوغان اللاهث حالياً وراء تغيير «تركيا السياسية» إلى نظام رئاسي شبيه بالخلافة العثمانية، وربما أسوأ.
الملاحظة الأولى المستقاة من الميل التركي إلى التوسّع واضحة في علاقات أنقرة بالبلدان المجاورة لها. والبدء بأرمينيا ضروري، لأنّ يريفان لا تزال تنظّم ذكرى سنوية للمجازر التركية بحق الأرمن في المئتي سنة الماضية، وتعتبر أنّ تركيا لا تزال تحتلّ قسماً من أراضيها، وكذلك اليونان التي تخشى على 12 جزيرة من جزرها تطالب بها تركيا، وتكافح لمنع سيطرة أنقرة على قبرص.
أمّا إيران، فتقيم علاقات متوازنة يكتنفها التوتر بسبب التحريض التركي لأذربيجان الإيرانية الناطقة بالتركية… والصراع بين البلدين على النفوذ الإقليمي!
ماذا عن العلاقات التركية بكلّ من سورية والعراق؟ هاتان الدولتان تتّهمان أنقرة بالسعي لتدميرهما مادياً وعلى مستوى التضامن الاجتماعي، وما فتح الحدود التركية للإرهاب التكفيري إلّا الدليل الواضح على التآمر التركي على المشرق العربي بكامله.
وحكاية الإخوان المسلمين، الذين يتحرّكون عسكرياً وأمنيّاً لصالح أنقرة في بلاد الشام والعراق واليمن ومصر وليبيا وتونس والمغرب… وحالياً الجزائر، ليست إلّأ الدليل الساطع على إصرار تركي على الحدود العاطفية لأردوغان.
أمّا الدولة الوحيدة التي تتمتّع بعلاقات جوار شبه هادئة مع تركيا، فهي بلغاريا، والسبب أنّ بلغاريا دولة أوروبيّة كانت محميّة من الاتحاد السوفياتي، ومغطّاة حالياً من الأميركيين والأوروبيّين. لكن هذه الحصانة لم تمنع أنقرة من التحرّك في أوساط الأقليات الإسلامية فيها.
ويتبيّن أنّ السياسات التاريخية التي تعاود تركيا تبنّيها تدمّر علاقاتها بالدول المتجاورة معها كلّها، وتتسبّب بتوتيرها بشكل دائم.
تكفي الإشارة هنا إلى تردّي علاقاتها مع كلّ من مصر والسعودية وإيران وسورية والعراق، للكشف عن سياسات رديئة لإعادة إنتاج مستحيلة لإمبراطورية تسربلت ظاهراً بالإسلام لاستخدامه فقط لمصلحة هيمنة تركية عثمانية. كان لا بُدّ من هذا العرض التاريخي لإظهار مدى البؤس العربي المأخوذ بفتنة مذهبية، هي بالفعل غير موجودة إلّا في وسائل الإعلام المشبوهة والمكلّفة بإثارة هذا النمط من الفتن لتدمير التضامن العربي لمصلحة تركيا و»إسرائيل» والمشروع الغربي. وهو صمت العاجزين الذين يرون الحقيقة ولا يفعلون شيئاً، فهم يخشون «عودة العثمانيين»، لكنهم يبدون مأسورين بمفاعيل فتنة مذهبية خيالية، فيلجمون أنفسهم.
مَن الذي يكبح «الحركة العثمانية» إذاً؟
يجب الاعتراف بأنّ الجيشين السوري والعراقي هما الطرفان الوحيدان اللذان يجاهدان لمنع تطبيق ما ورد في «الميثاق المللي» من مطامع تركية في الشمالين السوري والعراقي. والدليل واضح… الجيش التركي الذي يحتلّ بعشيقة العراقية ويتواطأ مع المنظمات العراقية الإرهابية من «داعش» وبقايا البعث الصدّامي، يحاول منع الجيش العراقي من الربط بين العراق وسورية، ساعياً إلى عرقلة تحرير الموصل، ومصرّاً على بثّ الفتنة بين السنّة والشيعة، زاعماً أنّه يدافع تارةً عن السنّة وطوراً عن التركمان العراقيين بذريعة وحدة النسب العرقيّ.
لكنّ الجيش العراقي لا يأبه لهذه الترّهات، برغم صراخ أثيل النجيفي وشقيقه أسامة، وطارق الهاشمي نائب الرئيس العراقي المقيم في تركيا ، وبعض المتواطئين من القبائل العراقية. لكنّ الجيش العراقي الذي يمثّل كلّ أطياف بلاد الرافدين يواصل أعماله التحريرية على كامل أراضيه، من دون الأخذ بعين الاعتبار التورّط السعودي الخليجي في دعم القوى التكفيرية ومحاولات العرقلة الأميركية التي تضع مواعيد زمنية للتحرير لا يجوز تجاوزها. وتواصل واشنطن التصريح العلني عن ثلاث دول في العراق هي في طور التكوين، ولا يجيبها أحد من عربان الوهابيّة المؤيّدين لتدمير العراق واستنزاف إمكاناته، فيبدو المشهد غريباً… تركيا والسعودية متنافستان على النفوذ في الإقليم، لكنهما تتقاربان في السعي إلى تدمير العراق مع «داعش» والإرهاب، ولا يتصدّى لهما إلّا الجيش العراقي، المرآة الفعلية للتعدّدية الاجتماعية في إطار من الوحدة السياسيّة والقومية الكاملة.
وفي العودة إلى سورية، يأخذ المشهد السياسي مداه الواسع، لأنّ سورية الحديثة هي صناعة من صناعات سايكس بيكو 1916، واستلزم الأمر أيضاً وعد بلفور 1917 لانتزاع فلسطين من سورية وتقديمها لليهود، ومنح الاسكندرون لتركيا، وفرض استقلال لبنان، وتقديم شرق الأردن كتعويض للعائلة الهاشمية الفاشلة… نعم استلزم الأمر كلّ هذه المعاهدات والتواطؤات، ليتمّ تدمير سورية التاريخية إلى ما هي عليه حالياً.
ولم يكتفِ الغرب وتركيا بهذا التهشيم، فشنّوا مساراً طويلاً من استهداف سورية الحديثة لم يتوقّف مرّة منذ 1947، مرتدياً لبوس اجتياحات عسكريّة وقصف ومؤامرات وانقلابات وانفصال وحصار… لم تشهد سورية الحاليّة مرحلة هدوء إلّا بعد سيطرة الرئيس الراحل حافظ الأسد على البلاد، فأمّن لها الاستقرار السياسي، مواصلاً سياسة التصدّي للمخطّطات العسكرية «الإسرائيلية» والسياسات العدائية من الخليج والغرب.
ولأنّ الجيش السوري يعتبر أنّ المعارك الحالية الدائرة في بلاده هي استمرار لاستهدافها المتواصل منذ رحيل المنتدب الفرنسي في 1947، فقد انتشر في عموم البلاد مدافعاً بدمائه الغالية عن أراضي الوطن، متنبّهاً إلى مشروع 1920 التركي والنيات الأميركية بتقسيم سورية إلى ولايات مذهبية وعرقية.
لذلك، جاءت معركة تحرير حلب على مقاس إجهاض «الدولة المللية العثمانية»، واستمرار قتال الجيش على جبهات الشمال وإدلب جزء حيوي من مشروع احتواء المشاريع العاطفية لأردوغان.
وهكذا، يجمع الجيش السوري بين صلابة في الميدان لا تتزعزع، تتقدّم حيناً وتتراجع حيناً آخر تبعاً لضرورات المعارك، واستعداد لاحتواء المغرَّر بهم في إطار المصالحات الوطنية والتفاهمات السياسية.
ولا بدّ أخيراً من استنهاض العرب وتذكيرهم بأنّ ما يجري اليوم أخطر من الاجتياح العثماني في العام 1516، لأنّه مشروع يضمّ في طياته طموحات تاريخية تركية ومخططات غربية و»إسرائيلية». والحلّ في عودة العرب إلى تحت رايتَي الجيشين السوري والعراقي. هذان الجيشان اللذان دقّا نفير الدفاع عن المشرق العربي، وما يفعلانه ليس إلّا مقدمة لصحوة عامة تدفع في اتجاه لجم الأتراك وإيقاف «إسرائيل».
أمّا عن دولة «مجلس المبعوثان» العثماني، فمصيرها تحت أقدام الجيشين السوري والعراقي، في الموصل وحلب وجوارهما.