الأسواق القديمة في دير الزور… إرثٌ حضاريّ أتت عليه وحشيّة الإرهاب
لورا محمود
لسورية مكانة تاريخية وحضارية عريقة تعود إلى آلاف السنين، وعلى حوض نهر الفرات نشأت أقدم الحضارات الإنسانية التي جعلت محافظة دير الزور تفخر بأهمّ مكتشفاتها الأثرية، وتتألّق بأقدم المنشآت العمرانية. ومن هذه المنشأت الأسواق المسقوفة القديمة التي تعدّ نمطاً تقليدياً للأسواق، وتعتبر العصب التجاريّ للمدينة. كما تشكّل نقطة التقاء بين أهالي الريف وأهالي المدينة، وهي من الآثار القليلة جداً المتبقية من الحقبة العثمانية في المدينة، ما دفع مديرية الآثار إلى تسجيلها في مديرية الآثار للحفاظ على هذا الإرث الحضاري.
الموقع
تقع شبكة الأسواق القديمة في الجهة الشرقية لـ«الدير العتيق»، وتشكّل جزءاً هاماً من المركز التجاري للمدينة، يحدّها من الجهة الشرقية حيّ عبد العزيز، ومن الجهة الشمالية السراي القديمة، ومن الجهة الغربية شارع الجسر الذي يؤدّي إلى حيّ الحويقة عبر جسر البعث، أما من الجهة الجنوبية فيحدها الشارع العام، وتشغل الأسواق إضافة إلى الخانات مساحة 1125 متراً مربّعاً تقريباً.
الطابع المعماري وتاريخه
بنيت الأسواق القديمة في مدينة دير الزور في أواخر فترة الاحتلال العثماني عام 1865، وذلك عندما عيّن خليل بك ثاقب الأورفلي قائمقاماً لدير الزور، حيث أنشأ السراي القديمة التي تضمّ مبنى قيادة الشرطة ومتحف التقاليد الشعبية القديمة والبوابة العثمانية.
تصطفّ المحلات التجارية إلى جانبَي المدخل، لتطلّ عليه بواجهة حجرية ذات قوس حجري نصف دائريّ، وهذه الواجهة بسيطة تخلو من الزخرفة، إلا أنها غاية في الجمال. ثمّ استخدم الحجر والطين في بناء الأسواق، وتم تسقيف الممرات الوسطية بالمادة نفسها على شكل أقبية سريرية مستمرة، ذات عقود مدبّبة مختلفة بحسب أبعاد الممرات العرضية، وقد استخدمت أسقف معدنية لتغطية بعض الأسواق.
الطابع العمراني للسوق المقبي غاية في الدقة والتكامل والتنظيم، تتميز شبكة الأسواق القديمة بأن تخطيطها «شطرنجيّ»، ويعتبر «سوق الميري» أو «السوق الحكومي» أول الأسواق المبنيّة ضمن سلسلة الأسواق القديمة، حيث استخدم القائمقام أشخاصاً من أورفة التركية من أصحاب المهن ليخطّطوا وليبنوا أسواق دير الزور، نظراً إلى قيمتها الفنية والجمالية والتراثية، ولكونها الأثر الوحيد المتبقي بالمدينة، الذي يعود إلى حقبة الحكم العثماني.
تعود ملكية الأسواق القديمة إلى مجلس مدينة دير الزور، فعندما صدر قانون استملاك الأسواق عام 1980، بقيت المحلات بيد أصحابها الأصليين لكونها المورد الأساس الذي يعتمدون عليه في رزقهم.
وأصبح لكلّ سوق اسم خاص به، فمنها ما حمل اسم بعض المدن التي كانت تصل منها البضائع إلى دير الزور، لوجود علاقات تجارية قوية معها مثل: «سوق بيره جيك»، «سوق حلب»، «سوق بغداد»، و«سوق بيروت»، ومن الناس من يطلق على السوق اسم المهن التي يعمل بها أصحاب المحال مثل : «سوق التجّار»، «سوق الحدادة»، «سوق النحاسين»، «سوق الخشّابين»، «سوق العطارين»، «سوق خلوف»، «سوق عكاظ» ، «سوق الحبال»، و«سوق القصّابين» ، كما تحمل بعض الأسواق اسماً موسمياً من خلال المادة الأكثر شهرة التي تباع فيها مثل: «سوق الصوف»، و«سوق الحبوب»، و«الكماة»، و«سوق السمن». كما يضمّ السوق عدداً من الخانات القديمة مثل «خان براجيك» و«خان الترك» و«خان الخشب».
أجزاء السوق
تضمّ أسواق دير الزور القديمة أو السوق المقبي سبعة أسواق ضاربة في القِدم تجتمع في مكان واحد لتشكّل مركزاً تجارياً هاماً في دير الزور. ويحتلّ سوق الحدّادين مكاناً متميزاً من «السوق المقبي» حيث يقع في الجهة الغربية لشبكة الأسواق، يحدّه جنوباً سوق الحبال وشمالاً سوق القصّابين، أما غرباً فيحدّه شارع الجسر. يختصّ هذا السوق بصناعة أدوات الحصاد كالمناجل والفؤوس ولوازم بيت الشَعر والأقماع.
ويقع سوق العطّارين في الجهة الشرقية للأسواق القديمة، ويطلّ بواجهته الجنوبية على الشارع العام، وينتهي شمالاً بسوق الحبوب، وقد أُدخلت بعض التعديلات المعمارية على هذا السوق حيث استخدم الإسمنت المسلّح في سقوف بعض المحلات، خصوصاً في الجهة الشمالية منه، ويختصّ بتجارة المواد الغذائية والتوابل والأعشاب الطبّية والمنظّفات وغيرها من مواد العطارة. أما سوق التجار فيمتد باتجاه الشمال الجنوبي لينتهي ببوابة عثمانية ويتقاطع مع سوق عكاظ من الجهة الشرقية، ويتصل غرباً بسوق الحبال، كما يتصل في الجهة الشمالية الغربية بسوق القصّابين، ويعود تاريخه إلى عام 1865، ويختصّ بتجارة السجاد والبسط القماش والألبسة الريفية.
ويختص سوق الخشابين بتصنيع المعدات الخشبية البسيطة اللازمة لأعمال الزراعة وبيوت الشعر وبعض الأثاث المنزلي والصندوق الخشبي المزركش لحفظ اللباس وكراسي الجلوس وقراءة القرآن والغرابيل والمخامر.
وهناك أيضاً سوق الحبوب وهو سوق متخصّص في تجارة حبوب القمح «الحنطة»، إضافة إلى تجارة البذور. أما سوق الحبال فيقع في الجهة الغربية من الأسواق حيث يبدأ من شارع الجسر وينتهي بسوق الحدادين في الجهة الشمالية، ويختصّ سوق الحبال ببيع مستلزمات الإقامة في البادية للبدو ولأهل الريف، ومن هذه المستلزمات بيت الشَعر والحبال سواء القطنية أو البلاستيكية.
وفي الجزء الجنوبي الغربي من الأسواق، يقع سوق خلوف الذي يطلّ بواجهته الجنوبية على الشارع العام، وينتهي شمالاً بسوق الحدّادين، وقد حافظ على شكله المعماري القديم، ويختصّ في تجارة الأقمشة والصوف والقطن إضافة إلى وجود محلات لبيع الحبال في الجزء الشمالي منه.
الأضرار
استطاع فريق عمل دائرة آثار دير الزور الحصول على صوَر للأسواق القديمة المقبية في مدينة دير الزور وللبوابة العثمانية الواقعة ضمنها ولتكية الراوي، وجميعها مواقع مسجّلة أثرياً على لائحة التراث الوطني.
وتُظهر الصور المتوفّرة الضرر الذي طاول الأسواق القديمة، ووجود فجوة كبيرة تحت قوس البوابة العثمانية، واختفاء الباب الخشبي في الصور الملتقطة للبوابة العثمانية من الخلف، في حين يبدو في الصوَر الخاصة بتكيّة الراوي حجم الخراب الكبير الذي أصابها، وأصاب مئذنتها المدمّرة عقب التفجير الذي استهدفها من المجموعات الإرهابية.
ويعمل فريق عمل دائرة آثار دير الزور، الذي شُكّل لحصر الأضرار في المباني والمواقع الأثرية ضمن المحافظة، على جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات وتوثيق الواقع الراهن بالصوَر لجميع المباني الأثرية ضمن مدينة دير الزور.