زبيدة ثروت وعبد الحليم حافظ… حبّ تغفله السنون!

د. محمود شريح

في ظلّ المنقلب البائس الذي انتهى إليه العرب، أجمعين، شرق السويس وغربه، وخلل الفخفخة السياسية والميعان الفردي، ووسط حمّى العنعنات المذهبية، وإزاء طغيان الفكر النرجسيّ في صفوف المثقّفين، لاحت في القاهرة بارقة أمل أبهجت القلب الوسنان وحرّكت في النفس نسمة حرّية: ففي معرض نعي الصحف زبيدة ثروت إشارة إلى أنّ هذه الممثّلة المصرية كشفت في آخر لقاء إعلاميّ معها أنها أوصت بناتها الأربع، من المنتج السوري صبحي فرحات، بأن تُدفن إلى جانب قبر عبد الحليم حافظ، كاشفة أنها سمعت أنّ عندليب مصر الأسمر هذا كان قد أوصى أن تُوضع صورتها إلى جواره في مدفنه، فيما وصفت أنّ حافظ كان رقيقاً ولطيفاً، وأنها كانت تحبّه لكنّها كانت أصغر من أن تخبره عن حبّها، وهو أيضاً، بحسب ما صرّحت به، كان من شدّة خجله غير قادر على الإفصاح لها عن ولعه بها. وأضافت أنها علمت بحبّ حافظ لها بعد زواجها، مؤكّدة أنها لم تزل تحبّه وأنه لو كان أصرّ على الزواج منها لكانت وافقت على الفور.

في وصيّة ملكة الرومنسية وقطّة السينما المصرية كما لُقّبت نسبةً إلى عينيها الملوّنتين، ما يطوّح نُظم فكر عندنا حسبناها ثباتاً، وما يكرّ البصر في موروث سلّمنا به بهتاناً، فلا هي جولييت ولا هو روميو، بل أكثر بالقياس إلى ظلامنا من إشعاع تنوير أوروبا، ولا هي ليلى ولا هو قيس، بل أوفى بالنسبة إلى شططنا عن عهد البراءة الأولى في واحات العرب. فقد بلغ الزيف عندنا شرق السويس مبلغاً عظيماً حتى صحّ فينا قول «اتّسع الخرق على الراقع»!

في زمن المحرّمات والمحظورات التي طغت، حقّقت زبيدة ثروت في مماتها ما عجزت عنه في حياتها. أما عندليب الأغنية صاحب «ظلموه» مفصلاً في تاريخ الاستبداد العربي الحديث «وبه استبدّ مولده فيومها بالتمام زهقت روح أمّه»، فسبقها قبل أربعين من وفاتها أن رقد في ظلمة إلى جانب بريق عينيها، وهو أوّل ما اشتهر يوم غنّى «صافيني مرّة» في الذكرى الثانية لـ«ثورة يوليو».

ظهرت زبيدة ثروت لدقائق معدودة وهي في السادسة عشرة في فيلم «دليلة» مع حافظ وشادية، ثم كانت معه وحدها في «يوم من عمري» الحديث 1961 أهمّ أفلامها. كرّمها جمال عبد الناصر لدورها في فيلم «في بيتنا رجل» لإحسان عبد القدوس عن حرب السويس ونضال المصريّين زمن العدوان الثلاثي عليهم، وهو حافظ نفسه أعلن على إثر بناء السدّ العالي: «صرخة أطلقها جمال».

هي الأرستقراطية حفيدة سلطان مصر حسين كامل لِجِهة والدتها. وهو ابن قرية «الحلوات» الوادعة على ضفّة النيل في محافظة الشرقية. هي محامية من جامعة الاسكندرية وهو خرّيج المعهد العالي للموسيقى في القاهرة مع ثورة الضبّاط الأحرار، فخلّدها وخلّد زعيمها في أغانيه. اعتزلت زبيدة ثروت الفنّ باكراً واختفت عن الأضواء وتفرّغت للعبادة وهاجرت إلى أميركا لردحٍ ثم عادت لتُدفن في تربة الكنانة. من مياه النيل ورث حافظ جرثومة مرض أرداه ولو بعد حين في مستشفى في مدينة لندن على نفقة الشاعر السعودي خالد الفيصل، فما أن أُعلنت وفاته في الثلاثين من آذار عام 1977، حتى قفزت من شرفات أهلهن صبايا في عمر الورد حزناً على غياب الرومنس عن دنيا العرب. هي غادرت وهي في السادسة والسبعين وهو غادر قبلها بأربعين، وكان الغرام حيّاً لستين، وها نحن اليوم في مدافن أرض يباب فلا توبة ألحان محمد عبد الوهاب ولا من يحزنون ولا شوق ولا فوقه ولا تحته ولا وسادة خالية يتوكّأ عليها رأسنا المرهق، ولا مَن ينادي علينا «أسمر يا أسمراني»، بل قحلٌ وجفاف وحتّى صوب الجُندب يُستثقل.

امرأة شرقية توصي بناتها الشرقيات الأربع بأن تُدفن إلى جانب من أحبّت ولم تَبُحْ له على مدى ستّين، هي كغيرها من شرقيات جاد عليهن زمان أرعن فطمسهنّ جسداً وروحاً وحمّلهن فوق ما يطقن، ونعجب مما آلت إليه أمورنا؟ ها هي قطّة السينما المصريّة تتمرّد على السائد وتلفظ الموروث.

علّ وصيّتها تذكرة ووقفة عزّ في حلكة ضياعنا وعبرة لأوُلي الألباب ونحن على مفترق خطير. فكما في الفنّ كذا في السياسة الصدق أساس وهو الذي صدح صادقاً «أنا لك على طول»، فبقي فنّه وبقيت له، وإن تحت التراب بعيدَين عن العهر السائد.

كاتب وباحث

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى