ذكّر إن تنفع الذكرى

قبل سنتين، كانت حرب غزّة التي سبقت عام 2012، وكانت نهايتها الاتفاق الذي يبدو أنه يتكرّر الآن، والعنوان وقف نار بلا نتائج تتصل بفك الحصار، بعدما تأكد أن قيادة حركة حماس وعلى رأسها خالد مشعل، تريد صرف رصيد النصر في لعبة سياسية إقليمية، تتصدّرها تركيا وتشترك فيها قطر ضمن إعادة إنتاج دور الإخوان المسلمين المتلاشي بهزائم مصر وسورية.

قبل سنتين، كان الأميركي يستحضر مشعل في إعلامه ممهّداً لتقديم حماس التي يقودها مشعل، كجبهات الإسلاميين الذين يقاتلون الدولة في سورية، حركات سياسية ترتكب أعمالاً إرهابية وليست حركات إرهابية، وهذا التمهيد الأميركي لا يتم من دون تحضير أمرٍ ما في السياسة، تشارك فيه حماس بمرجعيتها الإخوانية كقوة عسكرية إقليمية في الحرب على «داعش» بدلاً من الانفتاح على سورية والمقاومة وإيران، وتتورّط حماس مقابل ذلك أكثر في الحرب السورية.

أما الثمن، فـ«أوسلو» منقّح يتسّع لحماس.

«أوسلو» الثاني الذي لم ينضج في الحرب السابقة، يجري إنضاجه بتداعيات الحرب الأخيرة، ويتقدّم مشعل كشريك.

قبل سنتين، كتبت ما أظن قراءته مفيداً بعين تطوّرات اليوم.

مشعل إلى «أوسلو 2» 2012-11-25

إذا أردنا أن نتجاهل موقف خالد مشعل بتجيير نصر غزّة العسكري لإخوان مصر وتركيا أردوغان وقطر حمد، والتنكّر لحلف المقاومة وما قدّمه، والمعاني السياسية التي يحملها هذا التجيير وذاك الانكار، واعتبارهما نوعاً من لعب السياسة على رغم الاعتبارات الاخلاقية والثقافية التي تحول دون ذلك مع تعميم ثقافة الترويج للعلاقة بالأميركيين و«الإسرائيليين» كمصدر قوة للمقاومة. فإنه يستحيل تجاهل المؤشرات السريعة على الموقع السياسي الجديد الذي تخندق فيه مشعل ويجرجر حماس إليه.

المؤشر الأول: يتّصل بالموقف الذي أعلنه مشعل عبر «CNN» لجهة القبول بحلّ القضية الفلسطينية وفقاً لقيام دولة على الارض المحتلة عام 67. وهنا ليس القصد القول إن هذا خطأ أو صحّ، لكن بمعيار حماس هذا تبدل خطير ونوعي في برنامجها السياسي، وبمعيار التاريخ هذا تكرار لموقف حركة فتح على لسان زعيمها الراحل ياسر عرفات بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، والذي تضمن استعداداً لتعديل ميثاق منظمة التحرير من السعي إلى بناء دولة فلسطين على كامل التراب إلى القبول بدولة على أراضي الـ67 والتذرع بأنّ مشعل تمسك بحق العودة لللاجئين يؤكد تكرار السياق، ولا ينفيه. فعرفات فعل الشيء نفسه حينها. واللافت أنّ «CNN» كانت أيضاً، والمعلومات المتوفّرة عن تلك المقابلة لعرفات تفيد أنها جاءت بعد مفاوضات مع الأميركيين، ونشرها لم يكن عملاً صحافياً، بل تكريساً لما تم الاتفاق عليه، وتحضيراً للاعتراف بالمنظمة أميركياً، وفتح التفاوض مع «إسرائيل».

كما يعرف أيّ صحافي أو متابع كيف تمنح «CNN» وقتها للمتحدثين يعرف صحة الكلام. بل المعلوم ألا مجال للتبرير بسوء تأويل الكلام، لأن تحدث رموز ينتمون إلى معسكر مناوئ لواشنطن على «CNN»، يحظى بالقدر ذاته من الدراسة لدى المحطة والمتحدث لمنح الموافقة على الحديث ولتدقيق الرسالة التي يريد إيصالها، لأنّ الأمر عند الطرفين سياسة. وها نحن أمام تكرار مشهد التحضير لأوسلو كما يتكرّر: الشعب الفلسطيني يحقق معجزة في وجه «إسرائيل». الانتفاضة يومذاك وقصف «تل أبيب» اليوم وقائد النصر سياسياً يعلن قبول دولة على أرض الـ67، ويرفض القول انه سيعترف بـ«إسرائيل»، ويتمسك بحق العودة لا بل يستعين مشعل بكلام عرفات وذكائه كما يبدو عندما يسأل هل ستعترف بـ«إسرائيل»، فيجيب بذكاء عرفات: أنا أريد أن تعترف «إسرائيل» بحق شعبي فهي تحتل أرضي.

المؤشر الثاني: ما قالته صحيفة «الحياة» عن قول مشعل إنه عائد قريباً إلى غزّة وهو ما نقلته «الحياة» نفسها عن لسان عرفات بعد الانتفاضة الاولى إنه عائد إلى الضفة الغربية. وكما هو معلوم، العودة لا تتم في الحالتين إلا برضا الاحتلال وموافقته وضماناته الامنية. ومعلوم أنّ هذا لا يحدث مهما قدّم من تبريرات من دون وجود عملية سياسية تشعر «إسرائيل» أنّ منح خصمها هذا الامتياز يساهم بإنجاحها وأن النجاح هنا يحقق مصالحها.

المؤشر الثالث: الاعلان الفرنسي عن دعوة دول الاتحاد الاوروبي إلى إعادة النظر بوضع حماس على لائحة الإرهاب وما نشرته الصحافة الفرنسية من كون هذا الاعلان نتاج مسعى قطري عمره ستة أشهر، بما فيه من ضمانات لجهة تغير جوهري في وضع حماس وموقعها في حلف إقليمي جديد متعاون مع «إسرائيل» وحريص على أمنها، ومن موافقة مشعل على برنامج سياسي جديد يمهد لدخول مفاوضات مع «إسرائيل».

إذا إضفنا إلى هذه المؤشرات المعلومات عن أن كوادر عسكرية من حركة حماس تدرّب مجموعات «المعارضة المسلحة» التي تقاتل في سورية، وأنّ السلاح الذي كان بحوزة حماس سُلّم إلى هذه المجموعات، خصوصاً في دمشق، وبالأخص مدافع الهاون التي تقصف أحياء دمشق، وأخص الأخص محاولة توريط المخيمات في هذا القتال، يصبح لكل ما سبق أبعاد ومعان.

هنا لا يعود إجهاض النصر العسكري للمقاومة في غزة بتفاهم سياسي مسخ مجرّد خطأ وضعف، بل خطة سياسية. ذلك أن ثلاثة أمور كان يمكن فعلها بالتشبه بحزب الله عام 1996، وكانت صواريخه أقلّ إزعاجاً لـ«إسرائيل» بما لا يقاس بقصف «تل أبيب» من غزّة، وعلى رغم ذلك صدر التفاهم:

1ـ ببيان رسمي أميركي بعد إصرار الحزب على دور للسلطة اللبنانية التي لم يكن موقفها من الحزب أفضل من موقف سلطة رام الله من حماس، ولو فعل مشعل ذلك لأنهى الانقسام وتزعّم الحركة الوطنية الفلسطينية.

2 ـ ما تضمنه التفاهم يومذاك عام 1996 يطرح سؤالاً خطيراً حول تفاهمات غزّة، فقد نصّ بصراحة على شرعية عمل المقاومة وحقها بملاحقة قوات الاحتلال والعملاء، بينما تلتزم المقاومة بموجب تفاهمات غزّة بوقف العمل العسكري كله بما في ذلك ضد جنود الاحتلال. يعني تعلن نهاية عملها كمقاومة، وكان استهداف غزّة موجوداً قبل خيار المقاومة، ووجدت المقاومة لحماية غزّة، ومجرد التزام الاحتلال وقف الاستهداف تنتهي مهمتها، بينما ما نعرفه ان المقاومة نشأت لتحرير فلسطين وغزّة قلعتها، وتدفع ثمن هذا الخيار، ومنذ البداية خطة الاحتلال هي توقف الاستهداف إذا توقفت المقاومة. وها هو التفاهم يقول بذلك نصّاً واضحاً وتصير المقاومة وفقاً للنصّ أعمالاً عدائية.

3 ـ مرجعية التفاهم يومذاك لجنة أميركية فرنسية سورية «إسرائيلية»، وما توحي به من جدّية الملاحقة. بينما اليوم المرجعية المصرية لا تملك شيئاً إلا لضبط المقاومة، ولا شيء تملكه على «إسرائيل» وتلكؤها بفك الحصار، ما يعطي قيمة للتسريبات الغربية عن ضمانات مصرية بوقف إمداد السلاح إلى غزّة، وتعهّد مشعل بذلك وما نشر عن نشر قواعد أميركية في سيناء ضمن إطار التفاهم الجديد.

شكراً خالد مشعل.

يخيفنا في قبول حركة الجهاد بالتفاهم ومجاملتها حماس ومشعل أن يشكل تكراراً لتجربة الجبهة الشعبية مع الراحل عرفات قبل «أوسلو» وبعده، ومشهد الراحل أبو علي مصطفى إلى جانب عرفات يشبه كثيراَ مشهد الدكتور رمضان إلى جانب مشعل؟

أوسلو 2 وراء الباب، وذلك لا يخفينا، ففلسطين ولادة وحبلى بمن يحمل راية قضيتها ومن يترك المقاومة يترك الساحة وتنجب فلسطين من يحمل رايتها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى