الجنوب السوريّ… هل يكون جبهةً جديدةً لـ«إسرائيل»؟
ترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق
كتب مايكل هيرتزوغ لـ«Washington Institute»:
فيما كانت الضربات العسكرية والجوّية تستحوذ على عناوين الصحف، كانت الولايات المتحدة الأميركية وشركاؤها يبحثون في الخطر الاستراتيجي المتمثّل بالتطورات الحاصلة في الجنوب السوري. فتحالف إيران، النظام السوري، وحزب الله، بدأ هجوماً عسكرياً واسع النطاق ضدّ الجماعات المتمرّدة في الجنوب السوري، المتاخم للحدود مع «إسرائيل» والأردن. وهي حملةٌ استقطبت اهتماماً حثيثاً من الولايات المتحدة الأميركية وكذلك من المجتمع الدولي.
الحرب في الجنوب
تمّ حشد جمع من المقاتلين يتراوح عددهم بين 4000 و5000 من القوات الهجومية التي تركزت في محافظات درعا، على الحدود مع الأردن، والقنيطرة، المطلّة على مرتفعات الجولان التي تسيطر عليها «إسرائيل». يشمل هؤلاء المقاتلين وحدات من الجيش السوري قوات الدفاع السوري، وهي ميليشيا حكومة حوالى 2000 من مقاتلي حزب الله، الذي يشكلون جزءاً لا بأس به من القوات العسكرية في سورية من دون أن ننسى العناصر الإيرانية وكبار الضباط والمستشارين. وقد نشر أحد المواقع الإلكترونية المقرّبة من النظام السوري صورةً للجنرال قاسم سليماني، قائد الحرس الثوري ـ قوة القدس الإسلامية ـ أثناء زيارته إلى المنطقة، ما يؤشّر إلى أهمية هذا الحدث بالنسبة إلى إيران.
شهدت القوات المهاجمة نجاحاً متواضعاً بشكل عام. فبعد الاستيلاء على عدد لا بأس به من القرى والبلدات المتناثرة على قمم التلال شمال غرب درعا، والتي تبعد عشرين كيلومتراً فقط على الحدود «الإسرائيلية»، واجهوا معارضة متمرّدة شديدة في ظلّ ظروف جوية سيئة للغاية. ومع ذلك، وبمساعدة الضربات الجوية السورية، استمرّوا وثابروا على التقدّم ناحية الغرب والجنوب.
أما بالنسبة إلى سياق هذه الحملة، فقد شهد الجنوب السوري اشتباكات مستمرّة منذ بدء الحرب عام 2011. وعلى العكس من الأجزاء الأخرى في المنطقة، فإن الجماعات المتمرّدة المحلية ـ الإسلامية وغير الإسلامية ـ نجحت في صدّ بعض هجمات الجيش السوري، ما دفع هذا الأخير إلى التخلّي تدريجياً عن بعض الأراضي. وأُتبع ذلك بسلسلة من الهجمات القوية، أوقعت أجزاء كبيرة من درعا والقنيطرة على الحدود مع «إسرائيل» في قبضة الجماعات المتمرّدة، وحتى ذلك الحين، كانت الجبهات الحدودية مع «إسرائيل» هادئة نسبياً. خصوصاً عندما بدأت مجموعات مثل «جبهة النصرة» و«القاعدة» بالسيطرة على مدينة درعا وبعض المناطق جنوب هضبة الجولان، مركزةً مواجهتها مع القوات النظامية، متجاهلةً إمكانية تحدّي «إسرائيل».
ما من شكٍ في أن الحرب على سورية تقدّم حوافز كبيرة للهجوم الأخير. ومن الواضح أن تقدّم المتمرّدين في الجنوب السوري يشكل تهديداً كبيراً لدمشق ـ فمدينة درعا تبعد أقلّ من مئة كيلومتر عن جنوب العاصمة ـ وعن الطريق الدولي الاستراتيجي لبيروت ـ دمشق ودمشق ـ درعا. كما يهدف دحر المتمرّدين إلى ردع التدخل الأردني في الحرب، ومنع تدفق الأسلحة المضادّة للنظام وللمقاتلين القادمين من الأراضي الأردنية، ما نتج عن تقليص قدرات المقاتلين في الجنوب، وساعد في إيقاف تدفق الجهاديين من سورية إلى لبنان، وخفّف كثيراً من وطأة الضغط على دمشق.
ويُفترض بعد هذا الهجوم، أن ننظر إلى الأمر على أنه ليس مجرّد معركة أخرى للنظام السوري في حربه الطويلة على «المعارضة». بل يمثّل قراراً استراتيجياً لإيران التي تقود «محور الممانعة» لإيجاد موطئ قدم حيويّ لها في منطقة حيوية جنوب سورية، قريبة من «إسرائيل» والأردن.
إعادة تشكيل التوازن الاستراتيجي
أُطلق على هذه الهجوم اسم «عملية شهداء القنيطرة»، في إشارة إلى الضربة «الإسرائيلية» التي وقعت في 18 كانون الثاني 2015، وقتلت ضابطاً إيرانياً وستة من مقاتلي حزب الله، بينما كانوا في زيارة إلى أرض المعركة في مرتفعات الجولان السورية. وقد ردّ حزب الله بعد أيام قليلة، بإطلاق عدد من الصواريخ المضادّة للدبابات والتي أسفرت عن مقتل جنديين «إسرائيليين»، ما يدلّل على أن تغيير معادلة الردع مع «إسرائيل» تبقى تحتلّ الأهمية القصوى على جدول أعمال إيران وحزب الله.
من الواضح، أنه ليس من مصلحة حزب الله التصعيد مع «إسرائيل» على نطاق واسع. فجراح حرب تموز عام 2006 لا تزال طريّة، وقد استُثمرت هذه المنظمة بشكل كبير ـ الآلاف من مقاتليها ـ في الحرب السورية وحتى تلك العراقية. فضلاً عن أنها ركّزت على تعزيز مكانتها في لبنان، متحدّيةً الجماعات السنّية الجهادية. خسر حزب الله بعضاً من شعبيته في الداخل اللبناني، نظراً إلى إصراره على القتال جنباً إلى جنب مع نظام بشار الأسد، وإدراكه أن إشعال فتيل حرب أخرى مع «إسرائيل» من شأنه أن يعيث فساداً ودماراً في البلاد، لا بل إلى تآكل شرعية وجوده.
ومع ذلك، فقد شعر حزب الله منذ فترة طويلة، أن «إسرائيل» تعمل على الاستفادة من تورّطه في الحرب الدائرة في سورية، بهدف تأثير التوازن المتبادل لقوى الردع. إن سلسلة من الغارات الجوّية على سورية، والمنسوبة إلى «إسرائيل»، والمستهدفة مخابئ وقوافل للأسلحة الاستراتيجية الموجهة إلى حزب الله، وضعت هذا الأخير في مكان ليس قادرٍ فيه على الردّ والانتقام. كما اتّهمت سورية وقيادات حزب الله ـ في الآونة الأخيرة ـ «إسرائيل» بالتآمر على إنشاء «منطقة آمنة» في الجنوب السوري تهدف إلى التعاون مع الجماعات القتالية المتمرّدة، بمن فيهم الجهاديين، ما قد يدقّ إسفيناً عميقاً بين سورية والأفرقاء اللبنانيين، وبالتالي، تطويق حزب الله في لبنان.
وابتداءً من منتصف عام 2013، بدأ حزب الله بالردّ على الغارات «الإسرائيلية»، ببعض قذائف الهاون والقنابل على طول الطريق من الجانب السوري للجولان ـ أي ذلك المتاخم لمزارع شبعا، والتي تعتبر ضمن مناطق النزاع بين سورية ولبنان و«إسرائيل». وقد أخذ الحزب على عاتقه القيام بردّ الفعل هذا، وتحمّل كامل المسؤولية في احتمال تصعيد العمل الفتوح والمباشر.
وبشكلٍ عام، فإن حزب الله ورعاته، يؤيدون إنشاء جبهة خاصة على الحدود السورية الجنوبية لمواجهة «إسرائيل»، مع توفير أفضل الفرص لاحتواء التصعيد في لبنان. ونحن نرى أن سورية استعملت حزب الله لوقت طويل بهدف مواجهة «إسرائيل»، ولا تزال تستخدمه إلى الآن للغايات عينها.
أما بالنسبة إلى الاستخبارات «الإسرائيلية»، فإن كلّاً من إيران وحزب الله، يسعيان إلى إنشاء بنىً تحتية تشغيلية قرب الحدود بين «إسرائيل» وسورية منذ شهور، لاستخدامها ضدّ «إسرائيل» في أوقات التوتر والحرب. ويشمل هذا خطط توظيف نشطاء في القوى المحلية، نشر الصورايخ والعبوات الناسفة، ووضع خطط هجوم تفصيلية. وفي ما يبدو، أن هذه الأنشطة تشكّل جزءاً مهماً من القافلة التي ضربت في 18 كانون الثاني.
يسير حزب الله وإيران في الوقت الحالي ـ على الطريق الصحيح ـ في اتجاه كسب موطئ قدم دائم على الحدود «الإسرائيلية». وكان قد أعقب هذا الهجوم، تبادل إطلاق النار، فيما أعلن أمين عام حزب الله حسن نصر الله، «أننا لا يمكن أن نقبل الفصل بين الجبهات القتالية»، بينما تتبجّح الوسائل الإعلامية المؤيدة لحزب الله بوجود جبهة مع «إسرائيل» في رأس الناقورة، تمتدّ على طول الساحل المتوسّطي، حتى الجولان.
يخدم تأسيس جبهة نشطة في الجنوب السوري، كلّاً من إيران وحزب الله بطرق مختلفة. فعلى هذه الجبهة الأمامية، يتمكن حزب الله، إلى جانب قتاله للجماعات الجهادية السنّية جنباً إلى جنب مع إيران، من إعادة شحن البطاريات الفارغة لشرعيته في لبنان والعالم العربي، واستعادة زمام المقاومة مع «إسرائيل». كما تساعد أيضاً في اجتذاب الفصائل الفلسطينية المسلّحة إلى هذا المحور، بمن فيهم حماس، التي أُقصيت بالإكراه، وها هي تسعى جاهدةً إلى رأب الشقوق والتصدّعات المفتوحة مع طهران. كما يمكن أن تساعد الطموحات الإيرانية الاستراتيجية، في تطويق «إسرائيل» عبر جبهات متعدّدة في المفاوضات النووية.
قرع أجراس الإنذار في «إسرائيل».
ترى «إسرائيل» هذه التطورات الجديدة في الجنوب السوري، فضلاً عن قراءة صحيحة لأهدافها الاستراتيجية، على أنها تقرع أجراس الإنذار لديهم. فقد استطاعت «إسرائيل» وبعناية بالغة، تجنّب عدم الانجرار إلى مستنقع هذه الحرب السورية، وفضّلت التدخل فقط، في المسائل التي ترى أنها تشكل تهديداً لأمنها القومي. وفيما تحوّلت الحرب إلى صراعٍ بين النظام السوري وحلفائه الداعمين من جهة، والفصائل الجهادية من جهة أخرى، فإن «إسرائيل» تستنتج أنّ أفضل ما يمكنها القيام به هو التصفيق للقتال الدائر بين هذين المعسكرين، المعاديين لـ«إسرائيل».
لكن، وبما أن التعدّي على حدودها الشمالية يكسبها زخماً، فمن المرجح ألا تقف «إسرائيل» مكتوفة الأيدي. وبينما تولي هي اهتماماً للتهديد الجهادي الناتج عن «داعش»، فإنّ «محور المقاومة» قد يشكّل التهديد الأكبر للأمن «الإسرائيلي». فهذا المحور ـ وعلى رغم كلّ شيء ـ تقوده قوة رئيسة في المنطقة، تملك طموحات نووية عالية المستوى، وتنشر أقوى فاعل عسكري ـ لا يمكن اعتباره دولة ـ أي حزب الله، الرابضة الآلاف من قواته العسكرية والصاروخية على الحدود الشمالية مع «إسرائيل». إذاً، ليس في مصلحة «إسرائيل» على الإطلاق العمل على فتح جبهة جديدة في الجولان، التي بقيت صامتة طوال أربعين سنة، بل يجدر بها الإبقاء عليها هادئة تجنباً لاحتمال وقوع مواجهة عسكرية كبيرة في المنطقة.
كذلك، تقلق «إسرائيل» من أن تركيز الولايات المتحدة والمجتمع الدولي على حماية الاتفاق النووي مع طهران وقتال «داعش»، سيمهّد إلى منح طهران حجةً لتمرير سياساتها المؤيدة لعدم الاستقرار في المنطقة. لكن حتى الآن، لا يبدو أن هذا السيناريو قابلاً للتطبيق.
خلاصة
بينما تعزّز إيران وحلفاؤها من تواجدهم على طول الحدود «الإسرائيلية» في سورية، يصبح احتمال ازدياد الخطأ في الحسابات والتصعيد، وارداً جداً. لقد حان الوقت أن تأخذ الولايات المتحدة وكذا المجتمع الدولي، حذرهما بسبب العواقب الخطيرة التي من المحتمل أن تنشأ. تبدو هذه المخاطر واضحةً للعيان بالنسبة إلى «إسرائيل»، والأردن، وللنتائج المترتبة على الحرب الدائرة في سورية، كما يجب على الولايات المتحدة أن تعيد النظر في جميع هذه الاعتبارات وأن تزينها بحذر، في ميزان ميلها لاستيعاب حجم المصالح الإيرانية في سورية. إن نظرةً أشمل على سورية، تتطلّب استراتيجية استباقية تهدف إلى وقف وردع محورٍ تقوده إيران، يصوّب ناحية الاقتراب من الحدود «الإسرائيلية» ـ الأردنية.
الحنرال مايكل هيرتزوغ، هو عميد متقاعد في الجيش «الإسرائيلي» وزميل «ميلتون فاين الدولي» في معهد واشنطن ومقرّه في «إسرائيل». وعلى مدار العقد الماضي، شغل هيرتزوغ مناصب عليا في مكتب وزير الدفاع «الإسرائيلي» في عهود الوزراء: إيهود باراك، عمير بيريتس، شاؤول موفاز، وبنيامين بن أليعازر. وخلال الفترة من أيلول 2006 إلى تشرين الأول 2009، عُيّن الجنرال هيرتزوغ رئيس هيئة موظّفي مكتب وزير الدفاع «الإسرائيلي». وفي الفترة من تشرين الثاني 2001 إلى تموز 2004، خدم مساعداً عسكرياً أقدم سكرتير عسكري لوزير الدفاع «الإسرائيلي». وبهذه الصفة عمل كمسؤول اتصال بين وزير الدفاع والجيش «الإسرائيلي» ومكتب رئيس الوزراء وهيئة الاستخبارات و«مؤسّسة الدفاع الإسرائيلية».