أستانة وجنيف وهواجس السوريّين

سعد الله الخليل

لكلّ زمان رجاله، وفي الزمان الرديء يغدو للبلطجة رجالها الوازنين والفاعلين، وفي الحروب يتحوّل قادة المحاور لزعماء مؤثّرين ما يلبثوا أن ينفضوا عن يديهم عقب التسويات غبار المعارك، ويرتدوا لبوس السياسيّين ويحاضروا في الديمقراطية والأخلاق السياسية، بل ويطوّروا تجاربهم لنظريّات يطالبون بتدريسها في الأكاديميات العلمية التي لا تجد ما يمنع من منحهم الألقاب الفخرية. هذا ما أثبتته أغلب الحروب حول العالم، ولعلّ ذاكرة السوريّين تزخر بصور ما أنتجته التجربة اللبنانية في هذا السياق، فبالرغم من سيل التصريحات والحراك السياسي لأغلب زعماء السياسة الفاعلين في المشهد اللبناني، فإنّ صورهم وهم متمترسون في خنادقهم وراء سلاحهم على محاور القتال قبل عقود راسخة في عقول السوريّين، وبالرغم من صعوبة تقبّل الفكرة، فإنّ الأصعب منها أن تفشل الحياة السياسيّة مرّتين الأولى بلفظهم خارج ميدان من المفترض أنّهم غرباء عنه، والثانية بإنتاج قوى وازنة لمجاراتهم على أقلّ تقدير من دون الاتكال على سطوة المال الخارجي، والتي أنتجت نخب لا تختلف في العقلية والفكر والسلوك عن قادة المحاور قيد أنملة.

في التجربة السورية، والتي لم يخفِ المسؤولون الغربيّون قبل الرُّعاة الإقليميّين للأطراف السورية سعيهم للتوصّل إلى طائف سوريّ، ينقل التجربة اللبنانية إلى سورية لتقاسم السلطة وإنهاء الحرب، فإنّ التساؤل المطروح قُبيل المفاوضات السورية في العاصمة الكازاخية أستانة يتمثّل بالقدرة على إخراج سورية من أتون الحرب، من دون السير بها إلى مسارات المحاصصة الطائفية والسياسية، التي تُبقي نار الحرب تحت رماد الممارسة السياسية جاهزة لإشعال البلد متى أرادت تلك الأطراف لأتفه الأسباب.

يُجمع الداعمين والمشاركين في لقاء أستانة بأنّ المباحثات لن تكون بديلاً عن محادثات جنيف، والتي لولا إصرارهم على ذكرها لأصبحت من منسيّات الأزمة السورية، حالها حال قرارات مجلس الأمن الصادرة خلال السنوات الست من عمر الأزمة السورية، خصوصاً تلك المتعلّقة بالتنظيمات الإرهابية، وكأنّ مخرجات جنيف أفضت لقواسم مشتركة أو أوصلت السوريّين لمنتصف طريق الحلّ، ليتمّ البناء عليها في قادمات الأيام لإنهاء المعاناة السوريّة. وللتذكير، فإنّ ما تمّ إنجازه في جنيف بأقصى درجات التفاؤل، لا يتعدّى قبول الأطراف المتحاورة بشرعيّة بعضها البعض، رغم الخلاف على أحقيّة التمثيل وغيرها من المسائل الإجرائيّة الكفيلة بوقف المباحثات، بل ونسفها. وبالتالي، فإنّ العودة لمسار جنيف لا يتعدّى كونه بديلاً عن التراجع لنقطة الصفر مع بعض الإيجابيات، التي ما تزال بطبيعة الحال بعيدة كلّ البعد عن القدرة على خلق أجواء إيجابيّة تبني جسوراً من الثقة بين الأطراف السورية إن شاركت كلّها في الجولات القادمة من المباحثات.

توحي المشاركة الكثيفة بمباحثات أستانة بإمكانية التوصّل إلى توافق حدّه الأقصى تثبيت وقف إطلاق النار وتعميمه على امتداد الجغرافية السورية لخلق مناخات مريحة للانتقال لمفاوضات سياسية، بحسب التوصيف الروسي. إلّا أنّ تثبيت وقف إطلاق النار يتطلّب بحدّه الأدنى تنفيذ ذلك الوقف، ولو بنسب ضئيلة، وهو لا يكاد يُذكر عمليّاً على الأرض في ظلّ عودة أغلب الجبهات للقتال وتبادل الاتهامات حول المسؤولية بالخرق، وبالتالي فإنّ إعادة إنتاج وقف لإطلاق النار يشبه إلى حدّ ما إحياء العظام وهي رميم، وهي أولى مأزق أستانة، خصوصاً أنّ رئيس الوفد المعارض محمد علوش.

في الاستثمار السياسي، يبدو المأزق الأكبر لمسار أستانة من خلال الرؤى المتعدّدة لما يمكن أن تضفي إليه تلك المفاوضات. فدمشق ترى بأنّ المباحثات لا تعدو كونها محادثات مع المجموعات الإرهابيّة لوقف إطلاق النار، والسماح لها بالانضمام للمصالحات وتسليم سلاحهم. وهو ما لا يبدو بوارد الوفد المعارض، كون السقف المطروح من قِبل الحكومة السورية، لا يقدّم أيّة إغراءات لمسلّحي علوش لكون عرض تسوية الأوضاع سهل المنال في أيّة لحظة تقرّر المجموعات المسلّحة الدخول في إطار التسوية والمصالحات، ولا تحتاج تحمّل عناء السفر إلى أستانة للتفاوض لتسليم السلاح، في حين يرى وفد المعارضة بالمباحثات فرصة لتمرير أكبر قدر ممكن من المجموعات المسلّحة القاعديّة الهوى، تحت غطاء وقف إطلاق النار في إطار المعارضات المعتدلة بحسب التصنيف الأميركي. أمّا السعودية الراعي الأول، فتسعى لتثبيت الهدنة وإعادة دمج الفصائل الإرهابية في المعارضة السورية، وترسيخ مقولة لا منتصر ولا مهزوم كمقدّمة لإعادة طرح فكرة المرحلة الانتقالية، والتي تنتهي باستلام المعارضة السلطة، وهو ما لن تقبل به الحكومة السورية ولا روسيا، وأيضاً إيران التي تدرك بأنّ السير في هكذا تسويات في أستانة يعني إخراجها وحزب الله من سورية. أمّا حسابات تركيا فتنطلق من ضرورة مسك العصا من المنتصف، بحيث تكسب ودّ موسكو وتضمن جرعة من التعاون، ولا ضرر ببعض التنازلات في الملف السوري من دون أن تخسر أنقرة ودّ واشنطن والرياض.

التناقضات الواضحة في المرامي والأهداف للأطراف المشاركة في اجتماع أستانة، تجعل من الصعوبة بمكان حدوث اختراقات تُسعد السوريّين الراغبين بإنهاء الحرب في بلادهم، وهو ما يدركه المشاركون قبل ذهابهم للعاصمة الكازاخيّة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى