«امرأة من فصيلة الشمس»… مواكبة للحداثة من دون مقاطعة القديم

صلاح عاصي

الولوج إلى عالم الشاعر عمل شاقّ وشائك، إذ الشعر عصارة تجارب ذاتية موشّاة بغموض ساحر.

يجذبك سحر الغموض تسبح بحثاً عن المعنى اللابس أردية قشيبة تارة، هي الاستعارة، وأخرى الكناية، وثالثة الرمز والأسطورة.

تلك التلوّنات الآسرة تلاحقها، بحسّك وحدسك، فيفتنئ الجمال ليوشك أن ينأى بك عن البحث في متن اللغة عن المضمون، ما يضطرك إلى تعرية اللفظ المتلفّح بضباب الذات المحترقة في أتون المعاناة.

رحلة شاقّة، إنّما لذيذة، إذ تجد نفسك على متن الريح وقد نبتت لك أجنحة إيرية، معانقاً الجمال متقصّياً أبعاده في جنائن الشعر الغنّاء.

وفي غمرة التحّولات بشأن مفاهيم الشعر، يصبح تقويم أيّ تجربة شعرية رهيناً بمزاج الشاعر والمتلقّي معاً، فللشاعر أسلوبه ومزاجه ومثله المتلقّي بحسّه الفنّي وارتهائه ثقافات ومعايير متباينة لمفهوم الحداثة في الشعر.

لذلك، أمّا أن ترى نصّاً شعرياً، حين تقرأه مترنحاً بين ما أنت بصدده، من جديد شكلاً، ومضموناً، ورواسب ثقافية أدبية ومعايير قديمة. وهي الأزمة التي عانى منها المحدثون منذ السيّاب ونازك الملائكة… وصولاً إلى شعراء قصيدة النثر. حيث كانت الحرب ولا تزال ضدّ الجديد، وتحديداً ضدّ قصيدة النثر. إلى أن خفّت حدّة الصراع في العقود الأخيرة، وامتلت قصيدة النثر موقعها في الحركة الشعرية عبر روّاد كبار استطاعوا بإبداعهم تجاوز النقد التقليدي مسقطين عن تجاربهم الحذر والخوف من المحافظين.

ولكن ذلك كانت له تبعات سلبية كثيرة. إذ إنّ عدم تعميم ثقافة تتّصل بقصيدة النثر، قد أفلت الحبل على القارب، فراح كلٌّ يكتب الشعر على هواه، متناسين أنّ لقصيدة النثر بذورها في أدبنا العربي. فجبران وأمين نخلة وفؤاد سليمان على سبيل المثال لا الحصر أودعونا في تراثهم ما يعزّز ثقتنا بقصيدة النثر. وهي القصيدة التي لا تقتصر فرادتها على التحرّر من القافية والروتين وكسر الإيقاع التقليدي موسيقياً حتى تحوّلت سلعة يتاجر بها طلاب الشهرة وعشاق الألقاب.

آثرت أن أمهّد بهذا لقراءة متأنّية لديوان الشاعرة فاطمة منصور «امرأة من فصيلة الشمس»، باعتبار الشاعرة ملتزمة قصيدة النثر، انطلاقاً من إيمانها بأنّ الشعر ليس قصراً على شكل واحد ومعايير ثابتة، بل هو مواكب للحداثة وما فيها من تحوّلات تفترض تجاوز القديم من دون قطيعة معه.

فنظرة أولى إلى عنوان الديوان «امرأة من فصيلة الشمس»، تجعلك تنظر إلى الشاعرة امرأةً متمرّدةً منفتحةً متحرّرة. تستلهم الشمس، بل تنتمي إليها مسلّحة بموهبة تشعّ إبداعاً ساطعاً جمالاً كضوء الشمس، تتلألأ على أجنحة الحروف، وفي متن القصائد، ليبدّد ضباب التخلّف مشرعاً الأبواب المغلقة للحرّية والفرح.

هكذا يحفّزك عنوان الديوان على استكناه تلك الإبداعات وفيك شغف للوقوف على قصائد الشاعرة تترقرق فيها الألفاظ والمعاني أنهاراً تضحك على شواطئها ألوان الورد جزلاً بربيع جديد.

تطالعك قصائدها برقّة المشاعر، وشفافيّة الروح، وانسياب اللغة الملتهبة بعواطف تتفجّر لهباً حيناً، وحيناً آخر تتهادى بأثوابها الزاهية لتحكي شغف الشاعرة، شوقها، وولهها وحرقة الغياب. تلك الحرقة التي تنهار أمامها الروح فتترجمها عذوبة رقراقة تستدرّ الدمع بقدر ما تستفزّ الألوان الزاهية مشاعر عاشق مولّه فيسبح على أجنحة الأحلام وإن مخذولة.

في ديوانها تأسرك فاطمة منصور بحرارة عواطفها، سواء كانت تتأسّى لحال الشمس وقد غطّتها الغيوم، فتهاوت مدمّاة وراء الأفق… وإذا بالشمس مرآة للذات التي تتلاشى أحلامها تحت سياط الهزائم، مخلّفة وراءها الظلمة، ظلمة اليأس والخيبة.

ويلفتك في أكثر القصائد «الانتظار»، وهو بقيّة الأمل بيقظة الأحلام المحطّمة أجنحتها، لعلّ الانتظار يستولد الزغب في تلك الأجنحة.

وفي الانتظار تحاول الشاعرة مداراة ندوب الروح نتيجة الغياب. يحضنها الشوق فتسافر إلى تلك الأحلام الخائفة بِوَلَهِ العاشقة، المتنسّمة عبير الحبّ من عينيه المسافرتَين، وهي مستلقية على وسادة الحزن:

ألتحف حكايات الروح

أتوسّد حزني كلّ مساء

يا ظلّي المفقود!

ثمّ تدعوك لترافقها في سفرها المضني مبايعة حبيبها متخيّلاً، لعلّها تذوب في صمته:

أذوب في صمتك

علّني أنساب في ليلك

كساقية صغيرة تملأ

شقوق الغياب!

فتأسرك هذه الومضات الشعرية النابضة بالحياة، بالرقّة عبر حال الساقية الجارية عساها تبعث الحياة في عروق يابسة.

يدمي الغياب قلب المولّهة العاشقة، فتلوّن، وتحفر بأظافرها عن الفرح قبل أن يستحيل رماداً. تسافر في عينَيّ الحبيب الغائب، تستضيء بنورهما، فتميّز الخيط الأبيض من الأسود، وتصوم لتفطر على قُبلة تطبعها على وجنتيه:

للنور في عينيك

هلال

نصوم عليه

وفطورنا

قُبلة على وجنة اللقاء!

فهل الصوم سوى الوجد والشغف ليطفئ حجرهما فطور بلقاء يتبادل فيه الحبيبان القبل؟

وإذ يهبّ لهيب الوجع حارقاً، تتداعى صور أنيقة تحكي صامتة كما في التجلّي الصوتي:

الليل الهاطل

بقطرات الظلام

تهبّ الريح بأنفاس عاشق

تهمس للستائر بسرّها المبحوح

فيتسرّب الظلام آخر بريق العيون!

فالليل الهاطل ظلاماً سمير العشاق، رفيقهم يطلق في صمته رياح العواطف عاصفة، فيتعانق الحبيبان، يتبادلان الهمسات، حيث الهمس استرجاع للشغف بما في بريق العيون من لغة العشق. وأمام الهطول هذه العواطف الهادرة في الظلام، تؤخذ بما تختزن الصوَر ويزدحم الشغف والشوق فتستحيل الكلمات قُبلاً، أو أجنحة طائر يزغرد مبشّراً ببزوغ العمر.

وحين يطاردها الحنين ويقتلها البعاد تتداعى الروح متقلّبة على جمرات الشوق، فيطول ليلها كعاشقة، إذ يتبعها الأرق فتكابر حالمة برياض يتضوّع منها أريج الفلّ والياسمين فتصرخ:

خذني إليك

واَغسلني بماء الحنين!

على متن هذه الإيقاعات اللونية بألوان العاطفة، تمضي فاطمة منصور في أثير الكون، على أجنحة الخيال نحو رحاب الرؤى مترنّحة بين اليأس والأمل، بين الغياب وأمل اللقاء. حالمة بماء ضوء القُبل، ونقاء الحبّ عسى تغمد جراح روحها النازفة، وذلك في قصائد تحوكها بخيوط القلب وتكتبها بندوبها النازفة، وأحلامها المجنّحة… قلقة، قلق الشاعر الذي لا يكلّ يبحث عن مآل في حضن حبيب يحمل الورد الجوريّ وباقات القُبل. هناك، حيث الحضور الرائع يحيل الظلام نوراً ساطعاً يكثر مسّها «امرأة من فصيلة الشمس».

ولمّا كنّا بصدد قراءة نقدية بموضوعية لتجربة فاطمة الشعرية، كان لا بدّ من إلقاء في الشكل. فرغماً عن تقويمنا إيجابياً مستوى العاطفة وتجلّياتها، وتفرّد الخيال بصورة الإبداعية، لاحظنا أنّ الأروع في الديوان هي القصيدة القصيرة، إذ الطوال من القصائد تدنو بثقل الخطاب، من دون أن تحرص فاطمة على السردية، وهي من خصائص قصيدة النثر، ما جعلها مسكونة بأساليب الإنشاء ودلالاتها التقليدية. فيما قصيدة النثر تفرض تناغم الصوَر والعواطف في إطار لا يخلو من سردٍ يوفّر للقصيدة تماسكَ بُنيتها.

وربما لهذه الأسباب التقليدية، يلاحظ القارئ التباين بين قصائد تضجّ شاعريةً وأخرى طويلة مضطربة البُنية، على أنّ هذه الملاحظات لا تعني أننا نقصّ من قيمة تجربة شعرية من شأنها أن تنضج أكثر فتثمر المزيد من طيّبات الإبداع.

كاتب لبنانيّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى