الاستبداد والفساد والإرهاب: الحالة الأردنية والعربية
د. لبيب قمحاوي
أصيب الأردنيون بصدمة نتيجة أحداث الكرك الأخيرة التي عصفت بمقولة الأردن «الآمن المستقر» ونقلتهُ من ذلك الواقع إلى واقع الأردن «المشكوك بأمنه واستقراره». وفتحت تلك الشكوك الباب على مصراعيه أمام تساؤلات بعضها بديهي أو مشروع وبعضها الآخر كان نتيجة حتمية للغموض والتخبّط الذي رافق مسار ومجريات العمليات الدموية التي رافقت أحداث القطرانه والكرك.
يتساءل الأردنيون عما جرى وقلبَ واقع حال الاستقرار والأمن والطمأنينة التي تمتعوا بها في الوقت الذي كانت فيه معظم دول الإقليم والجوار تنهار أمام أعينهم. هل كان الأمر مفاجأة باغتت البلد والمسؤولين أم كان نتيجة حتمية لسياسات وممارسات ساهمت في إشعال نار الغضب الصامت بين أوساط الكثير من الأردنيين نتيجة لتفاقم البطالة والغلاء والفساد، مما دفع العديد إلى اعتبار الوضع القائم متناقضاً مع آمالهم ومصالحهم، الأمر الذي أدّى إلى توجيه عواطف البعض نحو التنظيمات الدموية المعارضة مثل داعش. وهكذا، استندت قوى الإرهاب في جهودها لاستقطاب المؤيدين إلى القصور الواضح في أداء النظام على مستويات مختلفة قد يكون الاقتصاد وفرص العمل والغلاء واستشراء الفساد أهمّها، ناهيك عن الفشل السياسي والجنوح نحو التحالف مع دول وقوى بعيدة عن نبض الشارع الأردني.
السعي إلى البحث عن مبرّرات وأعذار أو السعي نحو إختراع «كبش فداء» لتبرير ما جرى ويجري من أخطاء أو كوارث هي صفة تلازم العديد من الأنظمة العربية في سعيها المتواصل لاحتكار السلطة وتجنّب اللوم أو الإدانة في الوقت نفسه. فنهج الاستبداد والمغالاة في استعمال سطوة السلطة وجبروتها كان يصطدم في أحيان كثيرة بحائط المحاسبة وحتمية تحمّل المسؤولية، الأمر الذي كان يُغضب المسؤول المستبدّ في سعيه إلى السلطة المطلقة خالية من المسؤولية وإمكانية المحاسبة. فتلازم السلطة مع المسؤولية هي أمر بعيد عن تفكير أولئك الحكام.
إنّ غياب الشفافية والمحاسبة والمسؤولية قد فتح الباب على مصراعيه أمام الفساد الكبير الذي جعل من التعدّي على المال العام أمراً سهلاً، خصوصاً مع توفر الحماية الخفية ولكن الملحوظة، من قبل السلطة لذلك الفساد، وتورّط العديد من كبار المسؤولين في ذلك الفساد باعتباره فرصة متاحة ومن ثم حقاً مكتسباً لهم. وأصبح المال العام بذلك مستباحاً قي الوقت الذي تضاءلت فيه قدرة الدولة على حمايته إلى الحدّ الذي أصبح فيه التطاول على المال العام نهجاً معترَفاً به بصمت، وفي بعض الأحيان مدعاة للتفاخر العلني والمفاخرة بين اللصوص. وقد رافق ذلك تفاقم ملحوظ في حالات الفقر والمعاناة بين المواطنين الأمر الذي ساعد على زيادة الفجوة بين الحكم والشعب.
إنّ نهج «النظام الأبوي الرعوي» التي اتبعها النظام الأردني مثلاً والذي يوفر لجزء من المواطنين على حساب باقي المواطنين، الوظيفة والتعليم والرعاية الصحية والتقاعد بهدف استقطاب ولائهم خصوصاً ضمن التجمّعات العشائرية، أصبحت قضية شائكة وغير مقدور عليها مالياً، وأصبحت موارد الدولة عاجزة عن تمويل هذا «النظام الرعوي». وعوضاً عن إعادة النظر في هذا النهج وإعادة هيكلته ليناسب إمكاناتها، لجأت الحكومات الأردنية المتعاقبة إلى الضغط على المواطنين من خلال سياسة جباية ضرائبية جائرة فاقت حدود المعقول وقدرة المواطن على الدفع دون أي محاولة جدية لقطع دابر الفساد الكبير واستعادة المال العام المنهوب. وهكذا تمّ ذبح جزء من الشعب لتمويل الجزء الآخر، والهدف لم يكن دولة الرخاء ولكن شراء الذمم والولاءات. وتطورت الأمور إلى ما يشبه الدائرة الجهنمية المفرغة بعد أن تمّت قسمة الشعب إلى قسمين: متلقي الدعم ومموّل الدعم، وكلاهما غاضب. فمتلقي الدعم غاضب لأنّ الدعم أخذ في التناقص مع فقدان الدولة المتزايد لمواردها، ودافع الضربية غاضب لأنّ الضرائب أصبحت فوق قدرته على الدفع، مع بقاء طبقة المسؤولين الفاسدين آمنة وفي معزل عن كلّ ذلك. ووقع النظام في فخ فقدان القدرة على السيطرة على قوى الدفع السلبي بين كلا الطرفين من المواطنين. ونشأ فراغ وتبَاعُدْ بين الشعب في واقعه المرير المتفاقم وبين السلطة، وكان من المُحَتّم أن تقوم قوى أخرى بتعبئة هذا الفراغ. وإنقضّتْ داعش ذات الخلفية الإسلامية المزعومة على ذلك الفراغ في محاولة جادّة لتعبئته مستغلة بذلك خلفيتها الدينية التي جعلت من قبولها بين أوساط الجماهير البسيطة أمراً أكثر سهولة من تنظيمات أخرى ذات خلفية سياسية أو فكرية عقائدية.
إنّ قبول الأنظمة العربية المستبدّة بتوجيه اللوم في تفشي «الإرهاب» واستفحاله إلى قوى أخرى مُبْهمة، وحصر معظم الأسباب بالإسلام المحافظ والمتزمّت عموماً والمسلمين العرب خصوصاً هي محاولة بائسة لإبعاد اللوم عنها وعن سياساتها والاكتفاء بلوم الآخرين الأمر الذي لن يؤدّي بالنتيجة إلا إلى مزيد من الأخطاء القاتلة التي تؤدي إلى استفحال التأييد للمنظمات الإرهابية كوسيلة لتنفيس الضغط وكقناة للتعبير عن الغضب والرفض لتلك الأنظمة التي يعتبرها الكثيرون مسؤولة مسؤولية مباشرة عن واقعها السيّئ.
«الإرهاب» اصطلاح غربي له مدلولات محدّدة تشير معظمها بأصبع الاتهام إلى الإسلام والمسلمين وإلى حدّ ما إلى العرب، وهو اصطلاح عنصري في أصوله وإقصائي دموي في أهدافه. والأنظمة العربية بحكم واقعها المستبدّ اختارت القبول بذلك المفهوم للإرهاب باعتباره وسيلة للنجاة ومدخلاً لتجنيبها أيّ مسؤولية في المساعدة غير المباشرة على انتشار التأييد للمنظمات «الإرهابية» مثل داعش كنتيجة حتمية لاستبدادها وفسادها. وقد ترافق ذلك كله مع تجاهل تامّ للإرهاب الإسرائيلي ضدّ الفلسطينيين والذي يمتدّ لعقود طويلة، فـ«إسرائيل» ومن قبلها التنظيمات الصهيونية المسلحة مثل الماباي والايرجون Mapai and Irgun هم أول من أدخل الإرهاب إلى منطقة الشرق الأوسط. و«إسرائيل» ما زالت تمارس هذا الإرهاب ضدّ المجتمع المدني الفلسطيني، ومع ذلك فإنّ المجتمع الدولي ما زال يتفادى الإشارة إليها وإلى دورها كمنبع للإرهاب وقد يكون في انحصار دورها الإرهابي بالفلسطينيين والعرب ما يدفع الغرب إلى تجاهل هذا الإرهاب. وفي كلّ الأحوال، فإنّ سياسات «إسرائيل» الإرهابية والعنصرية والدموية ضدّ الفلسطينيين قد دفعت العديدين إلى اعتبارها الكيان الإرهابي الأكبر وإلى اعتبار من يدعمها ويؤيدها عدواً يستحق المطاردة والعقاب.
لم تعِرْ الأنظمة الحاكمة أيّ اهتمام لمصالح الأمة والدين، واعتبرت أنّ مصالحها وسلامتها هي الهدف الأهمّ. ولم يَخفَ هذا الأمر عن القوى الكبرى التي استغلّته لإجبار تلك الأنظمة على تقديم المزيد من التنازلات القومية والوطنية والدينية ثمناً للقبول بالتفسيرات الصادرة عنها، وتبرئتها من أيّ مسؤولية في تفشي الدعم للمنظمات الإرهابية نتيجة لسياساتها تلك.
هذه السياسة بالطبع انتقائية وليست مبنية على أسس متكافئة بالنسبة لجميع الأطراف. حيث يتمّ تجاهل الدور المتزمّت للحركة الوهابية في السعودية وأثره على انتشار الإسلام المتزمّت الدموي والتنظيمات الدموية المرافقة له مثل «القاعدة» و «داعش». ولولا سطوة الإعلام في الأنظمة الغربية الديمقراطية لماَ سَمِعَ أحد بدور «الحركة الوهابية» والسعودية مثلاً طالما كان ذلك في مصلحة الدول الكبرى و«إسرائيل» ولتمّ حصر الأمر بأعداء الدول الكبرى و«إسرائيل» مثل إيران وحزب الله.
إنّ عدم الفصل بين العروبة والإسلام من جهة و«الإرهاب» من جهة أخرى كان يهدف في الواقع إلى اعتبار مكافحة الإرهاب مسؤولية عربية وإسلامية تهدف إلى وضع العرب والمسلمين في خط النار وفي موقع المذنب بالإضافة إلى تسهيل مهمة الدول الغربية و«إسرائيل» الساعية إلى تدمير العالم العربي.
إنّ خلق ظاهرة «الإرهاب» من خلال إما تسهيل مهمة بروز تنظيم مثل داعش ومن قبله «القاعدة» أو المساعدة في ظهوره أو التغاضي عنه في مراحل التأسيس، يشير إلى أنّ ظاهرة «الإرهاب» وتضخيمها كانا جزءاً من مخطط مقصود لتبرير العدوان على العالمين العربي والإسلامي تحت شعار «مكافحة الإرهاب»، وتنفيذ مخططات تنسجم والأهداف الأميركية والإسرائيلية. وعند القول بوجود دور لأميركا مثلاً في إنشاء أو نشوء تنظيم مثل داعش، فإنه لمن السذاجة الافتراض بأنّ ذلك يعني وجود قرار حكومي أميركي بإنشاء داعش مثلاً كتنظيم إرهابي أو وجود علاقة عضوية تنظيمية معها، بقدر ما يعني أنّ نشأة ذلك التنظيم ومساره ينسجم مع الأهداف الأميركية إلى الحدّ الذي يفترضْ فيه أنّ أميركا لن تألو جهداً في الحفاظ على ذلك التنظيم واستمراريته.
إنّ قدرة الدول الكبرى على التلاعب بالمصالح العربية والإسلامية وضعف الأنظمة الحاكمة في تلك الدول وابتعادها عن شعوبها قد ساهم في تدويل المعركة ضدّ الإرهاب وعليه وتحويلها في معظم الحالات إلى وسيلة وعذر للعدوان على سيادة وأراضي العديد من الدول العربية والتمهيد للاعتداء على بعض الدول الإسلامية. وهذه المعادلة العدوانية الظالمة ساهمت في تدمير بعض الدول العربية مثل سورية وليبيا واليمن والعراق وأعطت «المبرّر القانوني» وليس الأخلاقي للاعتداء عليها وتفتيتها.
الإرهاب هو واقع مفروض على المنطقة وليس بالضرورة إفرازاً مباشراً لقيمِها ودينها. إنّ طرح رؤية أميركية مثل «الفوضى الخلاقة» Creative Chaos كوسيلة ومَعبَر للتغيير في المنطقة ترافقت مع ربطها بموضوع الإرهاب واعتباره تطوّراً حتمياً بافتراض أنه ينبع من داخل المنطقة وليس، كما هو عليه الحال، باعتباره رؤية مفروضة من خارجها تعمل على استغلال أدوات وظروف محلية تسمح بإلصاق تهمة «الإرهاب» بها. فالإرهابيون منها، والضحايا منها، والتدمير فيها والتهجير لأبنائها والتفتيت لدولها. والمسار الإعلامي الصادم الذي اختطه الإرهاب من خلال ارتكاب جرائمه عَلناً على وسائل الإعلام المتلفزة كان يهدف في حقيقته إلى خلق شعور بالصدمة والخوف داخل المجتمعات الغربية ساهمت في إعطاء التبرير لحكوماتها لاستعمال القوة العسكرية ضدّ دول المنطقة وأبنائها بحجة احتواء ذلك الإرهاب والقضاء عليه، الأمر الذي لم يتمّ فعلاً، ليس لقصور في قوة الغرب، ولكن لعدم الرغبة في القضاء النهائي على التنظيمات الإرهابية نظراً لأنّ دورها في تدمير دول المنطقة لم ينته فعلاً، اللهم إلا إذا تغيّرت الأهداف الأميركية ووسائلها بعد مجيء إدارة دونالد ترامب إلى الحكم وأصبح القضاء على التنظيمات الإرهابية هدفاً أهمّ من تدمير دول المنطقة، أو إذا ما تمّ الاكتفاء بتدمير ما تمّ تدميره فعلاً من دول المنطقة، والقول الفصل في سياسة أميركا في منطقة الشرق الأوسط يبقى في نهاية الأمر مرتبطاً بمصالح «إسرائيل».
مفكر ومحلل سياسي