ترصيعٌ بالذهب على رخام الدهر في الشهباء حلب

محمد رستم

على بُعد طلقتين وشهقة دم، أسرج حروفه ليكون على مرأى العين من حرّاس الفجر وهم يخطّون أبجدية الحياة، وليشهد ميلاد الفصح المبين في توأم دمشق، في الشهباء حلب، لحظة كانت قاب أنملةٍ أو أدنى من التحرير وفكّ رقبة، بعد أن استباح الطغاة أهلَها واستعبدوهم ذات مؤامرة، فعشّش فيها عثّ الجهل وفطريّات الظلام وبراغيث المستنقعات الآسنة.

وعندما تمتزج روعة الحروف مع انتصارات الوطن، تكون لرحم الكلمات ولادة مدهشة، يصبح الحرف رصاصة، والكلمة قذيفة، والقصيدة من أسلحة التدمير الشامل، وتلتمع المحاور الدلالية من خلال عدد من الحقول الدلالية الممتدة في القصيدة من مثل حقل «الوطن، الانتصار، الإرهاب»، وقد تضافرت هذه الحقائق ولتبرز البؤرة الدلالية المؤسّسة على حبّ الوطن وجمالياته والفرح لتحرير حلب والاعتزاز ببطولات الجيش السوري والقيادة السورية، والكراهية للإرهاب وداعميه.

يبدأ الشاعر ترنيمته بأحد أشكال الإثبات غير المباشر وهو الشرط والشرط لغة هو العلامة اللازمة ومفهوم دلالة اللفظ المقيّد فيه الحكم بأداة الشرط لزوماً، يقول:

إن يسأل الشعر والتاريخ والأدب

عن درّة ثملت من ذكرها الكتب

وبالتفاتةٍ فنّية أخفى الشاعر الجواب المباشر إذ أتى به بصيغة الفعل الماضي، معتمداً الدالّ سرى بدل أجاب ، متجنّباً بذلك الشائع لكلّ سؤال جواب . وبذا فقد جاء الجواب وفيه شيء من المواربة ليمنحه حلّة البهاء الفقهي وليستشفّ المتلقّي ذلك بنفسه يقول:

سرى إلى حلّ نبض القلوب كما

سرت بأفلاكها الأنوار والشهب

وحيث تبقى حلب مهوى الأفئدة يسري إليها النبض بتوق ولهفة كما سرت إليها قوافل الأعلام والنجوم من أساطين الأدب ودارت في فلكها.

ولا يفوت الشاعر أن يذكر أنّ حلب إنما هي توأم الشام بلد الياسمين والطهر التي تشبه السحب الناصعة بياضاً، «للياسمين بأرض الشام توأمة»، ويشير إلى سورية من خلال عاصمتيها دمشق وحلب، وتظلّ حلب مدينة الطهر الناصع الذي يحاكي بياض الصبح، كما أنها مدينة الفنّ العريق، حيث تنسب إليها القدود. بياضها لبياض الصبح منتسب، حتى لأنّ الدهر والحقب تزدهي ألقاً وتتيه افتخاراً. وعند التفاخر تسمو حلب على غيرها بقوّتها ومجدها وأدبها.

ويرتقي الشاعر إلى مكانة حلب التي باتت تغار منها الشمس لسحرها ولديمومة إشعاعها ولعلوّ مكانتها تتبوّأ أبراج السماء منازل لها وهي تفاخر بطهرها، فالياسمين ثوبها الذي به تزدهر.

وكم قاست من آلام وويلات، وأدمى الناعبون من غربان الإرهاب مآذن الطهر فيها واغتالوا صوت الآذان المؤمن، إذ أسكتوا صوت بلال مؤذّن الرسول. ونشر الإرهاب حقداً وجمراً يلهب عيون الآمنين.

والشاعر يدرك بعينَي صقر دقائق الأمور. وكيف تمطر دمشق التصحّر العربي وابلاً من ياسمينها وعبق عراقتها فتعيد إلى الأعراب كرامتهم المهدورة. فلولا دمشق لما عُرف لهؤلاء الأوغاد نسب، ولأن من طبعهم الغدر والخسّة وثبوا على حين غرّة يريدون الأذى بالشام. وكم استعانوا بها لتخلّصهم ممّا علق بهم من ذلّ وخنوع، وها هم يتحوّلون إلى شذاذ آفاق ويتناهبون كلّ جميل فيها وكالوحوش الضارية ولغوا بالدماء السورية. وكم تغاضى السوريون عن جرائمهم المتزايدة، ما جعل التراب السوري يثور غضباً منهم. فكان أن صرخ أسود الشام، أن جاء وقت الثأر. فتأبطوا الوطن قرآن قداسة وتأزّروا الشهادة جسر عبور وكانوا وحدهم القابضين على الوجع والدم. ولِمَ لا، فها هي حلب وهي في النزع الأخير من الروح بسبب سرطان الإرهاب وقد بدت تختلج وهي تتقيّأ ما علق بها من دنسهم فهبّت جحافلهم يعصبون رؤوسهم بشعاع الإيمان لا يخيفهم خطب ولا يؤخرهم أمر. وما أن تشتمّ أريج قميص حرّاس الفجر حتى تبصر نور الحرّية فتنتفض كما فينيق من تحت رماد الموت الأسود.

ويخاطب الشاعرُ الرئيسَ الأسد معتبراً إياه معتصم هذا العصر الذي تفخر بمناقبه الأشعار والخطب، فقد صبغ سيوف العزّ كما أكفّ العرائس تخضّب بالحناء، فغدت حمراء من دم الأعداء وستُكتب أمجادُه هذه بماء الذهب على وجه السماء.

ويتوجّه الشاعر إلى أعلامنا وعظمائنا وينهضهم من سباتهم التاريخي قائلاً:

استفق من رقدتك أبا فراس، فقد هُزم الروم، وها هو ابراهيم هنانو يشمخ معتزّاً بهذا النصر.

أخيراً، يخاطب حلب فيقول: لقد فرشت جفوني لك يا شهباء النور، فهل يكفيك ذلك كي تهنئي يا حلوتي.

هذه أهم المعاني الواردة في القصيدة.

ومنذ البدء نلحظ كيف يعزف الشاعر على مقام العشق أنغام الوطن، إذ يقدّم عربون عشقه على مدّ القول، بل هو ارتقاء بالعشق الوطني إلى قمة الوجد، فتبدو كلماته عالية القامة.

وإذ يتحدّث تأتي حروفه بصيغة الإثبات الناتجة عن يقين مطلق بانتصارات حلب ومكانتها معتمداً الجمل الإخبارية، وهو إذ يعتمد الأسلوب الخبري للتقرير والتوكيد وفق نمط بدا كالإيعازي على أن ما يبوح به حقائق لا يخامرها الشك، معتمداً ضمير الغائب «ها» تقاسمها، بها، لها، إنها، مقلتها، كأنها، دوحتها، أجفانها .

فحلب هي الغائبة الحاضرة بكلّ كيانها وصفاتها وأمجادها. فهي ليست كسرة دفء. بل هي الدفء كلّه في مواجهة صقيع إرهاب لم يدع، ولم يذر.

وقد ختم أبياته بالنداء الذي خرج عن حيدة الطلب والتماس الحاجة إلى معنى التحبّب والتودّد بقوله: «يكفيك يا حلوتي»، واستخدام دالّ «حلوتي» من الدوالّ الدافئة التي يتناغم بها العشّاق كأس الصبابة وهو مؤشّر مماهاة الشاعر بين المدينة والمعشوقة هي روحه التي تغازل الكبرياء.

وهو إذ يقول حلب درّة ثملت من ذكرها الكتب، فإنه يصمي أكثر من معنى بسهم واحد، فاستخدام الدالّ «ثملت» في هذه الصورة البيانية يشير إلى ما تمتاز به المدينة من روائع الخصال فالثمالة هنا هي نتاج الخصال الحميدة وكثرة الذكر معاً، وما يؤكد أن الشاعر وإن أخذته الحالة الشعرية فغاب في عالمها الخيالي الشفاف إلا أن وعيه ظلّ حاضراً في استخدام الدوالّ ذوات المدلولات المعبّرة عن مقصديته بذاتها. إذ يقول: «إن يسأل الشعر والتاريخ والأدب».

فإنّ لكلّ دالٍّ هنا ضرورة وجود حصرية: فالشعر لوصف جماليات حلب، والتاريخ للإخبار عن أمجادها وبطولاتها، والأدب ـ مع أنه يشمل الشعر ـ فإنه ينبينا عن فنونها التي اشتهرت بها، إذ تدخل القدود الحلبية كفنٍّ طربيٍّ أصيل ضمن سياق الأدب، فهي الصورة السورية للموشحات الأندلسية.

واستخدام الشاعر دالّ «سرى» وتعني السير ليلاً، و«نبض القلوب»، انزياح قصد به المشاعر: فالمشاعر تسري نحو حلب! وذلك في مماهاة بين المدينة والمعشوقة، فقلوبنا تتعشّق المحبوبة حلب، وتسري إليها.

وعند التوأمة بين دمشق وحلب اعتمد كذلك موضوعة العشق فبدا الشاعر مسافراً زاده الخيال إذ تهفو قلوب العشاق إلى دمشق وعيونهم ترنو إلى حلب، وهذا يذكّرنا بالمتنبّي:

كلما رحّبت بنا الروض قلنا

حلب قصدنا وأنت السبيل

وإذ تطوف حواسّه بين المدينتين طواف التبرّك، فلأن دمشق موطن الشمس وحلب موطن القمر، ها قد نحا الشاعر بفخره نحو بهائية القول البديع!

أيّ قدسية أضفاها الشاعر على سورية! إنه يخلع على أبعاد الجغرافيا بُردَةَ القداسة ويلبسها ثوب الطهارة والسموّ.

إنه يتعاطى مع دوالّه من منطق اللفظة الحصرية المقصودة بالاختيار، ومن يعرفه عن قرب يدرك كيف يتعامل مع مفرداته التي يودعها ـ طيّ ذاكرته ـ دقّة مدلولاتها ليأتي بوحه عطراً ينضح من مخزونه الثقافي الذي يطفح من عبق التراث الأدبي العريق، وواضح ذلك في مفرداته وطريقة السبك وسياق رسم الصورة البيانية.

وما يميّز شعر بدر رستم جزالة اللفظ ورصانة الأسلوب ومتانة السبك وتآلف الدوالّ في تشابكاتها، ما يكسب المفردة ألقاً ولمعاناً فتبدو لغته شعرية بذاتها رافلة بحضورها البهيّ.

وإذا كان النصّ ينمّ عن تألّقٍ وخبرة دربة، فهو يشي كذلك بشاعريته المطبوعة التي تأنف الأساليب المسبقة الصنع، ما يجعلنا نتلمّس فرادة صوته وعمق ثقافته الأدبية التاريخية استخدام المفردات: المعتصم، عاربة، عطفيه، جرّت الذيل، تبر الذوائب، تسنّم، تميس، الحبب، نعبوا، جلّق، ذؤبان، أولغوا، أغضى، ونى ، وجاء بالمفعول المطلق «عذراً دمشق»، ليمكّن القول وليكشف سوأة الخيانة.

ومن الملاحَظ أنّ الشاعر من حيث يدري أو لا يدري، فقد أكثر من استخدام صيغة الفعل الماضي حين تناول الإرهاب: مرّت، أدمت، نعبوا، اغتال، أوقد، كانوا، وثبوا، تناهبوا، ولغوا، شربوا، أغضى، إلخ وكأنه يريد أن يشي بأنّ الإرهاب استمدّ نسغ وجوده من الجذور العفنة في الماضي، وأن لا مستقبل له، فهو سحابة كاذبة ونهايته إلى زوال. بينما أكثَرَ من الأفعال المضارعة في حديثه عن حلب وأبطال الجيش السوري: يسأل، تحتجب، تميس، تعصبهم، يشكون، تزهو، تهنأي، إلخ ليؤكد الحيوية والحضور والديمومة.

وتطفح من النصّ المقاربات الدلالية بين أبراج السماء والرفعة والسموّ، وبين الياسمين والطهر والسلام، وبين إغضاء التراب وصبر السوريين. ولما كانت حدود امتلاكه للواقع يقينيةً، فقد جاءت صوَرُه واضحة مرسومة بريشة فنية خبيرة تتواشج والمدّ العاطفي، لقلبه مع أن صوَره لا تخرج عن بيان شعر الشطرين: إذ يجعل الكتب تثمل، والدهر يهزّ عطفيه مرحاً، والحقب تجرّ الذيل تيهاً، ونبض القلوب تسري، والشمس تغار من حلب التي تقاسمها ألق الإشعاع.

الله، الله، ما أمهر ريشتك الفنية وهي ترتحل بنا إلى أعالي الفضاء فنرنو إلى حلب من علٍّ وقد لثمتها أشعة الشمس وبدت وكأنها كأس خمرة تشعّ نوراً بيد السماء، وما النجوم إلا الحباب الذي يعلوها!

واعتمد الشاعر إيقاع البحر البسيط وفي رويّ الباء بما فيه من تفجّرٍ وصخب ليتناسب مع عظمة الحدّث.

أخيراً نقول: حقّ لهذه الملحمة أن تُكتَب بماء الذهب على أسوار قلعة حلب فهي صنو النصر، ومعادل موضوعيّ لما جرى على تراب الوطن.

أيها المبدع، لك ألف غيمة عطر، فقد جاءت حروفك قناديل محمّلة بهالات النور، وكانت صوَرُك يماماً تحملنا سحر خيالاتها على أجنحة البوح إلى عوالم رائعة. هي متعة الحرف من استطاع إليه سبيلاً، بل هي روعة الدهشة تقدّ قميص أرواحنا من قبل فتسافر نفوسنا زادها الخيال إلى عوالم الهدهدة.

لأريج حرفك الذي يتعشّق الذاكرة ويعشّش في مروجها ليدوم طويلاً كلّ التقدير.

القصيدة

إن يُسألِ الشعر والتاريخ والأدب

سرى إلى حلبٍ نبض القلوب كما

وهزّ عِطفيه دهر… وازدهى مرحاً

وغارتِ الشمس من شمسٍ تُقاسِمُها

وقام من غابر الأمجاد مجدُ بني

تسنّمتْ ذروةَ التاريخ يحملها

ألقت على عاتق الأيام مِطرفَها

لا تعجبَنَّ… فأبراج السماء لها

بياضُها لبياض الصُّبحِ منتَسِبٌ

والياسمين من الفيحاء ألبسها

بيادرُ الألق الضافي بقلعتِها

كأنَّها وبريقُ الضّوء يملأها

مرّت بدوحتها الآلام مُثقلةً

فأدمتِ الحسنَ… أبكتْ كلَّ مئذنةٍ

وأوقدَ الحقدُ في أجفانِها لهَباً

والحائمونَ على أوصال نازفةِ

عذراً دمشقُ ! فما الأعرابُ عاربةُ

بالأمس كانوا هنا… واللينُ ملْمسُهم

تناهبوا من أزاهير الضياء ندى

والأرذلون إذا مرّوا بوارفة

وكانتِ الصرخة الكبرى مجلجِلةً

ثار التراب على خَطوٍ يغاضبه

وسار للزحف جندُ الله تعصبهمْ

بكل أروعَ في الهيجاء أفتكُ من

مواكب النور… من لا يشكون ونىً

الواهبون وميضَ البرق خطفته

طاف الخلود بهم يستافهم أرجا

وها تبلّج إصباحٌ وفاض سنىً

وكنتَ يا أسدَ الفيحاء معتَصَماً

يا خاضب السيف من أوداج طاغيةٍ

رصّعتَ بالتبر سيفاً والسيوف إذا

سيذكر الدهر ما خطّت يداك على

هي الحروف خيوطُ التبر مئزرُها

يا مخجلاً سبعةَ الأبحار فيضَ ندى

الشمس في جِلّقٍ والبدر في حلبٍ

فالشام مهوى قلوب العاشقين كما

فرشت جفني لشهباء الضياء فهل

عن دُرّةٍ ثمِلتْ من ذكرها الكتب

سرَت بأفلاكها الأنوار والشُّهُب

وجرّتِ الذيل من تيه الصِّبا حِقَب

تِبَرَ الذوائب… لكن ليس تحتجب

حمدانَ… مزدهياً، كالطود ينتصب

إلى العلا الأمجدان: السيفُ والأدَب

فأمطرتنا بـ«سيف الدولة» السُّحُب

منازلٌ ـ إن أرادت ـ إنّها حلب

كما القدودُ لها تُنمى وتنتسِب

رداءَه فبدا من قدِّها العجب

مروجُ عشق… ومنها الطّيْب ينسرب

كأسٌ بكفِّ السّما… والأنجمُ الحَبب

بالموجِعات… كما البركانُ تصطخب

واغتال صوتَ بلالِ الله… مَن نعَبوا

لهْفي على الحسْنِ أدمى جفنَه اللَّهب

ذؤبانُ بِيدٍ… ولكنْ جلُّهمْ عرب

لولا أياديك لم يُعرَف لهم نسَب

حتى إذا أمكنتْهمْ غِرّةٌ وثبوا

وفي دمي ولغوا… من نزفه شربوا

ينوح ساجعُها… والغصن يُحتطَب

من الأساودِ: أن لبَّيكِ يا حلب

حتى التراب به يستوطن الغضب

بالأصفر الشمس يا لَلشمس تُعتَصَب

ذي لِبْدةٍ مسَّه في غابه الغضب

والقاطفون نجوم الليل إن ركبوا

والساكبون دماً… يا قُدسَ ما سكبوا

فأودعوه نزيف الجرح واحتجبوا

على الربوع وغنّى لحنَه القصب

سارت بسيرته الأشعار والخطب

كما العرائس بالحِنّاء تختضِب

ما استلّها الحقُّ دانتْ للظُّبى الخُطُب

أديم هذي السما… ولْتخجلِ الشُّهُب

والحرف أميس إمّا ثوبه الذهب

ودون كفِّك في تهتانها السّحب

والكون من معدِن الأنوار ينتهب

إليك تنجذب الأحداق يا حلب

تكفيك يا حلوتي ـ كي تهنأي ـ الهدُب!

كاتب سوري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى