– أستانة: ترويكا نواة نظام إقليمي جديد
ناصر قنديل
– يتخطى مشهد أستانة المساعي المعلنة لرعاته في العمل على تثبيت وقف النار في سورية، والأزمة في سورية والحرب فيها وعليها هي خلاصة تناقضات وصراعات دولية وإقليمية متراكمة ومتشابكة خلال ربع قرن، عنوانها مخاض ولادة نظام إقليمي جديد لمرحلة ما بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار جدار برلين ونهاية الحرب الباردة، فقد تجمّعت في سورية آخر المحاولات الأميركية لإنقاذ مشروع القطبية الأحادية بعد حروب العراق وأفغانستان الفاشلة، ومحورها تحجيم إيران وإبعاد روسيا والصين عن البحر المتوسط. وتلاقت معها آخر المحاولات «الإسرائيلية» لاسترداد موازين الردع ومكانة الدولة الأولى في الشرق الأوسط القادرة على المبادرة العسكرية والسياسية بعد حروب فاشلة في لبنان وغزة، ومعهما ممالك وإمارات الخليج وحكومات أوروبا في أحلام وأوهام جمع استثمار المال والذكريات والأحقاد لصناعة سياسة عنوانها الديمقراطية بقيادة قطرية سعودية ووطنية بقيادة فرنسية بريطانية، لترميم ما تداعى من حجارة بيوت قديمة مع زلازل فشل الحروب الأميركية و«الإسرائيلية»، التي طالما توقّف على نجاحها تدعيم بنيان هذه البيوت، ومراكمة الأرصدة الأوروبية والخليجية في الشرق الأوسط سياسياً واقتصادياً.
– كانت تركيا المفتاح الحاسم في منح هذا التجمع فرصة خوض محاولته الأخيرة لاستنقاذ وإعادة إطلاق ما ضاع من فرص للنجاح في استيلاد نظام إقليمي جديد يوقف التداعي ويؤسس لمرحلة طويلة من السيطرة، وتركيا التي لعبت على خط الوسط بين قوى هذا التحالف الرباعي الأميركي الأوروبي «الإسرائيلي» الخليجي من جهة، والقوى المواجهة من جهة مقابلة، وفي مقدّمتها روسيا وإيران وسورية، تشكل أكثر من مجرد قيمة مضافة لتحقيق هذه الفرصة، فطالما أن سورية هي المربع الذهبي في رقعة الجغرافيا السياسية التي يتغير معها كل شيء وينقلب إلى عكسه، من مكانة إيران واتصالها بملف فلسطين وقوى المقاومة، وقدرتها التفاوضية في ملفها النووي بالتالي، إلى نافذة روسيا والصين على المتوسط، إلى مستقبل موازين القوة الحاكمة للصراع مع «إسرائيل»، وصولاً لخطوط النفط والغاز التي تربط الخليج بأوروبا، ومنح كل منهما الجائزة الكبرى في لعبة النفوذ الضائع، فإن تركيا هي الجوار القوي والضروري والمتداخل والقادر على التدخّل، بالنسبة لسورية، وهي القيادة العالمية لتنظيم الأخوان المسلمين العنوان اللازم لشرعية «ثورة» لا بدّ منها لإخراج حروب التغيير، والبوابة اللازمة للزج بالجيش الرديف الذي يمثله تنظيم القاعدة عند الاستعصاء العسكري في الحرب بتمويل سعودي وتحضير وتجهيز غربيين، فتصير تركيا «ال التعريف» للانتقال من خطة حرب إلى الحرب. وبتموضع تركيا وتقاطع طموحات العثمانية الجديدة مع مشروع نظام إقليمي جديد تكون اللاعب الحاسم فيه، بدأت الساعة الصفر.
– الذي يجري في أستانة هو حاصل تراكم ربع قرن معاكس من التاريخ ذاته مع سقوط جدار برلين، استردّت خلاله روسيا حيويتها كدولة فاعلة وصاعدة ودخلت الصين خلاله نادي الأوائل اقتصادياً، وصارت جاهزة لممارسة حق الفيتو في مجلس الأمن، وتهيأت فيه إيران لمواجهات القرن الحادي والعشرين، وتصلّب خلاله عود المقاومة في لبنان لحروب إقليمية تتخطّى حدود لبنان، وتمرس فيه السوريون شعباً وجيشاً في كيفية تحمُّل آلام المخاض وشبح الحرب الأهلية من دون تضييع البوصلة والغرق في الفتنة، وتدحرجت في سنواته الخمس الأخيرة المعارك تلو المعارك ترسم الخطوط وتقطع الخيوط، وصولاً لرحلة الأساطيل الأميركية إلى المتوسط ذهاباً محارباً وعودة خائبة، وانتهاء بمعارك حلب، وبينهما تموضع روسي عسكري بعكس الحركة الأميركية، فكان التفاهم على الملف النووي الإيراني، وكان التفاهم الروسي الأميركي الأبعد من قرار إدارة ترحل وإدارة تأتي، وكانت الانتخابات الرئاسية الأميركية وسقوط رهان مواصلة الحرب بعنوان هيلاري كلينتون، ووصل دونالد ترامب وعنوان التشبيك مع روسيا في الحرب على الإرهاب، وحصر الصراع مع إيران والمقاومة في مستقبل أمن «إسرائيل» بعيداً عن مستقبل سورية، وفي قلب ترسيم هذه النهايات كان المفصل كما في البدايات موقع تركيا، فكان الانقلاب وكان الاشتباك المتهوّر مع روسيا، ونجحت حروب التأديب السياسية والاقتصادية بإعادة تركيا تحت رعاية روسية أميركية مشتركة إلى خط الوسط بإغراءات دور وازن في نظام إقليمي يختصره الثلاثي الخارج من أستانة، روسيا وإيران وتركيا، لما هو أبعد من آلية لمراقبة وقف النار. وقد قال دونالد ترامب ذات مرة وهو مرشح رئاسي: لماذا لا نلزَّم روسيا القريبة وصاحبة المصلحة مهمة ترتيب وضع الشرق الأوسط وندعم حربها على الإرهاب؟
– في قلب هذه الثلاثية سيدور الصراع حول سورية سياسياً وسيدور الصراع حول دور المقاومة، وسيدور الصراع على أمن «إسرائيل»، وسيكون لأميركا نصيب القول والفعل من ضمن نظام الترويكا، وليس من خارجه، لكن جولة هامة من حروب القرن الحادي والعشرين تنتهي بآلية ثلاثية، ترويكا جناحاها إيراني وتركي يتقابلان ورأسها روسي له الكلمة الفصل والصوت المرجّح، يتطابق مع محور المقاومة في مستقبل سورية، فيكون الربح نصيب مَن معه نقطتان من ثلاث، ويتمسك بحلّ للقضية الفلسطينية بقيام دولة مستقلة عاصمتها القدس وتفكيك السلاح النووي والكيميائي «الإسرائيليين»، وحتى ذلك القبول «الإسرائيلي» الصعب، لن يكون عقبة أمام مشروع المقاومة بقدر من الانتباه والذكاء التكتيكي لا ينقصانه، ويكفي أن تكون الحصيلة في رصيد محور المقاومة نقطة ونصفاً مقابل نقطة ونصف من ثلاثة ليبقى رابحاً.
– تدخل المنطقة ترسيم الحروب والتسويات على خطوط ترويكا النظام الإقليمي الجديد، ومؤتمر الكويت للحوار الخليجي الإيراني، كما إعلان وزير الخارجية السعودية عادل الجبير عن دعم الموقف التركي في أستانة، يقولان الكثير، ولو قال رئيس القوات اللبنانية إن الذي جرى في لبنان من توافقات لا أبعاد إقليمية ودولية لها.