من الشلل السياسي إلى الشلل الاقتصادي والعلاج بقانون النسبية

ساسين عساف

ثمّة تساؤلات كثيرة تدور حول المعضلات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية السائدة. من أهمّ هذه المعضلات إتّباع سياسة إهمال المؤسسات الصناعية فانخفضت إنتاجيتها وتدنّى مستوى جودتها وضعفت قدرتها التنافسية. يستحيل مواجهة الإنهيار في القطاع الصناعي من دون إجراء تعديلات أساسية في السياسة الإقتصادية للحكومة فتقلع عن اعتبار الإقتصاد اللبناني ذا طابع خدماتي فقط.

إذا كان لبنان في مرحلة ما قبل الحرب فيه وعليه مستودع الشرق وممرّه ووسيطه ومصرفه وسياحته ومركز اتصالاته ومواصلاته وطبابته وتعليمه، ما شكّل عوامل ازدهار الاقتصاد اللبناني، فإنّ الوضع في مرحلة ما بعد الحرب قد تبدّل ولم يعد لبنان ضرورة إقليمية ذات دور وسيطي في اقتصاديات المنطقة العربية بفعل ما خلّفته الحرب من تدهور المؤشّرات الاقتصادية: انخفاض الناتج المحلّي، العجز في ميزان المدفوعات، تقلّص التحويلات النقدية من الخارج، ارتفاع الدين العام، العجز في الموازنة، العجز في الميزان التجاري.

أمّا القطاع الزراعي فليس أحسن حالاً من القطاع الصناعي ويحتلّ المرتبة نفسها في سلّم أولويّات الحكومة، ما رتّب أوضاعاً ديموغرافية أسهمت في تفاقم الأزمة، منها: هجرة أبناء الريف إلى المدن فازدادت مساحات الأراضي البور اتّساعاً، تعميق تبعية لبنان الغذائيّة. إنّ حاجات لبنان الغذائية تؤمّن من خارج الحدود. والأمر لا يستقيم ما لم يعمد سريعاً إلى فتح الأرياف ومناطق الأطراف، وهي مناطق زراعية، أمام خطّة تنموية/ إنمائية شاملة.

أمّا القطاع المصرفي فيبدو أنّه الثابت الوحيد في وجه الأزمات ولم يتأثّر إلا بحدود ضيّقة بالركود الاقتصادي العام وتقلّص التحويلات النقدية من وراء الحدود. هذا، والقطاع المصرفي، في أيّ بلد، قبل أن يقوم على الثقة بالنظام الاقتصادي والسرّية المصرفية، فإنّه يقوم على الثقة بالنظام السياسي الكفيل بتأمين مستوى من الطمأنينة النفسية لدى المودعين والمستثمرين والمتعاملين مع هذا القطاع خصوصاً بالعملة الوطنية.

نتيجة هذه المعضلات في القطاعات الثلاثة يجد معظم اللبنانيين أنفسهم في أوضاع اجتماعية سيّئة نعدّد منها الآتي: التفاوت الهائل بين طبقتين، الغنية المترفة والفقيرة المعدمة، وانعدام الطبقة الوسطى، ما يهدّد السّلم الأهلي وينذر بتفجّرات اجتماعية خطيرة، منها هجرة الشباب اللبناني وازدياد العمّال غير اللبنانيين بكثافة هائلة خصوصاً بعد تدفّق النازحين السوريين في السنوات الخمس الأخيرة.

إنّ ما ذكرناه بصدد الأزمة الاقتصادية والاجتماعية يضعنا أمام الأسئلة الكبيرة، منها: هل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الراهنة هي أزمة مرحلية عارضة أو هي دائمة تصعب معالجتها لأنّها أصابت بنية الاقتصاد اللبناني؟

إنّ الإجابة عن هذا السؤال لا تتمّ في إطار اقتصادي بحت. فمسائل الاقتصاد لا تحسم على صعيد اقتصادي فقط بل على صعيد سياسي أيضاً. وهي ترتبط بالأزمة السياسية ببعديها المحلّي والاقليمي.

لقد أثبتت تجربة رأس المال في السلطة تجربة الرئيس رفيق الحريري أنّ الاقتصاد لا يستوي أمره بعيداً من المعالجات السياسية التي تؤمّن الاستقرار الفعلي. الأمن السياسي لم يكن متوافراً آنذاك يتقدّم على الأمن العسكري كان متوافراً بفضل الوجود العسكري السوري في دفع العجلة الاقتصادية. والوضع في لبنان حتى اليوم ليس آمناً لهذه الجهة لانعدام الوفاق الحقيقي والمصالحة الوطنية الحقيقية.

مهما بذلت حكومة العهد الجديد عون – الحريري من جهود لإنهاض الوضع الاقتصادي فإنّ جهودها لن تثمر إلاّ في ظلّ الأمن السياسي المطلوب. فالعامل النفسي المتأثر بالوفاق أو عدمه لدى المواطنين هو أقوى من أيّ جهد يبذل للحؤول دون تفاقم الأزمة. والمعالجة المطلوبة هي معالجة سياسية قبل أن تكون معالجة مالية أو اقتصادية على الرغم من كلّ التطمينات التي يوزّعها حاكم المصرف المركزي.

لقد حاولت الحكومات السابقة، حكومات ما بعد الطائف، أن تضع مشاريع حلول. مشاريعها الإنمائية والإعمارية لم تنجح في تطوير الحركة الاقتصادية وإنعاشها لأنّ التأزّم السياسي في البلاد كان سائداً وما زال. فالمشكلة ليست في نظامنا الاقتصادي، مع التأكيد على ضرورة تطويره وضبطه وإعادة تنظيمه أو هيكلته وتفعيل مؤسساته ووسائل إنتاجه وتوزيع ثرواته والقضاء على جيوب التوحّش وفيع والفساد والاحتكار، بل إنّها، في جانب كبير منها، في الأزمة السياسية القائمة والمتفاقمة.

غياب الاستقرار السياسي ينهك الاقتصاد. والاقتصاد لا يبنى فوق أوضاع وفاقية مصطنعة أو وهمية. وإزالة التشنّجات السياسية تبدأ بتحقيق المصالحة الفعلية وبتأمين التوازن الدستوري في السلطة. إنّ أوضاعاً غير طبيعية لا تشكّل الأرضية الصالحة والموثوقة لتحريك العجلة الاقتصادية في اتجاه المزيد من النموّ والإنتاجية.

الشّلل المشكو منه، إذاً، شلل سياسي. والخوف في هذه المرحلة هو الانتقال من حال الشّلل الجزئي إلى حال الشّلل التامّ. عودة النّبض إلى الحياة السياسية هي التحدّي المطروح أمام الجميع. فليكن الهمّ الوطني الجامع منصبّاً على هذه القضيّة: كيف نعيد بناء حياتنا السياسية؟

الجواب واضح بإعادة تكوين السلطة التشريعية عبر نظام انتخابي يعتمد النسبية وإجراء انتخابات عامة حرّة ونزيهة لا يفسد صحة التمثيل فيها المال السياسي أو لا عدالة القانون.

المرحلة تتطلّب مثل هذا النظام الذي لن يولد إلا من أصحاب المواقف الوطنية المسؤولة عن جميع اللبنانيين والمبادرات السياسية الهادفة إلى التلاقي مع الجميع وإلى إشراك الجميع في تحمّل المسؤوليات واتّخاذ القرارات المصيرية.

لقد ملّ الشعب الحديث عن حلول لأزمة التمثيل الشعبي تأتي وهي لا تأتي. وما يشهده اللبنانيون من تجاذبات بشأنها هو الغلاف الرسمي للفراغ الرهيب في الحياة السياسية والتمويه وإطالة عمر النظام الطائفي.

ما يريده الناس هو تنظيم المشاركة في الحكم وبناء دولة المؤسسات والتوازن الدستوري والوفاق الوطني. وهذا ما لا يتمّ إلا بنظام انتخابي جديد يسهم في ولادة نظام لاحق خارج القيد الطائفي.

من هنا تبدأ الحلول للأزمة الاقتصادية. نقول هذا وفي الذهن سؤال:

ما معنى أن تكون لحكومة ما سياسة اقتصادية؟

هذا السؤال يشكّل تمهيداً للإجابة عن سؤال رديف:

ما موقع هذه الحكومة واعتبارها لدى جميع اللبنانيين؟

أن يكون لحكومة ما هذان الموقع والاعتبار فهذا يعني أنّ هذه الحكومة تعي بوضوح أنّها الممثّل الفعلي لا القانوني أو الدستوري لجميع المواطنين. فالمطلوب، إذاً، هو شيء من التواضع السياسي لدى المعنيين والإقرار الصريح والعملي بأنّ القرار الوطني لا تمتلكه حكومة نالت ثقة أكثرية نيابية حملتها إلى قاعة المجلس انتخابات لا تجسّد بالكامل إرادة الناس لألف سبب وآخر وفي رأسها التمديد، بل تمتلكه حكومة نالت ثقة مجلس نيابي منتخب في أجواء صحيحة وسليمة أو هي تنالها بنتيجة أفعالها والمنجزات.

ليس ثمّة قرار وطني أو سياسة وطنية من طرف واحد. فالإثنان هما من إرادة لبنانية موحّدة، ومن توافق الرأي العام، ومن ثقة موطّدة بين الحكومة والناس.

غياب الإرادة وإسقاط التوافق وإضعاف الثقة أمور خطيرة تفتح باب المجهول على المزيد من الأوضاع الداخلية المعقّدة والمتفجّرة مهما كان حجم القوّة المالية الحاكمة والساعية بقوّة إلى تحقيق مشروعها الاقتصادي، قويّاً ومتماسكاً. فالانهيار الاقتصادي يبدأ بانهيار الموقف السياسي. والموقف السياسي لن يقوى على الصّمود إلاّ بوجود حياة سياسية مفتوحة أمام الجميع على قاعدة التزامهم النّهج الديمقراطي السّليم في ممارستها عبر قوانين انتخابية عادلة وحديثة.

الحكومة الحالية مدعوّة، بحكم مسؤولياتها الدستورية والوطنية إلى تطوير الحياة السياسية وتفعيلها بالمزيد من الحرّيات والديمقراطية وعدم الضيق بالرأي الآخر. والمعيار في ذلك قانون الانتخابات النيابية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى