دمشق تُمسِك بالحرب … والسِّلم أيضاً

د. وفيق إبراهيم

تلتزم دمشق بالمفهوم التاريخي والعلمي للدولة، فتتمسّك بإعلان الحرب وتنظيم السلم، من دون القبول بتنازلات تنتقص من سيادتها على قراراتها الأساسية الوطنية. لكنّ الدولة السوريّة تعرف أيضاً أنّ ما تتعرّض له ليس تمرّداً داخلياً عادياً، بقدر ما يجسّد عملية غزو خارجية تستهدف تدمير الدولة وتشظيتها، كمقدمة لتدمير المنطقة العربية، وإحداث تغييرات على المستويين الإقليمي والدولي.

وهذا ما شجّعها على إتاحة الفرصة لنموّ شبكات تحالفات عربية وإقليمية ودولية، تعرف مسبقاً أنّ دمشق هي قلب المنطقة العربية، والدفاع عنها هو دفاع عن موسكو وطهران وبيروت وبكين الصينية.

ومن دون أية مبالغة، فقطار التدمير عندما يبدأ لن يرحم صغيراً أو كبيراً، والإرهاب الإسلامي عندما يوسِّع دائرته يجد مواقع ومكامن في الأقليّات الإسلامية المنتشرة في جمهوريات روسيا وأقليات الإيغور الصينية وعشرات ملايين المسلمين المنتشرين في أوروبا والأميركيّتين وأستراليا، والتباينات الدينية والإثنية في إيران والولايات المتحدة الأميركية. وهكذا يتّضح أنّ الكلّ مستهدف، إلّا أنّ هناك أطرافاً من هؤلاء المستهدفين متورّطون في استثمار هذا الإرهاب للنَّيل من الآخر السوري والروسي والإيراني والصيني، اعتقاداً بقدراتهم على سحق هذا الإرهاب بعد تحقيق الأهداف في مراحل لاحقة.

سورية هي التي أتاحت للمستهدَفين فرصة التجمّع على أراضيها للنَّيل المسبق من إرهاب لا بدّ أنّه مدركها بعد حين. هذا ما حدث مع حزب الله اللبناني، الذي اقتحم المشهد العسكري السوري بموافقة من الروسي نقلها نائب وزير خارجية روسيا السيد بوغدانوف شخصياً إلى أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله في لقاء ليلي جمعهما قبل عامين ونصف العام تقريباً، واستتبع ذلك اشتراك تنظيمات عراقية وميليشيات إقليمية في الحرب على الإرهاب في سورية، إنما برعاية حزب الله الذي جسّد لهذه التنظيمات شكل تنظيم شعبيّ منتصر، بوسعه أداء دور قيادي في المنطقة.

وكذلك فعلت الميليشيات الإقليمية التي تسير على نهج حزب الله إيديولوجياً، بالإضافة إلى القوى الحزبية اللبنانية القومية والوطنية المؤيّدة لسورية تاريخياً.

ولقد ارتدى الهجوم الخارجي على سورية طابع تحشيد ديني وسياسي، جذب مئات آلاف الإرهابيين من أربعة أصقاع الأرض، مؤمّناً فرصة توظيف قسم من السوريّين لم يجدوا قوت عيشهم إلّا ضمن التنظيمات التكفيرية المموّلة خليجياً وتركياً.

كان هناك إصرار أميركي أوروبي على إسقاط النظام السوري، استلزم وضع كلّ إمكاناته السياسية في المنظمات الدولية والإقليمية «لشيطنة دمشق»، وغطّى عمليات نقل الأسلحة والإرهابيين، ناقلاً القسم الأكبر منها بطائراته، وواضعاً غرف عمليّاته في تركيا والأردن في خدمة تنسيق هجمات المعارضات الراديكالية، وزاجّاً بخبرائه لقيادة هذه الهجمات إلى جانب الأتراك المتورّطين مباشرة، والأردنيين المتورّطين بالإمرة ووشائج النسب والتخصص بتشغيل العشائر ووضعها في خدمة المستعمرين منذ الحرب العالمية الأولى.

لم يوفّر الجيش العربي السوري وسيلة إلّا واستعملها لمكافحة هذا الطغيان التكفيري باذلاً عشرات آلاف الشهداء، وساندته القوى الحليفة اللبنانية والإيرانية كلها بإمكاناتها المتواضعة وشهدائها، ولكنّ المشهد اتّسم بخلل في موازين القوى، والسبب ضخامة المشروع الغربي الذي جنّد نحو اثنتين وثمانين دولة لإسقاط الدولة السورية من دون أية مبالغة… وتتكئ على موازنات دعم وتسليح خليجية مفتوحة، انتشرت معظم وسائل الإعلام الفضائية في الخليج والغرب، التي تواصل حتى الآن تصوير سورية وإيران وروسيا على أنّها هي القوى التي تقتل المدنيّين وتدمِّر المدن، وتخلط في معظم الأحيان بين حزب الله و«داعش»، وبين البريء والمتّهم للتغطية على مشاريعها.

ويتبيّن أنّ صمود الدولة السورية المدعوم من حلفائها، كشف المشاريع الغربية التي تعتبر أنّ الاستيلاء على سورية يؤدّي إلى تدمير المشرق العربي وعلاقاته بإيران، ووضع حدّ لدور روسي كبير تمهيداً لتقزيم الصين.

وأصبح المشهد واضحاً أمام صحوة بوتين الروسية، التي اغتنمت «الصمود السوري»، ووجدت فيه عاملاً تاريخياً يُعيد موسكو إلى التفاعلات الدولية عن طريق دعم سورية الأسد.

هناك إذاً فهم سوري روسي إيراني لحركة التاريخ، وهناك صمود سوري أسطوري تمسّك بأراضيه ومدنه وقراه وشعبه، رافضاً أيّة مساومات على حساب وحدة البلد وسيادتها. هذا ما بدا واضحاً من خلال رفض الرئيس الراحل حافظ الأسد التنازل عن بضعة أمتار على الشاطئ السوري لبحيرة طبريا مقابل إعادة الجولان السوري المحتلّ، وهذا واضح ايضاً في رفض الرئيس بشار الأسد لكلّ مشاريع التسويات التركية والسعودية والقطرية التي رفضتها قيادة دمشق تباعاً، وكانت تطالب بإشراك «الإخوان المسلمين السوريّين» في السلطة، أو بتمرير أنابيب الغاز القطرية إلى الساحل السوري، أو بالتخلي عن حزب الله والمقاومة وإيران، كما يشتهي آل سعود.

أمّا بالنسبة للسياسة الأميركية، فكانت تمرّر رسائل إلى قيادة دمشق حول مسألتين مترابطتين، الصّلح مع «إسرائيل» والتخلّي عن خط المقاومة، أيّ التخلي عن حزب الله وما يجسّده على مستوى المنطقة.

ولم يكن بإمكان الرئيس السوري الموافقة على هذه «الأوامر»، لأنّها تُنهي علّة وجود سورية التاريخي، وتؤدّي في النهاية إلى تدميرها كدولة مدنية عروبية تعمل استراتيجياً على مراحل وطنية واتحادية للوصول إلى مستوى يُتيح إنهاء الخطر الغربي العام عن المنطقة العربية، والذي ابتدأ منذ آلاف السنين مع الإغريق والرومان والمماليك والعثمانيين والقوى الغربية المحاصرة و«إسرائيل».

ضمن هذا السياق، حصل التدخّل الروسي إنّما في إطار دور مركّب تستفيد منه سورية وتنتفع منه موسكو وترتضيه إيران، من دون أن تزايد قوة على أخرى، لأنّ المصالح هنا متشابكة. وصادف أنّ هذا الدور يحصّن الصين، أو قد يُرجئ الهجوم الغربي عليها إلى مراحل لاحقة.

ولا يمكن للمراقب إلّا الإشادة بالدور العسكري الروسي والجهود الإيرانية، وهنا يطرح السؤال نفسه وببراءة: هل ينفع القصف الجوّي من دون وجود قوّات عسكرية تتقدّم لتحصين المناطق المقصوفة والمرابطة فيها؟ وهل تكفي قوات بريّة غير نظامية لتحرير المدن والقرى بمساحات تصل إلى عشرات آلاف الكيلومترات المربّعة في بعض الأحيان؟

وهنا، لا بُدّ من الإقرار بأنّ حجم الغزو الخارجي فاق القدرات العسكرية التسليحية لجيش سوري شجاع، كان ممنوعاً عليه تحديث سلاحه وطيرانه في المرحلة الممتدة من 1990 وحتى 2012، فأصبح سلاحه قديماً يحمله أشجع جندي في العالم، أدّى منذ 2011 وحتى اليوم دوراً بطولياً جهادياً، ولولاه لكانت المنطقة العربية اليوم تشهد سايكس بيكو جديداً يمزّقها وينتهك آخر ما تبقّى لديها من مقوّمات وكرامة.

وهذه المعطيات الموضوعية تفرض قراءة التفاعلات السوريّة في إطار تحالفيّ بين قوى ثلاث تقدِّم أفضل ما عندها لتأمين سلامة سورية، وهذه القوى هي الدولة السورية صاحبة السيادة والمدعومة من روسيا وإيران لتحقيق أهداف سوريّة وعربيّة وإيرانية وروسيّة فإذا كان التدخّل الجوي الروسي أوقف تراجعاً ملحوظاً كانت تعاني منه القوى السورية والإيرانية في 2013 2014، فإنّ استعادة حلب والتقدّم نحو أرياف دمشق والإمساك بحمص وحماة واستعادة قلب دير الزور، إنّما هي نقاط تُسجَّل لهذا الجيش السوري وحلفائه.

والعلاقة بين الحلفاء في المفهوم السياسي، ليست علاقات اندماج كاملة بقدر ما هي اتفاق على مشروع محدّد.

والمشروع اليوم هو توفير الظروف والإمكانات لصمود سورية، وهذا ما يحدث اليوم ويكشف أنّ لا خلافات فعلية بين روسيا وإيران وسورية إلّا في رؤوس من يريدون إثارة هذه الخلافات. وهذا لا ينفي وجود تباينات في تبنّي الأساليب التكتيكية. المهمّ أنّ الأهداف الاستراتيجية للمشروع لا تزال واحدة، ومرحلة مفاوضات أستانة هي أوّلها، وتعبّر عن نجاح هذا الحلف في جذب الأتراك والمنظمات الراديكالية إلى الاعتراف بالدولة السورية صاحبة السيادة على أرضها، والماسكة بالشرعية الدولية والعربية والوطنية أمّا اللعب على خلافات وهمية فليس أكثر من تسلية إعلاميّة في زمن الهزائم والانكسارات، مقابل استكمال الجيش العربي السوري معارك التحرير.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى