مختصر مفيد تركيا وسقوط التذاكي طريقة في السياسة
منذ بداية الأزمة في سورية والحرب فيها وعليها والأتراك يتصرّفون على قاعدة أنهم الأشد ذكاء بين اللاعبين فقد توهّموا أن بين أيديهم كل أسباب القوة التي تسمح بالتوقع بربح كامل للحرب، فلهم قوة الحدود وطولها وعمق الدولة واقتصادها وثقة الأطلسي ودعمه وتنظيم الأخوان وحجمه. ولهم فوق ذلك جيش قادر ومعهم شرائح من السوريين تتأثر بهم عرقياً أو عقائدياً وفي زمن تتناثر فيه أشلاء حكومات عربية عريقة كحال مصر، وتقام على بقاياهم حكومات موالية للباب العالي في اسطنبول، ومعهم فوق كل ذلك قدرة المناورة بعنوان فلسطين وقد نظموا رحلة أسطول مرمرة، ومعهم فصيل من المقاومة يوازي ما تملكه سورية من وزن في ميزان المقاومة وميدانها وعلاقتهم بإيران ليست مزعجة وبروسيا ليست محرجة.
خلال سنوات الحرب بدأت تركيا تختبر أوراقها تباعاً. فسقط رهانها الإخواني في مصر وتونس، وخفت تأثيرها الداخلي في سورية لينحصر بجماعات تتداخل بينها وبين تنظيم القاعدة، بعدما تغير الإخوان وصاروا معبراً للوهابية بعدما كانوا نداً لها، وصمد الجيش السوري وتوحدت غالبية لا يستهان بها من الشعب السوري فوق خطوط الطوائف والمناطق عبّرت عنها مسيرة الانتخابات الرئاسية في مشهدها اللبناني الذي أبهر الأنظار يوم زحف عشرات ألوف السوريين، ممن خرجوا من سورية معارضين، وها هم يعودون من بوابة سفارة بلدهم وأصواتهم لرئيس دولتهم مبايعين. وتراكم الفشل على الفشل. فالأطلسي خذل تركيا مرتين، مرة يوم طالبت ببناء منطقة عازلة فسحب صواريخ الباتريوت، ويوم اشتبكت مع روسيا واستعرضت قواها فتركت لقدرها وحيدة حتى اعتذرت ذليلة تطلب وصل ما انقطع والغفران على ما مضى. وجاءت معركة حلب لتقول لتركيا إن زمن السلطنة قد ولى وإن زمن روسيا وإيران يتقدم في المنطقة وإن الأساطيل الأميركية التي رحلت بخفي حنين لن تعود لتبني مناطق نفوذ لتركيا، وما حك جلدك مثل ظفرك، فكيف تقلع الشوك الذي يدميك بيديك إن كنت عاجزاً عن خوض حرب إذا فرضت عليك، فناور الأتراك مع الزمن الجديد وقرروا الاستدارة واللعب من داخل خطوط التسويات.
نظم الأتراك أوراقهم الجديدة فتموضعوا على خط البحث عن تسوية قالوا إن لا مكان فيها للدولة السورية وحكومتها ورئيسها، وإنهم بالتعاون مع روسيا سيصنعونها ويدمجون فيها جماعاتهم المسلحة، وخاضوا غمار البحث عن مفردات جديدة عنوانها التلاعب بالوقت، ريثما يحسم الأميركيون أمرهم فيقفون على خط الوسط بين روسيا وأميركا، وفقاً لما وعد به الرئيس الأميركي الجديد الذي رتبوا أمورهم على وعوده بتسليمهم المعارض الداعية فتح الله غولن ليعلنوا بتسلمه نصراً على واحدة من جبهات القتال، ويسلمهم رأس الأكراد الذي كبر كثيراً بدعم الرئيس الذي أنهى ولايته وأنقرة تتهمه بتدبير الإنقلاب عليها. وتحمّل الأتراك أن يوقعوا في أستانة على سند أمانة يلزمهم بقتال النصرة التي رعوها ودعموها وراهنوا على فوزها في حلب وعادوا وهم فرحون بأن التذاكي ينفع وذكاؤهم لا يردع.
بدأ الأتراك على جبهة موازية يُعدّون العدة لحرب من نوع آخر، فملاقاة أميركا الجديدة يكفيه التعاون مع روسيا ولا ينفع معه علاقات ودّ مع إيران، كما العهد الأميركي القديم، فوضعوا رعايتهم مثال شراكة إيران وقاتلوا لتكون الرعاية ثنائية روسية تركية، ومهدوا بهذا النزاع طريقهم لمخاطبة التعاطف الأميركي مع «إسرائيل» وعلاقاتهم الوثيقة بها بإعلان الحرب على حزب الله واعتبار خروج مقاوميه من سورية شرطاً من شروط الحل فيها. وفي الحساب أن زمن التلاقي الروسي الأميركي سيسمح بوضع معادلة الحرب على النصرة بشراكة أميركية تركية أهم لروسيا من تحمل تبعات الدفاع عن بقاء حزب الله في سورية، ومدخل لروسيا للتقدم كراعٍ لمفاوضات سلام بين إسرائيل والفلسطينيين وبيد تركيا على الأقل نصف القرار الفلسطيني الذي يمثله الإخوان المسلمون بنفوذهم على قرار حركة حماس.
قبل أن تمر الشهور التي ينتظرها سلطان الوهم بدأت التحديات تتراكم كثلوج تقطع الطريق وصعبة الذوبان. فالحرب مع داعش في مدينة الباب تراوح مكانها منذ ثلاثة شهور، رغم الزج بألوية من الجيش التركي من المشاة والمدرعات، وداعش يضرب داخل تركيا. وهذه جبهة قاتلة لن تصمد شهوراً. وفي جبهة ثانية تسقط المشاكسة على الجبهة العراقية بالتوغّل في بعشيقة فلا تغطية أميركية ولا تغطية روسية، والحكومة العراقية تهدّد بالتدويل لرفع الغطاء، فتضطر أنقرة للتراجع خطوة إلى الوراء، حتى جاءت الضربة القاضية، فما ادخرته تركيا لشهور الانتظار هي فصائل ترعاها وتسلحها وتمولها لتقدمها نواة جيش بديل أو رديف يخوض الحرب على النصرة، ويستعد ليخلف مهمة الأكراد في الحرب على داعش، فإذ بهم ينهزمون خلال ضربات التمهيد للحسم التي أعلنتها جبهة النصرة، وبدأت معها تجتاح فصائل أنقرة الواحد تلو الآخر، وتسقط من يد تركيا ورقة التوت التي بفقدانها سيصير السلطان خاوي الوفاض في أي محطة مقبلة قواته محاصرة في الباب والأكراد حصان رهان للحرب على داعش، والنصرة آخر ما تبقى من عناوين الثورة التي أعلنت أنقرة لأجلها الحرب على سورية، وقد وقعت أنقرة في أستانة وثيقة الحرب على النصرة.
تحقق في الميدان عبر التوقيع التركي الفصل بين المعارضة والنصرة، وهو ما انتظرته سورية وروسيا وإيران والمقاومة طويلاً، إن بقيت معارضة، وتحقق نزع أنياب تركيا وأوراقها وقد وقعت على دور راعٍ لفصائل لتثبيت وقف نار ونحن لا نعلم من سيقى منها أصلاً، ونزع الأوراق أحياناً يصير نزع أنياب عندما يحل محل الذكاء التذاكي في صناعة السياسة…
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.