اللوبي الصهيوني وكواليس الإليزيه
أسامة العرب
بعد خمس سنوات من حكم الرئيس فرنسوا هولاند، أصبح الاشتراكيون في فرنسا أكثر انقساماً وتشرذماً، وظهر ذلك بوضوح من خلال نسبة الإقبال الضعيفة على التصويت في الجولة الأولى من انتخابات اليسار التمهيدية التي لم تتعدّ 1.5 مليون ناخب، في الوقت الذي أقبل فيه أكثر من 4 ملايين ناخب على التصويت في انتخابات اليمين التمهيدية.
ويشهد الحزب الاشتراكي هذا الأحد الجولة الثانية من الانتخابات التمهيدية التي يتصادم فيها تياران مناقضان لبعضهما البعض، حيث يمثل بونوا هامون الجناح اليساري في الحزب الاشتراكي فيما يمثّل مانويل فالس جناح اليمين في الحزب، وذلك في معركة انتخاب مرشح الحزب الاشتراكي في الانتخابات الرئاسية المقرّر إجراؤها في نيسان وأيار المقبلين.
فيما يحظى هامون بتأييد أرنو مونتبور ومارتين أوبري زعيمة الحزب السابقة ومعهما 20 من أبرز القيادات الاشتراكية من البرلمانيين والوزراء الذين وقّعوا عريضة لدعوة الناخبين للتصويت لهامون حتى يتمكّن من توحيد صفوف اليسار. أما فالس فيحظى بدعم الرئيس هولاند وكوادر في الحزب أبرزهم وزير الدفاع جان إيف لودريان، ووزير الاقتصاد ميشال سابان، ووزيرة التعليم نجاة فالو بلقاسم.
وهنا يلعب اللوبي الصهيوني دوره من خلال جمعية الصداقة الفرنسية «الإسرائيلية» ومجلس المؤسسات اليهودية في فرنسا والمجلس الأوروبي للجماعات اليهودية في باريس ومجلس المؤسسات اليهودية في فرنسا، حيث يقوم اللوبي بتمويل حملات المرشحين الانتخابية، وعن طريقه يتمّ كلّ عام تحويل مبالغ ضخمة للسياسيين الفرنسيين المقرّبين منه والذين يخدمون السياسة «الإسرائيلية». فباعتراف لاري خوخبرغ العضو البارز في «إيباك» الأميركية خلال تصريح له في المجلّة الأسبوعية التي يُصدرها التجمع اليهودي في كاليفورنيا: «فإنه خلال الانتخابات التي جرت عام 2011 تمّ تمويل حملة هولاند لمساعدته في التغلّب على منافسته مارتين أوبري في الجولة الثانية من الانتخابات التمهيدية لحزب اليسار، التي تعتبرها تل أبيب معادية لـ«إسرائيل» لموقفها الداعم للحقوق الفلسطينية».
وعلى سبيل المثال، يُذكر أنّ مانويل فالس عندما كان محافظاً لمدينة «إيفري» في حزيران 2011 قال: «إنني من خلال زوجتي أرتبط إلى الأبد مع المجتمع اليهودي ومع إسرائيل»، كما أعلن في آذار 2012 في أول مؤتمر للجاليات اليهودية في فرنسا أنّ «إسرائيل هي المركز الروحي ليهود العالم» وفي نيسان من العام نفسه وخلال حضوره ما سُمّي «مؤتمر أصدقاء إسرائيل» وقّع الوثيقة الصهيونية التي سمّيت «ميثاق إسرائيل» منتقداً العداء للصهيونية الذي يعادل حسب قوله العداء للسامية، وهو عداء غير مسموح به نهائياً. وفي شباط عام 2014 وأثناء حضوره لقاء وزير الخارجية «الإسرائيلي» أفيغدور ليبرمان مع وزير الخارجية الفرنسي السابق فابيوس وبرلمانيين فرنسيين وقادة الجالية اليهودية في فرنسا، صرّح فالس: «خلال قيامي بواجباتي اليومية وخلال حياتي كلها، وفي كلّ ما أقوم به وأفعله أسعى لوضع حجري المتواضع في مدماك بناء إسرائيل«.
في المقابل، يظهر أنّ هامون يلعب على وتر الخروج من السياسات التي انتهجتها فرنسا طيلة الفترة الماضية، والبدء بسياسات جديدة على مختلف المستويات، ولكنّ لا تزال رؤيته للمرحلة المقبلة غير مكتملة التفاصيل في ضوء التحديات الكبيرة التي تواجهها فرنسا على مستوى الأمن والاقتصاد، وارتفاع أعداد المهاجرين.
لكن رغم اشتداد المنافسة بين المرشحين، وتصاعد وتيرة الاختلافات بينهما منذ أن «خلع» رئيس الوزراء المستقيل مانويل فالس وزير التربية السابق بنوا هامون من منصبه في الثاني من نيسان 2014، بسبب مواقفه المعارضة لسياسة الرئيس الحالي فرنسوا هولاند. فإنّ العديد من المحللين يرون أنّ صعود مرشح الحزب الاشتراكي إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في أيار المقبل يبدو أمراً بعيد المنال، فالمرشحان المتخاصمان سيقلّلان من فرص فوز مرشح الحزب الاشتراكي وتأهّله للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، وهذا ما سوف يسمح لزعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن بالتأهّل إلى الجولة الثانية مثلما حدث في 2002 عندما تأهّل جان ماري لوبن للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في مواجهة شيراك، وذلك بعدما تمّ استبعاد ليونيل جوسبان ممثل اليسار آنذاك.
من ناحية أخرى، يبدو أنّ يمين الوسط الفرنسي بقيادة المرشح للرئاسة رئيس الوزراء الأسبق فرنسوا فيون واضحاً في طروحاته السياسية ورؤيته للمستقبل الفرنسي، حيث يرى فيون بأنّ أوروبا على وشك خسارة مكانتها الدوليّة، ويدعو الى تطوير العلاقات مع موسكو. إلا أنه يتعرّض لحملة شرسة لكونه يدعم الحقوق الفلسطينية ويرفض التحدث عن مشكلة دينية في فرنسا، أو السماح بطرد المسلمين أو التضييق عليهم، مؤكداً أنّ المحاسبة تطال فقط من لا يلتزم بالقانون ويؤثر على أمن البلاد واستقرارها.
فيما تواصل المرشحة اليمينية المتطرفة مارين لوبن إثارة الجدل، وتفاقم من مخاوف دول الاتحاد الأوروبي حول مستقبل عضوية فرنسا في الاتحاد، ففي حوار أجرته مع إذاعة «أر تي أل» الفرنسية، قالت لوبن، بأنها ستغيّر هوية فرنسا حال فوزها في الانتخابات الرئاسية، وأنها سوف تسنّ تشريعات جديدة لتشديد إجراءات الإقامة واللجوء في فرنسا وللحدّ من حق الأجانب بالتعليم المجاني. وتعهّدت بسنّ مشروع قانون يُلزم الأجانب المقيمين في فرنسا بدفع نفقات رعايتهم الصحية. وتعهّدت بإلغاء اتفاقية شنغن، وبالضرب «بقبضة من حديد» على الإرهاب الذي يتجوّل، حسب رأيها في البلاد بدءاً من الحدود وحتى الشوارع الصغيرة.
وأخيراً، لا يقتصر دور اللوبي الصهيوني على دعم مرشحي اليسار الخاضعين للنفوذ الصهيوني، وإنما كذلك دعم مرشحي اليمين. وهذا ما أوضحه الكاتب «بول إريك بلانر» ضمن كتابه «ساركوزي وإسرائيل واليهود» عام 2009، المنشور في بلجيكا، عندما سخر من تدخل اليهود والصهاينة السافر في المجتمع الفرنسي ومن وصولهم إلى بوابة الإليزيه وفرضهم آراءهم بالقوة على المسؤولين الفرنسيين وتوغلهم في المؤسسات المالية والمصرفية وتربّعهم على وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة. كما سبق أن أشارت إلى ذلك مجلة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، حيث أفادت بأنّ مئة وعشرة نواب من الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ، سبق لهم أن وجّهوا رسالة مفتوحة إلى الرئيس ساركوزي، طالبوه فيها آنذاك باستخدام حق الفيتو في مجلس الأمن في حال قرّر الرئيس محمود عباس اللجوء إليه للحصول على اعتراف أحادي الجانب بالدولة الفلسطينية. وقد أتى توقيع هؤلاء النواب على هذه الرسالة بعد حملة قام بها كلّ من كلود جواسكين، رئيس مجموعة الصداقة الفرنسية ـ «الإسرائيلية» في الجمعية الوطنية الذي ينتمي لحزب «الاتحاد من أجل الحركة الشعبية»، وجان بيار بلانكاد رئيس جمعية الصداقة الفرنسية ـ «الإسرائيلية» في مجلس الشيوخ الذي ينتمي لـ«التجمع الديمقراطي والاجتماعي الأوروبي» تجمّع برلماني كبير من نواب مجلس الشيوخ . وهذا كلّه موثّق في الكتاب الشهير «اللوبي الصهيوني في فرنسا: من ثكنة عسكرية إلى كواليس الإليزيه».
ونختم بالقول إنّ الآتي أعظم، إذ إنّ صعود اليمين المتطرف في أوروبا وأميركا من شأنه أن يعزّز نفوذ اللوبيات الصهيونية، حيث يشبّه رأس الفاتيكان البابا فرنسيس تطورات هذا العام بمتغيّرات سنة 1933 في ألمانيا، حين تمّ انتخاب الزعيم النازي أدولف هتلر والذي انتهى بتدمير بلاده ومعظم أوروبا. ومن ثم مع مؤتمر كوبلنز العلني لعتاة الشعبويين نقول بأنّ ساعة الصفر قد دقّت…
محامٍ، نائب رئيس
الصندوق الوطني للمهجرين سابقاً