اعترافات أنثى وتناحر مع الشعر النسوي… ورموز أدونيسية متناوبة بين الموت والحياة

د. طراد حمادة

في اسم الرسائل، وقد اعتاد أهل الفلسفة أن يفردوا لها موضوعاً، يجمع خلاصة فكر الفيلسوف في مباحثه العامة، كما رسالة أرسطو في النفس وبعده الشيخ الرئيس ابن سينا، ويعد الشيخ كثير من فلاسفة المشاء والإشراق واختصّ الصوفية بالرسائل التي تحتوي إشارات رمزية ومبانٍ ميتافيزيقية، وكان لإخوان الصفاء رسالتهم الكبرى ولغيرهم مجموع الرسائل التي تنقل عقائدهم وآدابهم إلى الناس ورسائل المنطق فيها ما فيها من طرق اشتغال العقل.

وفي الأدب، اختصّت الرسائل بالشعر والنثر وعلوم اللغة، من رسائل العشاق إلى رسائل فقه اللغة، إلى الآداب. وكانت الرسائل فن من فنون الكتابة، وصلة بين المرسل والمتلقي تحمل الفكرة في النصّ، وعدّة الرسائل تبادل النصوص، وقد اشتهرت في أدب العشق، وهذه واحدة منها.

رسائل عدّة، في رسالة. النصّ واحد ومقطعاته عدّة. وربما كل مقطعة منه غزلية لم تضع الشاعرة سناء البنا له رقماً، لكن يمكن أن تحكي لنا حالاً. وعلينا متابعة معرفة الأحوال، من إفصاح المقال. والصوفية أكثر الناس انشغالاً، بالإشارات المرسلة في الرسائل.

اختارت الشاعرة سناء البنا أن تبعث وجدها في رسائل إلى الحبيب، جلال الدين الرومي المعروف على لسان مريديه «مولانا» والرسائل مقطعات غزلية في رسالة عشقية، تضع الناقد أمام خيارين:

ـ النظر في الرسائل، في عيون الغزل، العاشق يرسل وجده إلى المعشوق البعيد ـ القريب على الحالين.

ـ النظر إلى الرسائل، إفصاحاً شعرياً عن مدرسة صوفية اشتهرت بِاسم مؤسّسها جلال الدين الرومي.

والقراءة في الخيارين متفاوتة في الاستناد إلى محور النظر وجهة النظر، هل يكون الناظر في الديوان باحثاً عن عرض شعريّ لأحوال صوفية، أو مدرسة صوفية لها آدابها الخاصة وطرق إفصاح وجدها، أو أنه عاشق، وجد في مولانا معشوقه، يخاطبه بلغة الشعر مفصحاً عن أحوال هذا العشق وحتى في حالة غلبة الإفصاح الشعري هل، استفاد الشاعر من طرق الصوفية في شعرها هل ثمة مدرسة ينتسب إليها في ما يفصح عنه من وجد.

هل الرسائل حالة خاصة تشبه «الأمّ فارتر» لغوتيه أو الرسائل الصوفية الرمزية أو بكل بساطة رسائل العشاق وشعراء الغزل من أحمد الغزالي إلى نزار قباني على سبيل المثال لا الحصر أمر جدير بالنظر، عند ناقد مشتغل في الفلسفة وفي فلسفة الآداب والفنون والجماليات.

في هذا النوع من الشعر الوجدي الذي يفصح بالرسائل عن أحوال العشق، ويدخل في شعر الصوفية يدور العشق حول المعشوق، ولا تبقى من صفات العاشق إلّا ما يدلّ على الشوق والمعاناة، من الفراق والتوق إلى الوصال، فيما تتركز الصفات التحسينيّة حول ذات المعشوق، فتظهر في أبهى المظاهر، التي تقربها من صفات الإنسان الكامل.

وكلما ازدادت صفات المعشوق ظهوراً امّحت صفات العاشق وقاربت الفناء، حتى أن الأنية في شعر الحب الإلهي أمر يؤخذ على الشاعر من ناحية عند بعضهم ويذهب بعض الإشراقيين إلى استحسانه لكنه مستحسن على الوجه الخاص في محل السؤال عند كل المذاهب الصوفيّة.

في «رسائل إلى مولانا» للشاعرة سناء البنا، ننتظر من عنوان الديوان أن يدور العشق حول المعشوق، وأن تتجلّى صفاته في الصورة الشعرية وفي حالات الشوق إليه. وهذا ما نحصل عليه في غالبية مقطعات الرسائل لكنها تنقلب في مقطعات أخرى إلى دوران حول العاشق، وكأنه دلال المرأة، حين تعشق، فيكون ذلك على وجه اليقين من خصائص غزل العاشقات.

سأدخل لقراءة الديوان عبر مفاتيح تكشف عن باطن المعنى ولا تكتفي بظاهره ومنها،

مفتاح الرقص

تبدأ الرسائل بالفعل، وهو من خصائص المريد، مقبلاً على مولاه تقول: وأرقص في خفة رصاص طاعنة في الموت البليد كشعلة قنديل مغمور بالشموس.

الرقص فعل، وشعر الصوفية يقوم كما في منطوق الفقه على الفعل والترك، ترقص وهو دليل عافية وعشق وفرح وجذب من خصائص مدرسة الرومي ولكنه رقص سريعٌ كرصاصٍ تطعن في الموت وشعلة قنديل مغمور في الشمس، تتكاثف الأمور في مقطع البداية، في قساوة يظهرها لفظ الرصاص والطعن والموت وشفافية حنو يظهر شعلة القنديل وغمرة الشمس، وتنتظر العاشقة موسيقى حبيبها الجنائزية، وهي تتابع الرقص حتى الشجن.

تجعل الشاعرة من الرقص صراعاً خفيّاً بين الأنا والأنت، فيما الرقص توق إلى الحبيب ودوران على المعشوق، لا أعرف لماذا جعلت من البداية رقصاً رمزه الدوران حول الحبيب، وصراعاً بين الأنا والأنت تضعهما بين أنياب محدلة، لكنني سأوسع الفهم وأحسن الظنّ للقول إنّ الصراع بين الأنا والأنت يقوم داخل العاشق المريد، المبتدي، الداخل إلى العشق لعلّه يتخلص بالرقص من أناه ويدخل في الطريقة عاشقاً إنّما بالكلمات.

تنتقل العاشقة من الرقص إلى الدوران في مدارات النفس، ذلك الدوران الداخلي، فيما الرقص دوران حول المركز والمحور، يحصل بحركة من الداخل، وهنا تكرّ سبّحة وجود العاشق، في تفاصيل نزار قباني وجاك بريفير ما زالت ظلالك، ما زال يتمعشق هنا… ما زالت بعض من آهاتك إلخ مما أدعوه التفاصيل الصغيرة التي عادة ما يهتم بها العاشق في أوّل الدرب. لكنها تركته كما يفعل كل المراهقات اللواتي يضعن اللوم على الحبيب يتلو بعد كل هذا الرقص والدوران فعل الندامة.

كتبت لآدم مراراً تقول الشاعرة، في مقطع 35 وآدم الذي يكتبها ليلاً ويمحوها نهاراً وقد انتحر بها أحد أبنائه رجلاً منهم، بعد أن ربطها من عنقها وارتجلها شنقاً، رمز يدور بين الإنسان الكامل، والرجل الذكر مقابل الأنثى التي تدور أيضاً بين حواء المرأة الأنثى والجوهر الأنثوي، ويؤيد هذا المذهب ما وجدنا من رقص ودور ولعبة التفاصيل الصغيرة عند العاشقات الكواعب الصغيرات. ورغم أن تعدد الكتابة لآدم، يكشف عن سن ناضجة، لكننا نتحدث عن تجربة الروح لا مغامرات الجسد في لامبالاته «كأني ما اكترثت أني به مُتّ».

مفتاح الأنثى

بعد مفتاح الرقص، وهو الدخول في طريقة العشق لمولانا، نقع على المفتاح الثاني في ديوان الرسائل وهو «الأنثى» الشاعرة ترسل إلى عاشقها خطباً موقعة بِاسمها الأنثوي. تتحدّث إليه، وتراسله، وتفصح عن عشقها وأحواله كما الأنثى. هي في هويتها الوجودية الجنسيّة النوع ، تفتح لنا أسرار الرسائل الأنثوية وشعر العاشقات. ولعلذها تذكرني، لا برابعة العدوية، إنما بما كتبته الشاعرة الألمانيّة المراهقة في رسائلها إلى غوتيه، في أحوال الأنثى، نقع على الخلاخيل، والسرير والبرد والرنين وفوضى الحواس التي تذكرني بعنوان رواية أنثوية بدورها والحلم والقفاز والخمار والبحر والتلال والريح واللغة وشجون النفس في إناء الأنا.

شعر أنثوي على اليقين بامتياز، وتكرر كما أنثى في أكثر من مقطعةٍ، يكشف أن الحال في البداية دائمة السريان.

مفتاح الانتظار لا الوصال

المفتاح الثالث يقوم على حال الانتظار بدل الوصال، وذلك يعني، أن الموت، هو في الوصول إلى الحبيب، كما هو في الواقع مرجع إلى الله «إنا لله وإن إليه راجعون».

يبدأ باب هذا المفتاح في الصفحة 42، بالجملة الخبرية أحمال الغياب ثقيلة، وهي لعمري عميقة التعبير بعدها تكر سبحة الألفاظ المصطلحات… حاملة الأحوال من الوهم والبعد والظلال والفناء والموت، وفي كل واحدة منها معاني استسرارية: الغياب الحضور والضلال في الكهف الأفلاطوني وصنوه الوهم مع دور الواهمة الأساسي عند الصوفية وكلها تشير إلى التيه والسعي في طريق الوصول، «لقد تاهت عن الوصول إليك» ص44 .

في تاريخ العشق لاءات عند الشاعرة، لا شبق يحرق لا هجر، لا وصال. وهي تأخذنا إلى العذرية في شعرها لكن كيف لها أن تموت هطلاً هذه المرأة المفعمة بالغيرة والدلال والعزّة.

التيه والمتاهة والعزف والسراب والناي الحزين والوجد الصارخ جدوى الغياب ولا جدوى الصوت بين أسطر اللغة، كأنها تذهب إلى الصراخ والصهيل والطيران، لينتهي باب هذا المفتاح للعودة إلى كما الأنثى ثانية، كما تنسى شاعرتنا أنها هي نفسها ورغم كل الأسفار من سلالة حوّاء.

مفتاح تبادل المواقع

في العودة إلى الأنثى دعوة إلى الطيران من جديد، إنما على تبدّل في المواقع تشير إليه بعنوان مفتاح تبادل المواقع. وفيه يتحوّل العاشق إلى معشوق.

تقول له: أحبكَ ثم أرديك كالرماد الفلكي أذريك بعد حريق. وفي هذا الاحتراق العشقي استرجاع في سيرة الرمز الشعري لرمز المصباح والفراشة، أيهما يحترق بنار شوق حبيبه، لكنني أجد في هذا الموضوع اختراق عن معنى الاحتراق العشقي إلى رمزيات أخرى تتعلق بالتشابه بين نار الفؤاد ونار الحطب، أشعل الموقد ليحترق بنارٍ أقوى منها، وكذلك في الوحدة الكونيّة بعودة رماد الجسد إلى مداره الفلكي بعد ذرّه في الهواء الطلق، أو هو استعارة ضمنيّة لحياة حب جديد، من خلال خروج الفينيق من رماده.

يفتح هذا الباب على تقدّم في الحب، يتدرّج الحب من القلق إلى الطمأنينة، الأحوال فيه ترسو على مقام، لكنه يظهر الحبيب في مكان العاشق حيث الحبيب صدى لصوتٍ حين تتحدث الأنثى كما الأنثى في متلاحقات أنفاسهم تحترق الظلال والشفق لا ينطف في الطريق من وصال إلى وصال.

في هذا الباب تفتح النفس على تداعيات اللاوعي، التداعيات الحرّة، وما تكشفه في المدرسة الفرويدية نجد صورة راقصة فرحة، رقص الجسد لا رقص الروح، اختصرت الفصول جسداً يتهدل. كان المساء يستنير من شعلة أصابعي واحتراق سجائري، استسلمت للطيور تحملني أجنحتها، إنها النسوية الأنثوية، تدفع الأنثى إلى «تعالى نبايع أقلامنا الهوى نمارس الحبّ بالحبر والورق، استسلم معك للغرق، توسدني امرأة في عتمة يستنير نهديها ليل كاسر».

مفتاح الأنية

لن أكمل رحلة التداعيات التي تمارس مجون الكلمات ثملة من شذاها. في تبادل الأدوار، تظهر الأنيّة، وياء المتكلم وكما في هذا المقطع المثير:

على بصمة عينيَّ

وشم صورتك

وأصابع الشوق العشرة

أطعمتك شفتيّ غواية

وثملت من نبيذ تفاحي

تكون العاشقة المعلم وليس مولانا، خبأت في الخوابي أحرفي ألقن العشق للسكارى، ولا يكون وعيها إلّا بالصلاة، وكأنها خلاص من أنية الذات إلى الحبيب الأعلى…

مفتاح الحوار

مفتاح الحوار يأتي بعد رياضة الروح والدوس على الظلّ ولا اهتمام لها سواه. ويقوم الحوار، على قال وقلت، وقلت وقال. وعلى الخطاب المباشر أناغيك، بيننا مسافة، رأيتك، خذ بيدي وتمر على الرقص والحب وفي هذه الرسائل يختفي الموت وتعلو صيحة الوجد.

يعود الحوار في مقطعات لاحقة حتى يغدو على ما نذهب مفتاحاً للدخول إلى معنى الرسائل.

مفتاح تحديد المعاني

من مفتاح الحوار إلى مفتاح تحديد المعاني وهذه خاصة سقراطية، لا أعرف كيف استقام عند الشاعرة تسلسلها. تقول في تحديد المعاني بعد الحوار.

ـ في تصوري غبشٌ أن أتصوف لأعبدك جسداً.

ـ في تصوفي امرأةٌ تعشق رجلاً.

ـ ليس وجهل غير جزء من الشمس.

ـ فلسفة الحب أن نكون… إلخ.

وإذا حُدّدت هذه المعاني كلّها، وأخذ العاشق من يدها ألف باء غرامه، وكأنه هي المعلمة في انقلاب الأدوار مرة أخرى، وتركت أنفاسها بين رسائلها وهي الإشارة الأولى إلى الرسائل بالاسم. ولأن الدرب موحش تعلن حاجاتها بين شفتيه وعينيه ويديه وتظهر مشاغباتها الأنثوية وتتحدث عن حلمها وشذرات نورها تضيء تطلب الرؤيا كموسى لتقول:

وبقيت في مساري

بين وجوم وغيوم

حتى انقشع وجهك

فابتسمت

في الرسائل التالية اعترافات أنثى وتناحر مع الشعر النسوي، وموسيقى البحيرات والبجع رائعة الجمال وتناصر توراتي للروح على وجه الحياة، ورموز أدونيسية متناوبة بين الموت والحياة النزف والسقوط والغيم والمطر وكأنما الموت بعد الحديث عن البدايات رحلة اللقاء بالحبيب بين نثوره سنّ البناء ودوران الرقص الصوفي تعبر مقطعات عده خطاب مباشر بصيغة السؤال ونداءات متواصلة تكشف الشوق إلى القرب، في طريق موحشة، وأثر صريح للحياة في مدرسة الدير ومعايشة الرهبان في المذبح، والخطايا وكرسي الاعتراف والطواف والقدمين الحافيتين والهيكل والمدفن والرصد والترهات والراهب والزيت والبخور والقديس والبركة والكأس والخمر والصلاة، والوثن والعبادة.

آه لو تسنّى لي أن أفتح بوابة الذاكرة على عالم الطفولة لأصل إلى عالم المعنى.

مفتاح الناي

مفتاح الناي إلى جانب مصطلح الرقص الصوفي من مدرسة الرومي نقع على الناي. ولكنه لا يستخدم كما عند المعلم. يأخذ الناي في الرسائل معنى مسيحياً ومعه المرايا والصوت والصدى وفيه مرور الزمان وكل مغامر امّحى. لكن الأنثى عندما تستفيق على الجوهر الأنثوي لتكون خاتمة النساء وما أدراك ما أبعاد الختم في القول، إلى صباح الحب الدائم الباقي…

مفتاح آدم الكامل وحوّاء الجوهر الأنثوي

ليست الرسائل كما تقول الشاعرة إلّا:

ـ في تصوف امرأة تعشق رجلاً. ص86 .

ـ رجل قوّام.

ـ مولاي… أرى فيك الرجل أولاً. أنا غير معنية في باقي تفاصيلك الدينية.

ـ الرجل في أمكنة أخرى هو آدم، وهو السيد والوليّ «سيدي، مولاي» وهو المعلم «أعرف من علّمك إلّا ما علّمتني».

ولكن هو العاشق أيضاً في انقلاب الأدوار. قال: «تعالي تعالي تعالي اغمريني، فأغرمت».

مفتاح السؤال هل من رجل غير مولانا؟

هل من رجل غير مولاي الرومي لأن الرجل هو كل هذا أجد في محالٍ معينة من المقطعات رجلاً آخر غير الرومي وأستدل على ذلك بالآتي…

ـ تبدّل الأدوار حين يكون المركز هو المعشوق يكون الرومي، ولكن حين يكون المركز هو العاشق يعني الشاعرة يكون رجل آخر لأنه كيف لها أن يكون المعشوق الإنسان الكامل يدور على محورها وهي العاشقة الراقصة حول نار عشقه لا بدّ من وجود رجل آخر هو المقصود. وهذا من صفات العشق الطبيعي لا الصوفيّ، ولا يصح في هذا الموقع.

ـ المخاطبة ما دون صفات المقام كأن تقول «تركت لك أن تصير طفلاً تلهو في حصاد أوهامي، أسكنك الصخب»، وهذه صفات بين التحسين والتحقير: اللهو والوهم والصخب… إلخ. لغير الرومي.

ـ عندما تستخدم لغة ضمير الغائب والمطلوب في الرسائل ضمير المخاطب، لأنها من الشاعرة إلى مولانا: «قال لها بدل قال لي». وقالت يعني هي بدل قلت.

ـ عندما تطرده ولا تريده كما في: «لا أريد المزيد من الركام… تنحّى عن لوحتي… قد محوت العاهة من مخيلتي».

ـ يصبح المعشوق هو الذي ينتظر وقد انقلب الدور: «أينكِ». ويظل يسأل عن محاسنها حتى يصل إلى احتراق شهوته الملتهبة من أرجوان نارها.

وتعود ص 173 ، لتجيب، قالت وليس قلت: قالت: قصدت الشوق ذات مساءٍ، وبعدها تأتي رقائق عشقٍ عظيم.

ليس في البحث عن رجل آخر غير الرومي إلّا نبضة في كهرباء القلب، تزيدها شوقاً إلى المحبوب.

سأقدم خلاصة القراءة الصوفية بديوان رسائل إلى مولانا في نقاط سبع:

ـ تفصح الشاعرة عن وجدها إفصاحاً متعالياً على اللغة ومثاله الرقص والدوران أو الطواف رغم أن الرسائل مسكونة على وجه الأعم بالإفصاح اللغوي. وميزة الإفصاح المتعالي على اللغة، حدوث الطرب الوجدي.

ـ الحواس الظاهرة حاضرة في النص في صورتها اللغوية، وفيها يستمدّ الخيال الصورة من تماسّ الحواس بالأشياء. الصورة الخيالية مصنوعة فيه من الحواس. ولأن تماسّ الحواس محكوم بغياب المعشوق تكون ملزمة بتحصيل حصادها من ملكه أخرى هي الواهمة.

في النص الشعري لسناء البنا الواهمه تعمل بفعالية أعلى من الخيال، والواهمه خيال متضمن مقولة الحكم، خيال مرتبط بإصدار الأحكام على الصور المتحصلة، وعليه يمكنها أن تتخيل الوصال في واهمه، تحكم مسبقاً أنه مستحيل الحدوث. وعند الصوفية الواهمه أساسي في تلقي الصور تشكل عامل تنقية لها، فلا تحصل الواردات إلّا بعد عبورها بمصفاة أحكام الواهمه.

ـ الأنيّة موجودة على اتساع مرقعات الرسائل، لا تختص الأنيّة إلّا بالموت، لكن الموت البيولوجي، المتفق مع موت الحبيب وليس الفناء فيه، لا يعني الفناء عند الصوفية الموت، لأن الفناء فناء عن الذات بقاء بالحبيب. فيما الموت في الرسائل موتاً يدخلنا في المعنى الهيدجري للقلق، أو النهاية التي لا طمأنينة قبلها إنه عبثية الحياة عندها أكثر من قلق الوجود. أنية لا يمكن إدراجها في خانة الإشراقيين، ولا خانة العرفاء الإلهيين، إنما أنية الشاعرة الأنثى الممتلئة بالحياة والتي تتوق في جمالها إلى حبيبها، الإحساس بالوجود.

ـ لم أجد تفسيراً لانقلاب المحور بين العاشق والمعشوق إلّا في ما يلي: «الشعور القوي بالأنيّة الوجودية… وجود رجل آخر ترسل إليه المقطعات غير مولانا جلال الدين الرومي… قد يكون الرجل الآخر متخيلا أو غبار تجربة تقوم على التراسل بين الأنثى والذكر. وهذا يتعلق بأساس العشق بين الذكر والأنثى، النفس الإنسانية عاشقة الصور، وأسيرة المتعلقات وهذا أمرٌ يطول البحث فيه».

ـ لا يضّر تقلب المحاور جمالية الشعر، بل يجعله أكثر جاذبية ومتعة وجمالاً وعليه قلت رسائل إلى مولانا من شعر العاشقات.

ـ لم تستفد الشاعرة كثيراً من التراث الصوفي في الإفصاح الشعري ورموزه في المرأة والطبيعة والخمرة، وفي الإشارات والتنبيهات والمشاعر والواردات والرقائق والحقائق وسواها مما تعودنا عليه في الشعر الصوفي وهذا يضع الديوان في محله من مدارس الشعر المعاصرة.

ـ لم تعتنِ الشاعرة في ديوانها بتقديم صورة ميتافيزيقية عن مدرسة جلال الدين الرومي. ليس هذا همّها، وأحسنت في ذلك، إن حبّها لمولانا، لا يجعلها من شرّاح مدرسته وإنما من عاشقاته. وقد أبدعت في رسم صورة عشقها رسائل غزليات بديعة التكوين.

أما جمال الشعر، فأتركهُ لكم وعندكم ذائقة الجمال ولغيري أن يقول فيه، وقد اختصرت قولي إلى النقد الصوفي له، وفيه ما يقال ولا يقال. لأن الشعر أجمل على كل الأحوال من الشروح والنقد، إلى الشعر وسماعه أدعوكم ودعوا ما قلته للتبصر فيه في لحظات التأمل بعد جمالية النظر إلى الجمال.

كاتب ووزير سابق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى