أستانة تئد «المناطق الآمنة».. فكيف ذلك؟
حسن شقير
مرحلة تضييق الخيارات والإطباق على الإرهاب حلّت ضيفاً ثقيلاً على أميركا وتحالفها في سورية، وذلك عندما بدأت العمليات العسكرية الروسية إلى جانب الجيش السوري في أيلول 2015.
لم تستطع أميركا، وتصريحات ديفيد بترايوس الشهيرة حول إمكانيّة «استخدام عناصر من «جبهة النصرة» في الحرب على داعش» إغواء الجبهة وإغرائها، وذلك بفعل ارتباطها القاعدي المباشر، ولم تستمل تركيا الكثير من أجنحتها في مرحلة الغزو التركي للشمال السوري في صيف العام الماضي، وذلك عندما «كفّرت» تلك الجبهة كلّ من يعمل تحت المظلّة التركية، وكما أنّها ـ أي «النصرة» ـ لم تحقّق ما حاولت أن تتجنّبه على الدوام، بأن تسلخ نفسها عن القاعدة ـ الأم، وذلك بتغيير اسمها إلى «فتح الشام»، وتقديمها «ضمانات» لتحالف أميركا بأنّ «جهادها» شامي ـ سوري فقط، وأنّها غير معنيّة بمعتقد حاضنتها الأم بممارسة «الجهاد العالمي». والخلاصة من كلّ ذلك، أنّ ذاك التحالف لم يصل في مرحلة وراثة الإرهاب إلى ما كان يطمح إليه من أن يجعل من «النصرة»، بكلّها أو ببعضها، نواةً ـ لما ذكرناه سابقاً ـ لجيش سورية المعتدل. لا، بل إنّ جُلَّ ما استطاعت تركيا تجميعه فيه ـ ما عدا مجموعات درع الفرات ـ بضعٌ من مجموعات عسكريّة محدودة النفوذ في إدلب وحلب وأريافهما.. وذلك طبعاً باستثناء حركة أحرار الشام، والتي لم تشترك في تفاهمات أستانة، وكما أنّها لم تعارض نتائجها أيضاً.
تطوّرات كبرى تُعنى بالميدان السوري، أعقبت محطّة عاصفة السوخوي الروسية، من بيانات ڤيينا إلى القرارات الدولية 2254، 2268، وصولاً إلى القرار 2336، والذي أدرج تفاهمات الثلاثي الدولي روسيا، إيران وتركيا في إطلاق محطة أستانة التفاوضية والتفاهمات الميدانية التي تمخّضت عنها.
ما إن انتهت تلك المحطة، حتى حدث ما كان متوقّعاً من تداعياتها بأن اشتعلت حرب «الأخوة»، وذلك بإعلان فتح الشام حربها في التهامٍ لتلك المجموعات العسكرية التي اشتركت في عملية التفاوض، مُسقطةً عليها جرم العمالة، فضلاً عن «خيانة الثورة»، ممّا دفع بتلك الفصائل الهزيلة التسليح والعدد في الشمال السوري، بأن تلتحف بلحاف «أحرار الشام»، عسى أن تنقذها هذه الأخيرة من سكاكين «النصرة» المشحوذة عليها، هذا فضلاً عن أنّ هذه الأخيرة سارعت في مقابل ذاك التحشيد تحت لواء الأحرار إلى إطلاق جبهةٍ جديدة مقابلة، وذلك مع مجموعات أخرى من المسلّحين و«الشرعيّين»، وذلك تحت مسمّى «هيئة تحرير الشام».
بالعودة إلى الخريطة الميدانيّة لهذه المعركة الجديدة بين «إخوة الجهاد»، والتي تسعى فيها «النصرة» إلى أن تجعل مجموعات الأحرار وممّن انخرط في صفوفها، بين قوسي «هيئة التحرير الشامي»، انطلاقاً من ريف إدلب الجنوبي وصولاً إلى الشمالي منه، ومن آرياف حلب الجنوبية والغربية حتى الشمالية، وقوسٌ آخر لجهة الحدود التركية من معبر باب الهوى في ريف إدلب الشمالي وصولاً إلى معبر باب السلامة في ريف حلب الشمالي.
ماذا يعني هذا السرد الميداني؟
هناك سيناريوان لما يجري اليوم فإذا نشبت المعارك بين الأحرار والهيئة، وعلى نطاق واسع، فإنّ ذلك سيعني بأنّ تلك المنطقة الجغرافية الشاسعة من الشمال السوري ستكون مسرحاً لمعارك طاحنة قد تُخلط معها الحسابات الميدانية والسياسية لفصيل الأحرار الموسّع، هذا فضلاً عن حسابات الدولة الراعية لها ـ أي تركيا ـ وبالتالي، فإنّ هذه الأخيرة ستكون أمام عدوّين إرهابيَّين، سابقٍ وهو «داعش» ولاحقٍ وهو «فتح الشام»، الأمر الذي سيفرض عليها وعلى من ترعاها من المجموعات المسلحة تبدّلاً إلزامياً في أهدافهم المرسومة للمرحلة المقبلة، وتحديداً في ما يتعلّق بادّخارها لحماية «المناطق الآمنة»، أو حتى بإمكانية زجّها لاحقاً بحرب وكلاء جديدة مع الجيش السوري وحلفائه، وذلك بهدف الضغط والابتزاز على هؤلاء في الميدان والسياسة على حدّ سواء. وعليه، فإنّه وضمن هذا السيناريو، ستصبح إقامة المنطقة الآمنة في تلك البقعة ومثيلاتها من سورية ضرباً من الخيال، وخصوصاً أنّ تلك المعركة ـ إن نشبت ـ فإنّه لا يمكن التنبّؤ بنهاياتها أو مواعيد وطبيعة نهايتها، وذلك على أقلّ تقدير.
أمّا في السيناريو الثاني، والذي قد يتمثّل بالمهادنة والاتفاق بين هذين المكوّنين العسكريّين أعلاه، فإنّ ذلك سيعني نسفاً لما جرى الاتفاق عليه في أستانة، وذلك في ما يتعلّق بتحييد الجماعات المسلّحة المشتركة في التفاوض، ومن تحويهم اليوم ـ أي الأحرار ـ عن الإرهابّيين. وبالتالي ـ ووفقاً لتفاهمات أستانة ـ فإنّ تركيا الراعية لهذه الجماعات ستكون مطالبةً من الضامنين الآخرين روسيا وإيران بنفض يديها من تلك الجماعات المهادنة للـ»نصرة» الإرهابية، وبالتالي سيحتّم على روسيا وحلفائها في الميدان بأن يشحذوا أسلحتهم مجدّداً ـ وأيضاً في تلك البقعة الجغرافية ومثيلاتها ـ وبالتالي، سيتبدّد حلم المنطقة الآمنة فيها، وبشكلٍ تلقائي، وخصوصاً أنّ هذه المعركة الروسية الجديدة لن تكون خرقاً لإحدى مندرجات القرار الدولي 2268، والتي تُحظّر على روسيا والجيش السوري وحلفائه من التقدّم نحو جغرافيات المعتدلين ـ المفاوضين ، والمعنيّين مباشرة بتفاهمات أستانة.
خلاصة القول، يبدو أنّ مسار أستانة، والذي دفعت به روسيا بقوة، قد جعل من «الصياد الروسي» ـ سواء كان ذلك مخطّطاً له أم لا ـ مصطاداً لثلاثة عصافير دسمة، لا يقلّ أحدها عن الآخر، أوّلها يتمثّل في فرض الفصل الميداني بين الجماعات المسلّحة والإرهابيين، وثانيها يتعلّق بتحويل بنادق تلك الجماعات في الميادين السورية كافّة نحو الإرهابيين، أمّا ثالثها، فلربما يكون قد عمل على وأد مشروع ترامب الأخطر في سورية، والمتمثّل بإقامة المناطق الآمنة فيها.. وذلك قد يمتدّ إلى مدى زمنيّ مفتوح، قد يجعل من التطوّرات التي تحدث فيه مدخلاً جديداً لتضييق الخيارات أكثر فأكثر أمام أميركا وتحالفها من جهة، ووكلائهم الميدانيين من جهةٍ ثانية. إنّها استراتيجية روسيا في تضييق الخيارات أمام خصومها، في التقليدي، وكما كان دأبها مع إيران في النووي وحتى الكيميائي على حدّ سواء.
باحث وكاتب سياسي