لماذا عادت أسطوانة «المناطق الآمنة»؟
د. تركي صقر
من جديد عادت نغمة إقامة منطقة آمنة في سورية، ولكن هذه المرّة على لسان الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب. ومن دون التدقيق والتمحيص وبخفّة واستعجال، سارعت كلّ من تركيا وقطر للتهليل والتكبير بخطوة ترامب هذه، مع العلم أنّها مجرّد دعوة توجيهيّة وجّهها الرئيس الأميركي الجديد لوزارَتي الخارجية والدفاع لإعداد دراسة حول المنطقة الآمنة وسُبُل إقامتها، والاحتمالات المتعدّدة لذلك، وكلفة كلّ منها وعائداته المالية والسياسية والعسكرية، ليتّخذ الرئيس القرار المناسب، وأعطاهما مدة تسعين يوماً لإنجاز الدراسة ممّا يعني أنّه ليس في عجَلة من أمره، وبما يوحي بالتمطيط والمماطلة وعدم التسرّع، وحتى أنّه بعد الاحتجاج الروسي لعدم التنسيق والتشاور مع موسكو حولها، قال البيت الأبيض إنّ الأمر الإداريّ الذي وقّعه ترامب لإقامة المنطقة العازلة هو توجيهي فقط.
معروف أنّ دعوة ترامب لإعداد دراسة لإقامة منطقة آمنة تأتي في معرض حديثه عن حلّ لقضايا الهجرة التي تؤرّق الدول الأوروبية وأميركا، وعلى خلفية ما ردّده مراراً وتكراراً من تصريحات خلال حملته الانتخابية حول أزمة اللاجئين ومشكلات النزوح العالمية، حيث ترافقت دعوته لإقامة منطقة آمنة مع قراره ببناء جدار عازل بين أميركا والمكسيك، وواضح أنّ حديث ترامب عن المنطقة الآمنة لن يكون أجدى من الأماني التركية بخصوصها، وما إحالتها للدراسة ووضع الخطة سوى من علامات المماطلة. فالدراسات والخطط التي أعدّتها وزارتا الخارجية والدفاع في عهد باراك أوباما لا تشوبها شائبة على الورق، لكنّها في كلّ مرّة كان يتمّ البحث في وضعها على الأرض، كانت تواجهها معضلات تتجاوز قدرة الولايات المتحدة في أولويّاتها، وهو ما لم يقدر أوباما على فعله.
وما دامَ ترامب غير راغب بالتورّط في حروب جديدة، ولا يريد أن يسير على خُطى رهانات إدارة الرئيس السابق باراك أوباما بتبنّي التنظيمات الإرهابية والاستثمار فيها، ويتجه لإرساء التعاون بين واشنطن وموسكو لاستئصال شأفة الإرهاب، فالسؤال الذي يطرح نفسه: ماذا يريد ترامب من وراء هذه الدعوة؟ هل هي خطوة لتطمين الدول الأوروبية ومخاطبة الأوروبيّين بأنّه ضامن لحلّ أخطر مشكلة تواجه أوروبا والاتحاد الأوروبي، ألا وهي مشكلة اللجوء والهجرة؟ وهل يمكن أن تتماهى هذه الخطوة مع المطلب التركي السابق بإقامة منطقة آمنة، أم تختلف عنه؟ هل هي إدارة الظهر للوعود التي أطلقها بالتنسيق مع موسكو، لأنّ خطوة إقامة منطقة آمنة إذا ما نُفّذت لها عواقب وأخطار حذّرت منها روسيا فوراً، وقد تكون مشروع حرب جديدة في المنطقة؟
بالعودة إلى الوراء قليلاً، وتحديداً إلى بداية الحرب الإرهابية على سورية، نرى أنّ تركيا سعت إلى إقامة مناطق عازلة، حتى أنّها أقامت مخيمات نزوح قبل أن تستفحل الحرب، ولجأت في مرحلة لاحقة بعد فشل مطلبها بإقامة مناطق عازلة إلى الاستثمار في مأساة السوريّين، فدفعت سكّان المخيمات إلى اللجوء إلى أوروبا عبر المياه اليونانيّة لابتزاز الاتحاد الأوروبي مادياً ومن أجل الانضمام إلى هذا الاتحاد. وكلّما كان أردوغان يُفصح عن نواياه بإقامة منطقة عازلة، تذهب وزارة الخارجية الأميركيّة على وجه السرعة إلى نفي ما أعلنته الحكومة التركية حول إبرام اتفاق مع الولايات المتحدة ينصّ على إقامة منطقة آمنة شمال سورية، في إطار حملتها لمواجهة تنظيم «داعش»، مؤكّدة أنّ الاتفاق مع تركيا لا يتعدّى استخدام القواعد التركية جوّاً لضرب «داعش» و«جبهة النصرة» وغيرهما من التنظيمات المتطرّفة داخل سورية، ولا توجد أيّة خطط لمنطقه عازلة.
وبغضّ النظر عمّا إذا كان ترامب جادّاً في شأن «المناطق الآمنة»، أو أنّه يريد أن يذكّر دول الخليج بضرورة دفع الفاتورة الباهظة، فإنّ خطوة ترامب هذه عبارة عن ترداد لأسطوانة «مشروخة» جاءت في الاتجاه الخطأ والتوجّه غير الصحيح، ولا تنبئ بأنّ إدارته جادّة في إصلاح أخطاء سياسة الإدارة السابقة، إلّا أنّ ما هو مؤكّد أنّ الفرح التركي ـ القطري بالإعلان الأميركي لن يستمرّ طويلاً، فالإدارة الأميركية الجديدة لا تزال في مرحلة رسم الصور وترتيب الأولويات حول مختلف الشؤون والقضايا الداخلية والخارجية، وليس من توجّه مكتمل أو صورة واضحة إلى الآن.
tu.saqr gmail.com