إضاءة
النمسا ـ طلال مرتضى
قبل برهتين من ضجر المقال، كنت تقرأني من دون مواربة، «أنا» كتبتني.
لن أضلّك بالحجج الواهية، أذيّل لك المقال بمقولة ساذجة، بات يعبرها القارئ مرغماً بابتسامة صفراء، كمفتاح أوّلي لاستغبائه، تدّعي بأن الشخصيات التي عبرتموها أو ستعبرونها، تشكّلت محض افتراض حتى لو تشابهت مع مثيلاتٍ لها في الحياة، أو لو عاش أحد ما أحد أدوارها.
عتبة أولى لتأسيس مفاز جديد من الكذب بين الكاتب والقارئ وبناء منارة للشكّ عند المطالع. إنه التنزه المكشوف من «الأنا» الراغبة، الخاضعة اليوم لسلطة العقيدة، المتخفّفة بقوانين العادات والعيب.
هذا كلّه لا يجدي، فالكاتب الذي يغمغم فكرته يقع في مطبّ الإسهاب من دون مبرّر، ويُفقدها متعة اللحظة حين يصيب مقتل القارئ، فقط يفاجئه وجهاً لوجه ويركّزها في حواسه بثبات. حتى لو وقع في فخّ المباشرة، وحده درب الصدق أقصر.
ولِمَ لا؟ ما دامت «السيرة الذاتية» تتيح لنا ما لا تتيحه صنوف الكتابة الأخرى بها نذهب نحو مجالاتنا الحيوية لنستبطن تاريخ بعينه وجملة من الأحداث المتصلة المنفصلة. بالآن ذاته وبمقدار ما تنفتح على عوالم غاية في الدهشة والتجلي والانكشاف هي أيضاً تذهب بنا إلى ما هو غير مألوف على الإطلاق ويبقى هذا أسير تأويلاتنا، والتي قد تنحو بنا نحو استقراءات جديدة، بمفاهيم مختلفة وأمثولات وجودية.
كثيرون منّا يتظللون خلف أصابع خيباتهم، حين يتعلق الأمر والحديث عن «أناهم». فالكاتب يمقت الناقد اللئيم الذي يقبض عليه منذ المطالع الأولى. ما يجعل الأول متردّداً حدّ تسفيه المقولة أو تبديد خيوط الفكرة بكلام الهباء والحذلقة المكشوفة. في محاولة بائسة للتنصّل ممّا يعتقده بالتهمة، لذلك يولم لنصّه قبل الشروع في الكتابة، قائمة الممنوعات والخطوط الحمراء التي يجب تجنّبها لتحاشي حكاية الوقوع في تأويلات الناقد الرقيب وشبهته.
متناسياً عن سابق مقال بأن «أنا» الكتابة لها حضورها كما المفردة المنتقاة والتي ترفع من رصيد النصّ المترهل، حين تختبر حضورها ووجودها كذات طيّ مقام النصّ يتوسّل التحقّق بما يشابه مغامرة شائقة مفتوحة الأهواء والأنواء، تمدّ السرد بمقوّمات الحياة والانبعاث.
بالتأكيد لست جان جاك روسو أو القدّيس أوغستين حين قيل إن اعترافاتهما كانت بمثابة انعطافة تاريخية مهمة، لكنّني أريد كما أرادوا في اعترافاتهم، أن أكتبني بحرّية تامة وعلى نحو مغاير يتخفف الحقيقة، وهو ما لا يُتِح لي القول في مكان آخر من أردية الكتابة.
أنا كلّ الشخوص التي تعبرونها، أو تتعرّفون إليها، أو تعتقدون، أو تتذكّرون حدثاً ما يشابه سير حدثها، أو صور تطابقت مع بعضها هنا، قد ترافدت في مخيلتكم على غير مناسبة. أنا أشبه تماماً ما تذكّرتم قبل قليل، بل سأعترف وبكل وضوح، بأن قصة الشبه في أحيان كثيرة تأتي فجّة الوقع على أذن المتلقّي… لا تصدّقوا الافتراضات، فأنا هو أنا… وبصراحة متناهية: أنا «القجدع» الربّ، الذي صنعني كامل صالح في روايته، ولن أرتضي بغير هذا الدور. يحق للكاتب ما لا يحق لغيره، لقيام روايته كما يريد. بالمطلق، الروايات تمثل حياة كاملة، كانت واقعاً أو افتراضاً، فتلك الحياة تحتاج إلى مُسيّر لها… فكان «القجدع» الربّ الذي يقود فضاء المروية ذاتها، للإله وحده حقّ التشريع، فهو الذي يعرف مصلحتنا كعبيد له، يحلّل ويحرّم، يكافئ ويحاسب، كيف لا وهو القادر على كل شيء، لدرجة أنه صار يعترض على الكاتب الذي اخترعه كحامل لينجو بمرويته ومفتاح لخلاصها من ألسنة النقاد، أو كعصا يهشّ بها في وجه باقي الشخوص في الرواية الذين غالباً ما تأخذهم العزّة حين يتمثلون أدواراً مهمة أو يتبوّؤن مناصب فاعلة، فيعلنون التمرد على الكاتب من داخل النص. فكانت الفكرة أن يجترع الراوي لهم إلهاً يزلزل أركانهم إن لزم الأمر، وما لم يكن بالحسبان حين انقلب السحر على الساحر، بعدما انتفض «القجدع» في وجه مجترعه معترضاً على كل شاردة وواردة في السياقات، حدّ التهديد بفضحه علانية، فهو العارف كـ«ربّ» بكل خفايا الراوي ما أُعلن منها وما خفي. وتلك هي «القشة التي قصمت ظهر البعير» عندما استفاق كامل صالح قبل فوات الأوان، وقبل أن تفصل الفأس الرأس، ليتدخل على الفور مستعملاً سلطته على النصّ، أو ورقة «الفيتو» التي لم يزل يحتفظ بها لموقف كهذا، ليعلن أمام الملأ نهاية الرواية.