قصتنا مع الأمم المتحدة
معن بشور
عندما نتحدث عن الأمم المتحدة، وخاصة من منظور قضايانا القومية والوطنية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، نسترجع تاريخاً مليئاً بالتخاذل في أحسن الأحوال وبالتآمر والتواطؤ في أسوأها. فكيف لا، فمن خلال هذه المنظمة تمّ تشريع اغتصاب الأرض الفلسطينية وتشريد أهلها. ومن خلالها تمّ فرض الحصار المجرم على العراق قبل غزوه عام 2003. ومن خلالها أيضاً تمّ استهداف المقاومة في لبنان وفلسطين وغيرها. ناهيك عن تدمير ليبيا عبر الناتو وفرض العقوبات الجائرة على أكثر من بلد عربي تجرّأ على رفض الهيمنة والإذعان، وعلى تقسيم السودان وإفقاره. كلّ ذلك في خدمة الاستعمار الحديث بعدما اعتقد العالم أنه انتهى من هذا الوباء مع اضمحلال وانكسار الاستعمار التقليدي.
فسطوة القوي على الضعيف تمّت مأسَستها من خلال مجلس الأمن وحق الفيتو الممنوح للأقوياء فقط في تناقض صارخ مع مبادئ الأمم المتحدة نفسها التي تؤكد على المساواة بين الدول والأمم. وقد أفلت أصدقاء ما يسمّى بالقوى العظمى من الحساب والعقاب على ارتكابات تدمي القلب وانتهاكات للقانون الدولي الذي اعتقدنا أنه وجد لحماية الضعفاء والمقهورين.
ونحن في لبنان شهدنا المجازر الإسرائيلية تلو الأخرى، ومنها في حرم قاعدة تابعة للأمم المتحدة نفسها في قانا. وبالطبع، لم ينل الكيان الصهيوني سوى بعض الكلمات الشاجبة، لا ريب أنّ مسؤوليه ابتسموا ساخرين لدى سماعها.
فهذا الكيان الذي اغتال أول مبعوث سلام في تاريخ الأمم المتحدة، كونت برنادوت في القدس عام 1948، واستمرّ باغتيالاته وجرائمه إلى يومنا هذا، ولم يعاقب حتى بمنع سلاح الجريمة عنه.
وها نحن في عام 2017 وفلسطين لا تزال تدفع الغالي والنفيس من أجل حقوق أبنائها، والمنطقة العربية تشهد التداعيات الدموية لغزو العراق منذ 14 عاماً وتدمير ليبيا وسورية واليمن. ولم يعاقب أحد على ذلك.
مع كلّ ذلك، نكتشف أنّ هناك في هذه المنظمة بعض الشرفاء الذين يحاولون تصحيح الخطأ ومواجهة الخطايا. فسمعنا عن عدد من المحاولات الجادة لكشف الحقيقة ودفع هذه المنظمة للالتزام بمبادئها، والدفاع عن العدالة والحق. لكن جزءاً كبيراً من هذه المحاولات باء بالفشل، أما ما نجح منها نسبياً فلم يستطع الوصول إلى نتائج ملموسة على الأرض.
ومن ضمن هذه المحاولات، قامت منظمة الاسكوا بإعداد تقرير عن حال العدالة في المنطقة العربية، في سعي لتوصيف حال المنطقة وللوقوف على الأسباب الداخلية والخارجية وراء غياب هذه العدالة، بهدف إطلاق نقاش وحوار في المنطقة علّه يساعد على تفادي الأخطاء والكوارث. بل ويتطرّق التقرير بعمق لم يسبق له مثيل في هذه المنظمة لجذور الظلم الذي يتعرّض له الفلسطينيون منذ وعد بلفور أيّ منذ قرن كامل من الزمن.
وبالتالي لا عجب أن تقوم حكومة الكيان الصهيوني وممثليها بالضغط لطمس هذا التقرير وحجبه عن العالم. فهذا التقرير لا يكتفي بالتطرق إلى المحظورات الصهيونية، من التشكيك بعدالة تقسيم فلسطين بقرار لم تتم استشارة الفلسطينيين فيه، أو التأكيد على الطبيعة العنصرية للدولة التي أنشأها الصهاينة والتي تقوم على أساس النقاء العرقي والديني للدول.
بل الأخطر لهذا الكيان العنصري أنّ هذا التقرير يساهم في نهوض الأمة وترتيب البيت الداخلي في المجتمعات العربية، وهو كابوس يؤرق كلّ المفكرين والسياسيين الصهاينة منذ تأسيس كيانهم الغاصب. فالنهضة العربية تعني لهم حتماً زوال المشروع العنصري الذي لم يكن ليكون لو كان الحكام العرب يستمعون إلى شعوبهم ويسعون لمصلحة مجتمعاتهم بدل أن يرتهنوا للخارج حفاظاً على عروشهم مهما كان الثمن.
فلا عجب إذن، أن تلتقي مصلحة بعض الأنظمة العربية مع الصهاينة في قتل هذا التقرير في مهده، كما حصل مراراً عبر السنوات والعقود الماضية. يبدو أنّ هذه الأنظمة لم تتعلم أنّ تجاهل الحقائق وقمع الشعوب والآراء لا يؤدّي إلا إلى تعظيم حجم الانفجار الآتي حتماً. تماماً كالمريض الذي يقتل طبيبه لأنّ تشخيصه قد يفرض عليه تغيير بعض سلوكياته. هذا إنْ أحسنّا الظنّ، أما إنْ أسأناه فيمكن أن نقول أنّ بعض هذه الأنظمة أصبح يتبرّع للدفاع عن الكيان الغاصب في فلسطين، في سقطة جديدة لإرضاء حكام واشنطن وتل أبيب.
وأيضاً في هذه الواقعة ككلّ، هناك بوادر أمل. البادرة الأولى هي أنّ هناك في الأمم المتحدة من يسعى للعدل والعدالة لمنطقتنا وأمتنا، وأنّ هؤلاء، كونهم من أبناء هذه الأمة، يدركون تنوّعها والآراء المتعدّدة فيها ولا يحاولون استيراد الحلول الجاهزة المقولبة في الخارج، وفي الغرب تحديداً. بل استنهضوا عدداً من مفكري الأمة من المشارب المختلفة ليحاولوا الوصول إلى تشخيص حقيقي واقتراح حلول نابعة من خصائص أمتنا وآلامها. وهي مقاربة لطالما دعونا إلى اعتمادها، وكان المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي، والمنتدى القومي العربي وغيرها من المبادرات نتيجة هذا التفكير الوحدوي البناء.
أما بادرة الأمل الثانية فهي أنّ بعض الإعلاميين العرب لا يتوانون عن فضح هذه القصة في اللحظة التي سمعوا فيها عن منع التقرير من قبل الأمانة العامة للأمم المتحدة. فهؤلاء لم يخافوا من ردّ فعل الأنظمة العربية المانعة، وبالطبع لا يخافون الإسرائيليين وإرهابهم. بل وقام هؤلاء بنقل أهمّ ما جاء في التقرير الممنوع إلى الرأي العام العربي، وأفردوا مساحات لتحليلها ونشرها على أوسع نطاق ممكن.
والبادرة الثالثة التي سأذكرها اليوم هي أنّ العناوين التي كشفتها وسائل الإعلام عن التقرير تشي بأنّ القضية الفلسطينية ومظلمة الشعب الفلسطيني لا تزال تتصدّر اهتمام شريحة واسعة من مفكري الأمة، على الرغم من محاولات تفريغ هذه القضية من مضمونها وإبقائها في إطار مفاوضات بين طرفين على قطعة أرض من هنا وبئر ماء من هناك. وهذا ليس إلا نتيجة لنضال الشعب الفلسطيني ومن دعمه، والتضحيات التي قدّموها ليبقوا قضية العدالة قضية الأمة كلها.
أما بادرة الأمل الرابعة، فهي أنّ هناك وفرة من المفكرين المنتشرين في أرجاء العالم العربي، لا يزالون يؤمنون بهذا الإقليم وشعوبه، على الرغم من جنون الطائفية والمذهبية ومن التفكك والدمار الذي يعصف في المنطقة ويقتل أبناءها في محاولة لقتل الأمل والمستقبل.
التقرير الذي حاول الصهاينة وحلفاؤهم الموضوعيون حجبه عن العالم ليس الأول ولن يكون الأخير، فهو صوت من الأصوات التي ستستمرّ بالصدح طلباً للعدالة وللعزة والكرامة لأمتنا.
انّ قرارات ترامب ضدّ 220 مليون عربي ومسلم وجداره المكسيكي وسياسة الحماية الجمركية هي إعلان سقوط العولمة من بلاد المنشأ التي ادّعت يوماً حرية انتقال الأفراد والسلع والرساميل دون عوائق او حواجز.
وقرار الأمم المتحدة بمنع صدور تقرير عن الأسكوا عن الظلم في العالم العربي والطريق الى العدل هو انتهاك لإعلان حقوق الإنسان، وفي مقدّمها حرية التعبير، من المنبر الذي الذي أطلقه قبل حوالى 70 عاماً.
انه النفاق على مستوى الكون…
نص الكلمة التي افتتح بها المنسق العام لتجمّع اللجان والروابط الشعبية معن بشور في اجتماع الحملة الأهلية لنصرة فلسطين وقضايا الأمّة والمخصّص للاعتراض على منع الأمم المتحدة نشر تقرير أعدّته الأسكوا عن «الظلم في العالم العربي والطريق إلى العدل»، والمنعقد في دار الندوة في 31/1/2017 والذي تحدث فيه عضوا هيئة الاستشاريين للتقرير الدكتور حيان حيدر والمفكر الجزائري الدكتور عروس الزبير.