دي إتش لورنس العميق والجريء يلاقي نظرية فرويد الأوديبيّة

كتب محمد الحمامصي ميدل إيست أونلاين : للمرة الأولى تصدر بالعربيّة ثلاث مسرحيات للكاتب البريطاني دي. إتش. لورنس، هي «ليلة جمعة في بيت عامل منجم» و«زوجة الإبن» و«ترمُل السيدة هولرويد»، في ترجمة وتقديم للروائي عبدالسلام إبراهيم، ومراجعة لكمال الدين عيد، ضمن سلسلة «روائع الدراما العالمية» في المركز القومي للترجمة.

ديفيد هربرت لورنس 1885 – 1930 روائي وشاعر وناقد وكاتب مسرحي ورسام ، ومن أبرز عظماء الأدب في القرن العشرين. ولد في 11 أيلول 1885 في مدينة إيستوود، نوتنغهام شاير، وسط انكلترا، ابناً رابعاً لعامل منجم مجتهد. كان والده سكيرًا وأمه مدرّسة سابقة، فنالت حظاً أوفر من أبيه من التعليم. وعندما شبّ قليلاً مرضت أمه بالسرطان واشتدّ عليها المرض. ثم حدث أن أعطاها ذات ليلة جرعة زائدة كي تنام فأودت بحياتها.

يؤكد المترجم عبدالسلام إبراهيم في مقدمته أن لورنس معروف أكثير بكثير من خلال رواياته الأشهر «أبناء وعشاق» و«قوس قزح» و«عشيق الليدي تشاترلي». قائلاً: «إن رواية «أبناء وعشاق» يعتبرها النقاد تفسيراً رائعاً لنظرية سيغموند فرويد عقدة أوديب. لذا فإن محاولة الولوج إلى عالم لورنس وفهم شخوصه لا بد من أن يكون من خلال العودة إلى فلسفته التي تعتمد تماماً على السلوك البشري. لكن أعماله تلك لاقت استهجاناً ورفضاً من المجتمع لما تتضمنه من إيحاءات وعبارات جنسية. فكان القرار أن تحرق النسخ التي ظهرت من تلك الروايات، بل منعت من النشر مجدداً في حياته. إن «التنوع الذي تحمله كتابات لورنس تضعه في مصاف الكتاب الأكثر ثراء، إذ كتب الرواية والقصة القصيرة والشعر والنقد الأدبي والمقالات، بالإضافة إلى الرسم وكان من أبرز رسامي عصره، وخاصة في الفترة الأخيرة من حياته إذ أقام معرضاً للوحاته في لندن عام 1929. كتب لورنس رواياته بأسلوب نثري عاطفي غنائي حسي. وامتلك القدرة الفائقة على نقل الإحساس في الوقت والمكان المحددين. كما أن كتاباته تعكس شخصية معقدة تمور بداخلها انفعالات وطموحات، ما يثري الحوادث والشخوص. أضافت أعماله الروائية للرواية العالمية اتجاهاً جديداً وحفرت لصاحبها اسماً ذهبياً في سجل الرواية».

يضم الكتاب ثلاث مسرحيات، «ليلة جمعة في بيت عامل منجم» و«زوجة الإبن» و«ترمل السيدة هولرويد»، وهي بحسب المترجم تبرز إمكانات الحياة والمعيشة في ظل محيط يعمل الرجال فيه في المناجم، إذ حاول لورنس من خلال تلك المسرحيات أن يخطب ود المتفرجين ويقوم محيطاً اجتماعياً بكامل آماله وإحباطاته وتفاعله بعضه مع بعضه الآخر فوق خشبة مسرح ذات إحساس عادي ارتقى إليه بوعي، مستخدماً الحوار العادي غير الهشّ، ومحاولاً توطيد العلاقة بين الكاتب المسرحي والجمهور ليحدث التفاعل المرجو من الكتابة المسرحية. «نجد في ثلاثية لورنس هذه أنه أدخل إلى المسرح الحوار الإيقاعي كما سيُلاحظ في مسرحية «زوجة الإبن» التي طور من خلالها حواراته ولغته السردية التحليلية التي سيفيد منها كثيراً لاحقاً في رواياته المشهورة، وسنجد أنها مليئة بالشخوص والأفكار واللغة، وسنجد أيضاً إحساس لورنس العميق بالمتفرج وما قد يتخيله فيضع نفسه مكانه ويصف له حركات الممثلين خارج خشبة المسرح، ويعطي وصفاً تحليلياً لبعض المواقف التي تعين المخرج والممثل على أداء الدور».

كان لورنس مدرّساً وكان في سنّ الرابعة والعشرين عندما كتب مسرحية «ليلة جمعة في بيت عامل منجم» عام 1909 فكانت خطوة مهمة ليُثبت مكانته ككاتبب. حين يقرأ القارئ مسرحيات لورنس أو يشاهدها على خشبة المسرح يكون في يقينه لورنس الروائي إذ يصف الحوادث بلغة رائعة تضيف إلى الحدث متانة ورسوخاً، ويلجأ إلى شخوص نابضة بالحياة، محلية، متباينة الفكر، ضمن حبكة بسيطة، ثم يرتفع بالحدث على نحو منطقي. تلك الشخوص تتكلم عن واقعها ومشاعرها الخاصة جداً، فنجد الأب عامل المنجم يتحدث بما تمليه عليه مشاعره ووضعه الخاص جداً ومظهره الذي يلقى نقداً من المحيطين به، أما الأم فهي التي تدير البيت ولديها تكوين خاص ورؤية خاصة تتفانى من خلالها لتحافظ على استقراره. أما الشبّان فكل شخصية فيهم تتكلم من منظار مرحلتها. للمتزوّج لديه واقع يحاول الخروج منه، وللشاب غير المتزوج أيضاً واقع يحاول تغييره لكن الظروف تقف ضده، إلى الفتاة التي تحب والفتاة التي جر عليها الحب متاعب. يتناول لورنس تلك المشاعر والأحاسيس وأفعال الشخوص بمهارة».

يرى المترجم أن المسرحيات الثلاث تنفي مقولة إن لورنس ولد ليكون روائياً. وكما تنفي مقولة إن كتابته للمسرحيات عمل استثنائي. مثلما قال النقاد عن يوسف إدريس إنه ولد ليكتب القصة القصيرة فحسب، لكنه قبل التحدي فكتب رواية «الحرام» وبرزت عبقريته الروائية، ثم جاء إلى المسرح فكتب «جمهورية فرحات» و»ملك القطن» و»الفرافير» التي وضع من خلالها نظرية التمسرح، ثم جاء إلى المقال وجعله عملاً فنياً.

يقول إدوارد غارنيت إن لورنس كتب بالقلم الرصاص على النص المسرحي المكتوب بخط يده وهو نص مسرحية «ليلة جمعة في بيت عامل منجم»: «كتبتُها عندما كنت في الحادية والعشرين قبل أن أكتب أي شيء. فلعلّ تلك الفترة هي التي جعلت للمسرحية مذاقاً خاصاً متفرداً من حيث المكان شديد الخصوصية والعلاقات التي تربط الشخوص. رب الأسرة عامل منجم يمضي وقته في المنجم، لا يتحدث مع أحد أو ربما قليلاً، لكنه لدى دعوته إلى البيت نرى التنافر عنوان تلك العلاقة. فيظهر لنا لورنس هذا الجو على نحو دقيق بلهجة محلية هي مزيج من الحس الروائي والحس الشعري الذي كان جنيناً في ذلك الحين. وهناك سيدة المنزل وعلاقتها بالمحيطين بها وارتباطها الشديد بابنها أرنست ورفضها علاقته بماغي، ويظهر هذا الموقف جليّاً في نهاية الفصل الثالث.

إلى العلاقات الأخرى مثل صداقة نيللي مع جيرتي، والعلاقات التي تحدث خارج خشبة المسرح وتتحدث عنها الشخوص، وبياتريس التي تقف بالمرصاد لماغي وتعكر صفو علاقتها بأرنست… تلك الحوادث تقع ليلة الجمعة في ذاك المنزل. بيت عامل المنجم كان قلب الرؤى التي تختلج في صدر لورنس حتى كتب المسرحيات الثلاث. العلاقة الناشئة بين الشخوص محورها البيت على نحو رئيسي، أما المحاور الأخرى فتدور حول هذا البيت وداخله. يضع البيت لورنس الأم كنقطة ارتكاز للحدث المسرحي، فتبدأ المسرحية به وتنتهي به. تظهر الأم تفانيها في خدمة أفراد أسرتها، حتى زوجها الذي يعكر صفو البيت لدى عودته، فهي تتجنّب إثارته.

علاقة الأب «لامبرت» والبنت «نيللي لامبرت» قد تنبئ في البداية بشرخ قائم في نسيج ذاك البيت، ما قد يُضفي ثراء على الحوادث المتصاعدة بتوتر العلاقة بين الإبن «أرنست لامبرت» مع أبيه إلى حد يفوق الاحتمال. ثم إلى توتر العلاقة بين أرنست وأمه السيدة لامبرت. ذاك التباين في فكر الشخوص التى تعيش في بيت واحد يزيد من ثراء جو المسرحية. ولأنها من أعمال لورنس الباكرة فقد نجد فيها روح شبابه، والبيئة التي نشأ فيها وتأثره الذي يتضح من خلال علاقة الأم بابنها أرنست المثقف الذي يقرأ الشعر ويكتبه وله رؤية مختلفة عن الآخرين حول الحياة، حتى أنه ينتقد المجتمع الجامعي. علاقة الأم بأبنائها تظهر بشكل مرضي في المسرحية التالية «زوجة الإبن».

في ما يتعلق بمسرحية «زوجة الإبن» يلفت المترجم إلى أنها عندما عُرضت على خشبة مسرح الأولدفيك قيل لماذا لم يكتب لورنس للمسرح على نحو كثيف، مشيراً إلى أن المسرحية تعالج موضوعاً اجتماعياً يقترب إلى حد ما من رواية «أبناء وعشاق» وربما كتبها في الفترة نفسها. لكن هذه المسرحية لم تعرض أثناء حياته. تتسع الحوادث والرؤى لدى لورنس فتخرج قليلاً خارج نطاق البيت ويمسي هناك حدثان متوازيان، إضراب عمال المنجم وأثر ذلك الإضراب في جو الإبن الأصغر الذي تعرّض لحادث في المنجم ورفض إدارته لدفع التعويض له من ناحية، وأثر الإضراب في لوثر الإبن البكر المتزوج والذي يواجه مطالبة السيدة بوردي أم حبيبته بيرثا التي تخلى عنها وتزوج بأخرى والتي تحمل منه جنيناً بأربعين جنيهاً كتعويض وصعوبة توفيره هذا المبلغ، من ناحية أخرى. كما أن ثمة انتهاكاً لحقوق العمال من جانب إدارة المنجم واستخدامهم عمال آخرين ليعملوا أثناء الإضراب بدلاً من العمال المضربين، وهذا انتهاك آخر لحقّ أصيل للعمال بالإضراب كي تتحقق مطالبهم. يهدّد لوثر الإبن الأكبر باستخدام فتاة أخرى لتقوم بخدمته بدلاً من زوجته التي رفضت أن تخدمه لخلافهما الذي احتد بعد معرفتها بشأن علاقته الأولى ببيرثا.

يقدم لورنس في هذه المسرحية مجتمعا صناعيا عاش فيه بالفعل وربطه بالبيت والعلاقات الاجتماعية الأخرى. فهناك الكراهية المسبقة بين الأم وزوجة الإبن وسلبية الإبن الأصغر لناحية عدم قدرته على المطالبة بتعويض عن تعرضه للحادث، وسلوك الإبن البكر حيال فتاته الأولى وإلقاء زوجة الإبن الضوء على تلك السلبية وإظهار سبب تلك السلبية، وهي أن الأم ربّتهما بأسلوب خاطئ فإبنها البكر لوثر غير مجتهد في عمله، اتكاليّ، ربّته أمه على أن يأخذ ولا يعطي. ومحاولتها الاستئثار بابنيها كي لا يخرجا عن بوتقتها، فيحاول الإبن البكر الهرب من المشكلة من غير أن يواجهها أو يحلّها، فنجد صورة مسرحية متكاملة موضوعاً وحبكة وشخوصاً.

التقاء الخَطّين الدراميْين الإضراب السائد وعلاقة الإبن البكر بزوجته ـ أضفى عليهما لورنس فلسفة خاصة بكل شخصية من دون تضمينها آراءه الخاصة، بل جعل الشخوص تقول رأيها وتتفاعل طبقاً لتكوينها الشخصي والبيئي، فظهرت الصدقية لناحية منطقية الحوادث ومنطقية الفعل الدرامي الذي تقوم به شخوص حية، وكان التقاء الخطين الدراميين اللذين ساهما في تطور الحدث وبلوغ ذروته.

أما مسرحية «ترمّل السيدة هولرويد» التي كتبها لورنس عام 1910، فأدّتها مجموعة من الممثلين الهواة في تشيلسيا في شباط 1920 ولم تقدم مرة أخرى حتى عام 1926. أعد لورنس هذه المسرحية للنشر حين قبلها ناشر أميركي عام 1913. ويشير المترجم إلى أنها «تتناول أيضاً بيتاً إنكليزياً في مجتمع صناعي، بيت عامل منجم، لكن من زاوية أخرى ومفهوم آخر وشخوص أخرى وحبكة أخرى: الزوج والزوجة والعشيق.

تُفتتح المسرحية بالزوجة والعشيق «قصة حب لا تبدأ» والتقارب حصل بلا إرادة منهما، لدى معرفة الزوجة بأمر لهو زوجها مع فاسقات الملهى، بل وصل الأمر به إلى حدّ استقدام فتاتي هوى إلى بيته لإغاظة زوجته التي بلغت طريقاً مسدوداً معه بسبب فظاظته وافتعاله المشاكل، ما دفعها إلى مسايرة «بلاكمور» الذي يعرض عليها الهرب معه بعيداً عن الزوج السيئ، ومن ثم تمنيها الموت لزوجها. والمدهش أن ذلك الزوج يموت في النهاية بحادث أودى بحياته فتجلس قربه تناجيه.

يقول بيتر جيل الذي أخرج أحد عروض هذه المسرحية: «كم انزعجت عندما قرأت المسرحية، خاصة في المشهد الأخير حين تغسل الزوجة والجدة جثة هولرويد، ونظن أنه يستمتع بذلك. وفي بروفات المشهد نفسه كان صعباً على الممثلتين اللتين أدّتا دور السيدة هولرويد والجدة أداء هذا المشهد، فُطلب منهما أن تؤدياه بأسلوب البانتومايم مع الاستمرار في الكلام». ويقول المخرج ديفيد لين الذي أخرج أحد عروض هذه المسرحية أيضاً «إن لورنس لم ينل التقدير الذي يستحقه ككاتب مسرحي، فهو في قامة تشيخوف. ومسرحية «ترمّل السيدة هولرويد» هي من روائعه. يتضح أن لورنس تعمّد كتابة المسرحيات الثلاث التي تجتمع في بيئة ومجتمع متفرد، فنرى مجتمعاً شديد الخصوصية وشخوصاً متفردة نابضة بالحياة، وبناء دقيقاً للمواقف، وتطوراً للحوادث حتى للذروة. إذا قدمت هذه المسرحيات على نحو منفصل فهذا أمر جيد، لكن إذا قدمت المسرحيات على نحو متوال فسيكون أمراً رائعاً، فالثلاثية هذه تقدم رؤية متكاملة لمجتمع لورنس الذي كان له أثر كبير في حياته. قدمت بالفعل الثلاثية ومثّل فيها سبعة عشر ممثلاً».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى