تيران وصنافير جزر سورية
د. علي حمية
يدور، منذ مدة، بين مصر والسعودية سجال، تارة حار وطوراً بارد، ولكنه سجال كامن، في كل الأحوال، وقابل للإنفجار في أية لحظة، وقد تمثل مؤخراً بوقف تزويد مصر بالنفط السعودي وانفتاح مصر على سورية/ الشام. أما عنوان هذا السجال فهو السيادة على جزيرتي تيران وصنافير اللتين تقعان عند تقاطع خليج العقبة بالبحر الأحمر، فمصر الشعب وليس الحكومة التي تشرف، حالياً، على الجزيرتين تعتبرهما أراضٍ مصرية. أما السعودية فتعتبرهما أراض سعودية وأن مصر استأجرتهما، لدواع أمنية مرتبطة بالصراع العربي- الإسرائيلي، منذ خمسينيات القرن الماضي، وأنه لم يعد هناك، بحسب المزاعم السعودية، من مبررات مصرية لاستمرار سيادة مصر على الجزيرتين، بعد انتفاء تلك المبررات، خصوصاً بعد إبرام «اتفاقية السلام» بين مصر وإسرائيل، ورجحان كفة الدول العربية، وفي مقدمها السعودية، المؤيدة لإقامة علاقات مع العدو الصهيوني، هذا الرجحان الذي تزامن مع بداية ما سُمّي بـ «الربيع العربي». ولم يقتصر هذا السجال على بعض الدوائر الرسمية بين الدولتين، بل انتقل، كالنار في الهشيم، إلى الأوساط الشعبية، خاصة في مصر، فهبّ المصريون يدافعون عن السيادة المصرية على الجزيرتين، متهمين الحكومة المصرية بالتخاذل إزاء هذه القضية الحيوية بالنسبة لمصر، ومطالبينها بالتراجع عن وعدها للسعودية بالتنازل لها عن الجزيرتين، ولو أدّى ذلك إلى تسخين العلاقات المصرية- السعودية أو حتى إلى قطعها بالكامل. كل ذلك السجال يتطوّر تصاعدياً منذ قرابة عام بين مصر والسعودية، ولم تتحرك دولة سورية واحدة كالأردن و/ أو «السلطة الوطنية» الفلسطينية المعنيتين، أو المفترض أن تكونا معنيتين، بهذه المسألة، قبل غيرهما، من مجموعة دول الهلال الخصيب.
ـ أردنياً، أن منفذ الأردن الوحيد، كدولة، على البحر هو خليج العقبة حيث تقع الجزيرتان، موضوع النزاع، عند التقائه بالبحر الأحمر. فضلاً عن ذلك، العقبة يشكل مجالاً حيوياً للأردن، وككل مجال حيوي تعمل الدول المعنية النابهة، الواعية لمصالحها، دائماً، على حماية مجالها، ولذلك، كان، وما يزال واجباً على الأردن أن لا يُفرّط بحقوقه في هذا المجال الحيوي.
ـ فلسطينياً، كان يفترض بـ»السلطة الوطنية» والفصائل الفلسطينية كلها أن لا تُفرّط بحقّ فلسطين في هاتين الجزيرتين اللتين تشكلان جزءاً من الجغرافية الفلسطينية، على اعتبار أن شبه جزيرة سيناء التي تقع الجزيرتان قبالتها لجهة الجنوب الشرقي، هي جزء من فلسطين التاريخية، وإن كانت تتبع، حالياً، الإدارة المصرية.
قد يكون لمصر والسعودية، الدولتين الجارتين لسورية/ بلاد الشام، واللتين تشتركان معها بحدود على البحر الأحمر، سبب أو ذريعة للتدخل في شؤون البحر الأحمر ومتفرعاته في خليج العقبة أو قناة السويس، وقد يكون لكل منهما مبرّر في ادعاء ملكية ما أو سيادة ما، لها، على هذه الجزيرة أو تلك، وهذا المضيق أو ذاك، في هذه المنطقة المشتركة، وذلك وفاقاً للقاعدة المتّبعة عند الدول القوية، والتي تقول أن كل أمة تشعر بشخصيتها المكتسبة من إقليمها ومن حياتها الإجتماعية، وحصلت على مناعة القومية أصبحت قادرة على تكميل حدودها الطبيعية أو تعديلها، على نسبة حيويتها وسعة مواردها وممكناتها. الأمر الذي فعلته مصر في تيران وصنافير وقبلهما في سيناء، في الماضي، وما تحاول أن تفعله المملكة الوهابية السعودية اليوم. كل ذلك جرى ويجري في غياب شبه تام للدول السورية المتضررة من هذا السطو المصري والوهابي على أراضيها. فسورية تراجعت وتتراجع عن حدود وطنها الطبيعية أمام ضغط الأمم المجاورة التي تطغى على حدودها،. إن تعديل الحدود سياسياً أمر متعلق بمقدرة الأمة وحيويتها، فإذا كانت الأمة مقتدرة، زاخرة بالحيوية، تمكنت من أن تتجاوز حدود بيئتها الطبيعية الأصلية، والعكس صحيح.
جغرافياً، تقع تيران وصنافير: يابسة ومضيقاً ومسطحاً مائياً، في مدخل خليج العقبة من جهة البحر الأحمر، وهما أقرب إلى شاطىء سيناء الشرقي حيث تبعدان مسافة أربعة أميال بحرية عن منتجعات شرم الشيخ، في حين تبعدان مسافة ستة أميال من رأس الشيخ حميد على مدخل العقبة الشرقي، أي في الشمال الغربي من السعودية، إذا ما سلمنا للسعودية بتبعية منطقة تبوك السورية لها حيث تمتدّ جغرافيتها، غرباً، إلى خليج العقبة. إن ادعاء مصر والسعودية بتبعية الجزيرتين لكل دولة منهما، مرده ،إذن، إلى القانون الدولي الذي يعتبر أن الجزر تتبع لليابسة الأقرب لها، متجاهلتين، أي مصر والسعودية، أن هذا القانون هو قانون جائر وأحمق في أغلب الأحيان لأنه يقيس المسافة بـ«جرّة قلم» ولا يأخذ في الحسبان جغرافية وتاريخ التغيرات التي طرأت على المناطق المتنازع عليها.
استراتيجياً، إن الدولة أو القوة الحربية التي تتحكم في جزيرتي تيران وصنافير تستطيع إغلاق خليج العقبة، وقد أدرك عبد العزيز آل سعود خطورة هذا الخليج منذ تأسيس مملكته السعودية، نظراً لموقع الخليج الاستراتيجي، من جهة ولقربه من بلاده، من جهة أخرى، وقد حاول كثيراً أن يتفاهم مع بريطانية حوله، ولكنه لم يتمكن من إقناعها، مفضلة إبقاءه في إمارة شرق الأردن.
لقد استولى إبن السعود وأنصاره من أتباع المذهب الوهابي على ثلثي بادية الشام في مطالع الثلاثينيات من القرن الماضي، في وقت كانت فيه سورية تغطّ في سبات عميق، فاقدة لأبسط مقومات الإستقلال الحقيقي والسيادة الفعلية، مفتقرة إلى سلطة حقيقية، منبثقة من الشعب، تدافع عن حقوقها ومصالحها القومية. وصلت قوات إبن السعود إلى العقبة والأردن وبادية الشام وهدّدت المنطقة الجنوبية الشرقية من العراق. ولولا الضغط البريطاني لتأمين صنيعته الفتية إمارة شرق الأردن الموافقة سراً على مشروع الدولة اليهودية في فلسطين، ومساندة الحكم الهاشمي التابع للإنكليز في العراق، لكانت المنطقة، بأسرها، تابعة لـلمملكة التي يتحكم آل السعود بمصيرها.
ولكن، على الرغم من التدخل البريطاني لحماية حلفائه الهاشميين في عمان وبغداد، تمسكت السعودية بأغلب المناطق التي سيطرت عليها، لاسيّما في الغرب والشمال الغربي في بادية الشام، وخليج العقبة، والشاطىء الشرقي للبحرالأحمر، والشاطىء الغربي للخليج العربي. ومن المناطق التي استولت عليها السعودية في الجنوب السوري في الثلاثينيات من القرن الماضي، نذكر: 1 ساحل خليج العقبة الشرقي حيث يبلغ طوله الإجمالي من وادي عربة شمالاً إلى مضيق تيران وجزيرة صنافير، عند بوابة البحر الأحمر، جنوباً حوالى 185 كلم تسيطرالسعودية على ثلاثة أرباعه، أي على حوالى 160 كلم. ويتبع هذا الساحل، بحسب تقسيمات الأمر الواقع الإدارية السعودية، إلى منطقة تبوك السورية المحتلة التي تربط بين العقبة والبحر الأحمر غرباً ومنطقة الجوف السورية المحتلة، أيضاً، شمالاً. واستمرّ النزاع بين الأردن والسعودية على هذه المناطق، لاسيًما العقبة، إلى الستينيات من القرن الماضي، وقد حُلّ، طبعاً، على حساب المصالح القومية في الأردن. أما المدن والقرى التابعة جغرافياً للساحل الشرقي للعقبة والملحقة عنوة بـالسعودية فأهمها: حقل وهي أكبر المدن على الخليج بعد العقبة وتبعد عن مدينة تبوك المحتلة مسافة 200 كلم إلى الشمال، رأس الشيخ حميد وهو رأس داخلي ممتد في داخل البحرالأحمر وعنده يبدأ خليج العقبة، مقنا وهي ميناء بحري على العقبة، البدع وهي مدينة داخلية تقع إلى الشرق من ساحل العقبة وتبعد عنه مسافة 30 كلم وقرابة الـ 45 كلم عن البحر الأحمر، وجزيرتا تيران وصنافير الرابضتين عند نقطة التقاء خليج العقبة بالبحر الأحمر واللتان تتبعان مصر، حالياً، وتدّعي السعودية أنها تمتلكهما وقد أجّرتهما إلى مصر، منذ الخمسينيات من القرن الماضي، لدواع استراتيجية تتعلق بالصراع مع إسرائيل. 2 منطقة تبوك وتضم إلى مدينة تبوك عدة مدن أخرى أهمها قيال وشرماء على البحر الأحمر، وتقع تبوك في القسم الجنوبي الشرقي لبلاد الشام وهي جزء منها، وكانت تتبع، قبل سلخها، لواء الكرك في شرقي الأردن الذي يضمّ بالإضافة إليها كل من الطفيلة ومعان والشوبك والعقبة، وقد تمثّلت تبوك بممثلين اثنين في «المؤتمر السوري العام» الذي انعقد في دمشق، على مدى عام كامل من حزيران 1919 إلى تموز 1920، وأعلن قيام المملكة السورية المتحدة، الأمر الذي يُثبت هويّتها السورية بوصفها إحدى مناطق شرق الأردن. وتشكل تبوك، بموقعها، بوابة الحجاز إلى بلاد الشام، من جهة الشمال الغربي، وكانت، في العصور الأولى للمسيحية، تابعة لما عُرف بـ« المقاطعة العربية» التي أنشأها الرومان أثناء احتلالهم لسورية وجعلوا بُصرى، في الشمال الغربي، مركزاً إدارياً لها، وقد ضمّت المقاطعة بادية الشام كلها حيث كانت مسرحاً لارتحالات البدو بين الجزيرة العربية وسورية.
أما مصر، فعلاقاتها مع سورية خاصة مع جزئها الجنوبي، أي فلسطين ومن ضمنها شبه جزيرة سيناء عرفت المدّ والجزر طوال التاريخ. وكانت سيناء، دائماً، عنوان النزاع الذي لم يهدأ بين هاتين المنطقتين المتجاورتين، لأنها كانت الممر الإجباري لكل واحدة منهما في اتجاه الأخرى: جنوباً في اتجاه مصر ووادي النيل، وشمالاً في اتجاه سورية وساحلها المتوسطي. وسيناء، هذا الشطر الجنوبي من بلاد الشام، كثر التنازع عليها بين سورية ومصر، وقد استولت عليها مصر، في العصور المتأخرة، مرتين: المرة الأولى جرت عند اضطرار الدولة السورية الأيوبية للتخلي عنها بعد حروب مع دولة المماليك في مصر، والمرة الثانية عندما تناذلت عنها السلطنة العثمانية المستولية على سورية، سنة 1841 بضغط من الدول الأوروبية، خاصة بريطانية، إلى محمد علي الكبير والي مصر الذي ضمّها إلى مملكته المصرية في مقابل تراجع قواته عن سورية الساحلية التي احتلها ابنه ابراهيم باشا وكاد يهدّد القسطنطينية نفسها بالسقوط.
السينائيون، إذن، هم فلسطينيون سوريون ثقافة ومزاجاً، وليسوا مصريين، بتاتاً، على الرغم من تبعية سيناء حالياً إلى الإدارة المصرية، وتوطيين آلاف المصريين فيها، على امتداد القرن الأخير، لمصرنتها أو لإضفاء الطابع المصري عليها، على أقل تعديل. هذا الأمر المفعول لعهود خلت- بعامل انعدام السيادة القومية لا يغيّر شيئاً من حقيقة انتماء السينائيين إلى وطنهم الأم في بلاد الشام، كما لا يغيّر شيئاً من حقيقة أن الشاميين والعراقيين في المناطق الشمالية والشرقية المحتلة من دول الجوارهم سوريون أيضاً رغماً من الإحتلال القائم هناك!.
بناء على ما تقدّم عن النزاع الجاري، حديثاً، حول تيران وصنافير، لا سيّما حول هويتها: مصرية أم سعودية؟ وتبعيتها لمصر أم للسعودية؟ فإن المعطيات الجغرافية والتاريخية التي تقدّم ذكرها تشكك في الهوية المصرية أوفي الهوية السعودية لهاتين الجزيرتين وما بينهما من مضائق وما حولهما من بيئة طبيعية متنوعة، وتثبت، بما لا يدع مجالاً للشك، هويتهما السورية، لأن المنطقتين اللتين تتذرع بهما كلا الدولتين لإثبات مصرية أو سعودية الجزيرتين، عنيت سيناء بالنسبة لمصر، وشاطىء خليج العقبة الشرقي بالنسبة للسعودية، هما منطقتان سوريتان سيطرت عليهما مصر والسعودية، في تواريخ متفاوتة وفي ظروف مختلفة، ويشكلان جزءاً لا يتجزأ من سورية باعتبارهما ينتميان إلى بيئتها الطبيعية الواحدة المعروفة في الجغرافية بـ«الهلال الخصيب»، الأمر الذي يفسّر تشابك الحياة في هاتين المنطقتين مع الداخل السوري بالرغم من الإحتلال الإسرائيلي القائم والعوائق الإدارية المصطنعة التي زرعتها كيانات التجزئة السياسية بين مختلف المتحدات الإجتماعية في سورية، هذه الكيانات التي قامت على أساس «اتفاقية سايكس- بيكو» المجرمة. هذه الوقائع تدحض، من جهة، المزاعم المصرية والسعودية بخصوص ملكية الجزيرتين، ما ينفي أية أحقية لأي من الدولتين بشبر واحد فيهما، وتؤكد، من ناحية أخرى، تبعية الجزيرتين ومجالهما المائي إلى سورية باعتبارها- أي سورية- تملك، جغرافياً، خليج العقبة كله وما يسبح فيه من جزر وما يحدّه أويحيط به من يابسة، وإن كان، في معظمه، مسيطراً عليه، حالياً. فسيّان، إن كانت الجزيرتان أقرب إلى شاطىء سيناء منها إلى رأس الشيخ حميد، أو إلى هذا الأخير منها إلى سيناء، فشبه جزيرة سيناء، وبالتالي الجزيرتان القريبتان منها، أرض سورية وليست مصرية. والأمر نفسه ينسحب على الرواية السعودية التي تقول بسعودة الجزيرتين لقربهما من الشواطىء السعودية في رأس الشيخ حميد والتي هي، في الأساس، شواطىء سورية محتلة.
كاتب وأستاذ جامعي