منشورات «دار أصالة» للأطفال… متعة في القراءة ورسائل تربوية 1
النمسا ـ طلال مرتضى
لا شكّ في أنّي وجدتني أمام معضلة تناول أدب الأطفال دراسةً ونقداً، لما يحوم حول هذا النوع من الأدب من محاذير قلّما نجدها في أدب الكبار أو الراشدين. فالأطفال ـ بحسب صديق امتهن هذه المهنة ـ أحقّ بأن يستمتعوا بالقراءة ويتسلّوا، قبل أن يستلهموا الرسائل والتوجيهات التي تمرّ طيّ القصص.
وإذ وصلتني منذ فترة في غربتي، هديّة قيّمة من «دار أصالة للنشر والتوزيع» اللبنانية، وجدتني وأنا أقرأ تلك القصص، أعود طفلاً في حضن جدّتي التي كانت تروي لي حكايات خيالية لطالما أبهرتني وشدّتني.
في هذه الحلقة، سأحاول جاهداً مقاربة بعض القصص الموجّهة إلى اليافعين والمراهقين، علّني أوّفق في ذلك.
بيت السرّ في «زقزقة»
من بوابة المقولة «فاقد الشيء لا يعطيه» جاء السؤال: «كيف ننجح في حياتنا؟».
إذن، الجواب المراد الوصول إليه كامن في رحم السؤال. أي أنّ غاية النجاح مرتبطة أصولاً بحياتنا، بمعنى أنه كود الحكاية من ألِفِهِ إلى يائِه، هو صناعة الحياة بمثالية فاعلة. وهذا لا يتأتّى من باب الجزاف، بل يقوم على حوامل ولوازم أساسية عدّة تبدأ من الأنا.
في قصة «زقزقة» للناشئة، للكاتب أحمد عبد الرحيم، والتي تفضي ـ بدوال مضمرها وريتمها السردي المتخفّف باللغة المتداولة السهلة الممتنعة ـ إلى خلق فعالية مبسّطة من خلال اليوميّ العادي، مآربها تفعيل أدوات النجاح من خلال التحفيز لدى الطفل الناشئ عبر إسقاطات الحكاية التي دارت في مؤسّسة يديرها مدير شديد البأس، وكأنه لعنة حتمية في هذه المؤسسة. وهذا ما انعكس سلباً على أداء عامليها بدافع الخوف والقمع.
لكن الحكاية تنتهي وبحسب المقولة الشعبية: «يضع سِرّه في أضعف خلقه»، عندما يسقط عصفور مكسور الجناح في شرفة المدير الحنق، وهنا يبدأ التغيير عندما قام الأخير بإسعافه ثم الاعتناء به، بدءاً من سؤاله لجاره الذي يربّي عصافير في منزله كيف يمكنه الاهتمام بهذا المخلوق الضعيف الذي بدأ بالزقزقة من جديد؟ فقد كان العصفور نافذة تواصله مع الآخرين، والذي جعله يكتشف أن لديه موظفين مبدعين لكنهم كانوا منطويين على إبداعاتهم خوفاً من تسلّطه.
هنا، نوقن حجم الخسارات التي كنا نستطيع تلافيها بثمنٍ بسيط جداً، يبدأ من ابتسامِنا في وجه الآخرين.
«زقزقة» ليست مجرد قصّة عابرة، بل خريطة طريق نحو فتح مفازات جديدة في حيواتنا، من دون تقاعس أو عنجهية، لا تستلزم منّا الكثير.
مفاتيح «كنز العمّة مسرورة» في قفلة النهاية
منذ العنوان الأعلى، العتبة الحامل، «كنز العمّة مسرورة» لكاتبها هيثم عبد ربّه السيد، والذي يأخذنا دونما تحضير نحو بوابة الأسئلة المفخّخة، من باب البديهية الفطرية للإنسان ليس إلا، فمن الطبيعي أن تداهمنا الأسئلة أمام كلمة «كنز»، فالكنز مكوّن من حالتين إحداها متخيّلة وحاملها السرّ وهو مفتاح الأسئلة، والأخرى ماهية الكنز أي المحسوس منه.
وكونها حكاية للناشئة، استطاع الكاتب ببراعة أن يرشّ حبوب الغواية لطيوره الصغيرة، وأن يوقعها في فخّ التشويق الذي نصبه عندما بدأ من الأساس ـ أي معرفته بتشكيل سُلّم الحكاية صعوداً من الدرجة السفلى حجر الأساس حتى نهاية معمارها السرديّ الذي يسلّم كل مداميك مفاتيحة للخاتمة ـ بزرع الفكرة، كبذرة تتفتّق في تربة ذهن الطفل، القابلة للزرع من كلمات عابرة في أقصوصة، إلى هاجس تفكيريّ شاغل ومطلسم، حامله تأويلي بمعيّة السؤال، ماذا تخفي؟ وهل هذا الكنز كذا؟ وكذا؟ إلخ… من خلال الفِخاخ التي مرّت قصداً على لسان الجدّة عبر السياق السردي: «لديّ كنز يكفيني خلال فترة مرضي».
كذلك قول الجارة العجوز، حينما خاطبت الأطفال: «خذوا مفاتيح بيت الجدّة، لكن لا تفتحوا الحجرة المقفلة بقفل كبير ومحكم».
وأيضاً عندما كانت الجدّة المريضة تهمس في أذن جارتها العجوز، لتنطلق الأخيرة نحو الحجرة وتخرج منها مسرعة بعدما تأخذ منها شيئاً وتذهب به إلى السوق وتعود إلى الأطفال بالحلوى اللذيذة.
فَعَالية، استطاع الكاتب نسجها خيوطاً غير مرئية بينه وبين قارئه، محسوسة بصرياً بفعل الحركة، لا تنقطع من خلال ضخّها المتواتر بالمحسّنات سرد مكين، تشويق، وقفات ، والتي تثير لدى الناشئ شهيته للبحث عن أجوبة شغفه، أجوبة ترضيه. لينتهي الأمر عند الخاتمة التي تفضي إلى مفازين هامين: أحدهما ذهنيّ، يقوم على تشغيل ذهن الطفل بفاعلية الأسئلة والأجوبة الواجب تعزيزها بكل أنشطة القص، لأنها مصدر إلهام للأطفال ومبعث للتخيل والإبداع، خصوصاً وهو يعيش عصر التقانة السريعة، والآخر ملموس يزرع فيه فكرة الادخار أي توفير شيء مما لديك ليوم قادم.
بالعلم والأمل نعرف «سرّ المقعد»!
الحكاية باختصار تبدأ بالسؤال: كيف نكون أشخاصاً فاعلين في ظل المِحَن؟ وكيف نجعل من المصيبة أول البلاء حافزاً للنهوض والوقوف بعد كبوة؟
في «سرّ المقعد» قصة الناشئة لكاتبها الدكتور محمد الدرويش، نعاين عن كثب كلّ ما نحتاج إليه من أجوبة لأسئلة مؤرقة، لربما أتت بغير أوانها. كما حدث مع عائلة الطفل «ناجي» حين اقْتيد والدُه إلى السجن بسبب مكيدة هو بريء منها، ليجد نفسه ـ أي «ناجي» ـ في مواجهة حقيقية مع الحياة، في ظروف لا يطيق حمل أوزارها، بدءاً من تحمّله مسؤولية عائلة من أربعة أطفال وأمّهم.
هنا يتدخل مبضع الكاتب العارف كي يُشخّص المرض أولاً ثم يجتثّه، على الأقل ليستمرّ الجسد المنهك في العائلة المفجوعة بالاستمرار، وذلك بقيام الأمّ بضخّ أطفالها بِطاقة إيجابية، خصوصاً بكرها «ناجي» الذي تفهّم الأمر وأخذ على عاتقه الوقوف في وجه العاصفة.
قد يتساءل البعض: كيف لطفل ناشئ أن يواجه مصائب كهذه، في وقت تغيّر كل شيء نحو الأسوأ؟
لا بدَّ من إجابةٍ لردم هوة الهواجس، فحينما كان الكاتب يلحّ في كل فقرة من فقرات الأقصوصة وعند كل أمر يتحرّك به «ناجي» الطفل، منبّهاً ومُحِثّاً كما التالي: «حين يحين وقت العطلة الانتصافية سوف أسمح لك بالعمل في المنجرة.
هل تسمح لي بالعمل لساعات قليلة في اليوم، ولن يكون ذلك على حساب دراستي.
عندما تترك الدراسة يا ناجي يعني أنك تطيل عمداً فترة سجني».
كان ديدن الكاتب بثّ روح التفاعل ـ وضخّ طاقة إيجابية فاعلة ـ لدى «ناجي»، من خلال مفتاح العلم الذي يفتح كلّ الأبواب المغفلة، بدءأ من باب العقل، مروراً ببابِ العمل الذي يجعل من الحياة حالة ديمومة ثرية.
عمل الكاتب على رسم خطوط قصّته بلغة سهلة ممتنعة، بحيث ابتعد كلّياً عن المفردة المنفرة أو المعجمية المبهمة، وقد أتت النقلات متناغمة تماماً مع الحدث وبسلاسة متناهية، عدا أنّ دلالة الأسماء في الأقصوصة مثل «أحمد» و«منى» و«سالم» أتت موجّهة، وهذا ما يجعل فضاء قراءتها ضيقاً وفي حيّز واحد.
«الوجه والقناع»… البحث عن مفاتيح الثقة!
نما إليَّ أن الكاتب ذهب بعيداً، بعيداً نحو العمق. لعلّه تفلّت من كلّ قيود الكتابة، وتحرّر لأجلها حينما أسقط أحداث الحكاية على قصة طفل ناشئ ليعبر عبر مفازاتها نحو القارئ.
يقول القائل «الدالّ على الخير كفاعله»، من هنا سوف أدخل نحو علائق ما تركه الدكتور محمد الدرويش في قصته للناشئة «الوجه والقناع»، والتي حمّلها الكثير من الإشارات عبر سيرة السرد العظيم.
بداية، أفضي إلى أنّ القصة يمكن أن نسقطها على أيّ حالة، وبتغيير بسيط ممكن أن تكون قصة قصيرة يتناول عبرتها الكبار بعين الجدّ. لكن الكاتب جيَّرها إسقاطاً على طفلٍ ناشئٍ ليكون رسوله نحو القفلة الخاتمة.
الطفل الفقير الذي تعرّص وأسرته لحادث سير، ما أدّى إلى أصابته بحروق شوّهت جزءاً من وجهه، ما شكّل له عقدة نفسية عزلته عن دائرته المحيطة كالمدرسة والأصدقاء. ليصار البحث عن حلٍّ وهو إجراء عملية تجميل فلا تؤدّي الغرض تماماً، ما زاد طين الحكاية بلّة. وتخلص الحكاية بالأمل الذي جاء على يدِ معلّم المدرسة حين أبلغ الطفل أنّ هناك شركة فرنسية تصنع أقنعة مطاطية تغطي تلك الندوب. وبفضل مساعدة البعض، يحصل على ما يريد كما يحصل على القناع المطاطيّ.
ثم تأخذ القصة درباً آخر حينما طلب الأهل من الطفل ألا يرتدي القناع في المنزل لأنهم ـ ومن وجهة نظرهم ـ يرون الجمال في روحه، لا في الوجه. وكذلك نحا في ذاتِ السبيل بعض أصدقائه، الذين أقنعوه بأنهم يرونه من الجانب الآخر في الحياة، كصديق، وأن الحياة لا تتوقف بسبب حادثة وأن هناك من هم أشدّ مصيبة منه وهم يمارسون حياتهم الاعتيادية. كمعلّمه الذي فقد رجله بسبب لغم وهو يستعمل رِجلاً اصطناعية.
تلك الدلالات التي مرَّرها الكاتب عبر الوقفات التي تشي بأن علينا ألا ننظر إلى الأمور بشكلِها الخارجي، القشور. إضافة إلى عامل التحفيز وزرع الثقة في روح الطفل… إلخ من ممكنات الحياة.
فنياً، كانت اللغة حاملاً مهماً للقصّة. في حين ظلّ معمارها متهادٍ، ويرجع ذلك إلى «الأكشنة»، فتشكّلت الأحداث التي حصلت بين النقلة والنقلة من دون حساب، وعامل الزمان والمكان.
يبقى أن نختم بأنّ مروية كهذه، تصلح من دون منازع لكل الأوقات والأعمار، عندما نأخذ الحكاية كدالّ فاخر.