نماذج لبنانية فاقعة عن انتهاك السيادة! ونماذج في كيفية حمايتها
د. وفيق إبراهيم
لبنان بلد التناقضات التي تثير العجب… دولته لا تُمارس سيادتها على أراضيها إلّا بطريقة استنسابيّة، وشعبه يَطرد قوى عظمى إقليمية ودولية حاولت احتلال البلد.
وللإشارة، فإنّ العلاقات الدولية وتفاعلاتها منذ القرن السابع عشر أدّت إلى تقليص المفهوم »المقدّس» للسيادة، لكنّها أبقت على الحدّ المتوسّط الذي يصون مصالح الدول وكراماتها… والمؤسف أنّ الدولة اللبنانية التاريخية لا تنتمي، لا إلى هذه ولا إلى تلك. فالسيادة عندها تنكسر أمام رغبات قوى الطوائف والنفوذ الدولي والإقليمي، وتزداد قوة أمام الضعفاء والمنكسرين.
النموذج الأول، صاحبُه وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج تامر السبهان، الذي اخترق في زيارته الحالية لبلدنا المناطق اللبنانية كلّها من الشمال إلى الجنوب من دون وجود أسباب مبرّرة، وتباحث مع المسؤولين، وهو أمر مشروع، ممشّطاً المكوّنات السياسية الكبيرة والصغيرة كلها من فئات من تمتلك نوّاباً أو لا تمتلك منهم أحداً، وهذا أمر مستهجَن.
واستثنى الوزير السعودي من جولاته حزب الله والأحزاب القومية واليساريّة الحليفة له، التي لا يجد عادةً مبتغاه عندها. وتبيّن أنّ جولاته »غير القانونية» شملت عشاءً في منزل أمين عام 14 آذار، »المعتكف» بسبب خسارة مدينة حلب، التقى فيها بنوّاب مسيحيّين من حلفاء »حزب المستقبل الحريري» ومصرفيين ورجال أعمال وثلاثة مطارنة ورجال دين مسلمين.
أمّا أهداف الجولة، فتمحورت حول إعادة استنهاض الحلف السعودي المتجسّد في حركة 14 آذار على قاعدة حصر أعمالها في استعداء حزب الله وحلفائه، وعرقلة حركتهم اللبنانية والسوريّة.
والطريف أنّ السبهان أدّى »مناسك» جولته متباهياً بإنجازاته في زيارة ليليّة لمنطقة »سوليدير» برفقة رئيس الحكومة »اللبنانية» سعد الحريري حيث الأنوار والأضواء والشكل الحسن. هنا، يحقّ لنا سؤال الدولة اللبنانية: كيف تسمح لوزير أجنبي بزيارة نحو 30 مكوّناً وحزباً وجماعة لبنانية من دون صدور أيّ موقف منها، ولو من باب البراءة، وذلك لمعرفة الأسباب والدواعي؟..
أمّأ السؤال الثاني، فيتعلّق بصمت الدولة نفسها عن محاولة سعودية لتشكيل محور لبناني هدفه عرقلة حزب لبناني والإساءة إلى حلفائه! ألا يؤدّي هذا الأمر إلى تفسّخ في الوحدة الداخلية، والدفع نحو التوتر الاجتماعي والسياسي والأمني؟ لذلك، يعتبر الدستور اللبناني مثل هذه الجولات انتهاكاً صارخاً للسيادة اللبنانية وتآمراً على الوحدة الداخلية، كما يندرج في إطار الإساءة إلى الدستور اللبناني »فرار» رئيس لبناني من مصافحة سفير سورية المعتمَد في لبنان، الذي كان يزور القصر الجمهوري لتهنئة لبنان بانتخاب رئيس جمهوريّته. وببراءة نسأل دولتنا: هل يستطيع وزير من وزرائها تنظيم جولة على مكوّنات السعودية وفاعليّاتها العشائرية؟ هنا لا يسمحون له حتى بأداء رقصة الجنادرية، فإلى متى تستمرّ هذه »المونة الأبويّة» السعودية على لبنان؟
أمّا النموذج الثاني لانتهاك السيادة، فموجود في بلدة لبنانية عزيزة هي عرسال، التي يسترهن الإرهاب التكفيري أهلها بمعونة من بعض المنتفعين من وجهائها ومشايخها، وتحريض من قوى سياسية ودينية في لبنان والمَهاجر.
وهنا، تُنتهك السيادة بشكل مفضوح، بدليل أنّ بضع مئات من إرهابيين تكفيريّين سيطروا على البلدة وربطوها بجرودها المتّصلة بمواقع التنظيمات التكفيرية في القلمون، وتحوّلت عرسال الطيبة إلى مركز تموين وتذخير وتمويل للعصابات في الجرود بتنظيم من مجموعات من »المنتفعين» والمستفيدين من تجارات الأغذية وبيع »المناقيش» والضرائب على نقل السلاح والذخائر إلى الجرود، من »أبو طاقية» إلى »أبو عجينة» وعشرات غيرهم تحوّلوا أثرياء بقدرة التهريب تحت عنوان الولاء السياسي لما يسمّونه زوراً »ثورة سورية».
ويعرف الجيش اللبناني الذي يطوّق عرسال من جهتين اثنتين أنّ الاحتلال الإرهابي لعرسال ليس من القوة بحيث يمنعه من تحريرها، ويعرف أيضاً أنّ القرار السياسي بدخول عرسال لم يصدر بعد بضغط من رفضَيْن كبيرين: إقليمي من السعودية التي تمنع دخول البلدة لأسباب تتعلّق بدعم القوى التكفيرية في الجرود، وتساندها الولايات المتحدة التي تحظر بشكل مطلق دخول عرسال، لأنها السبب الأساسي في استمرار القوى الإرهابية في منطقة القلمون.. وهكذا يتّضح مدى الاستثمار الإقليمي والدولي في الإرهاب على حساب سيادة لبنان ووحدته الداخلية.
ألم تقم الأمانة العامة لحركة 14 آذار بزيارة عرسال، حيث التقت وجهاءها الداعمين للإرهاب وهنّأتهم على صمودهم؟
لذلك، فالسؤال يكرّر نفسه: أين السيادة أيتها الدولة اللبنانية؟ خصوصاً أنّ ما يحدث في عرسال مسيء للوحدة الوطنية الداخلية، ومرفوض من قِبل أهاليها؟!
وهنا، لا بدّ من التنويه بالجهود الجبّارة التي يبذلها الجيش اللبناني والفروع الأمنية في مكافحة الإرهاب في عرسال وكافة المناطق اللبنانية، مع الإشارة إلى أنّ انتقاد الدولة في عدم الدفاع عن السيادة ليس موجّهاً ضدّ النظام السياسي الحالي الذي يترأّسه العماد ميشال عون. فعهده الفعلي لن يبدأ قبل إنتاج قانون جديد للانتخاب يؤدّي إلى إعادة تكوين مؤسسات السلطة في لبنان على غير النسق الحريري. بمعنى أنّ هذا النقد يستهدف الدولة اللبنانية بمختلف عهودها التي تعتبر السيادة مسألة »نسبيّة» تخضع لأهميّة الذي ينتهكها. فإذا كان قوياً فلا بأس من التجاهل، أمّا إذا كان ضعيفاً فإنّه يتعرّض للسحل.
ونماذج مخيّم عين الحلوة والغاز اللبناني عند حدود فلسطين المحتلة واضحة للعيان، فالمعارك والاغتيالات تتفاقم في المخيم من دون أيّ تدخّل من دولة لا تأبه لسيادتها، والتكفيريّون يزدادون قوّة هناك ولا أحد يبالي. هذا باستثناء أجهزة مخابرات الجيش والأمن العام التي تقوم بجهود جبارة لإفشال عمليات نقل الإرهاب إلى خارج المخيم، لكنّ هذه الجهود لا تقضي عليه، بل تحدُّ منه.. وما يُنهيه هو تدخّل كبير من الدولة اللبنانية على المستويات السياسيّة والعسكرية والدولية والفلسطينية.
أمّا الغاز في البحر المتوسّط فله حكاياته عن صراعات بين قوى السلطة اللبنانية حول تقاسمه والهيمنة على أرباحه، ما يسمح لإسرائيل بسحبه، كما تفعل حالياً، واستثماره.
ألا يشكّل هذا الأمر انتهاكاً فاضحاً لسيادتنا في مياهنا الإقليمية وثرواتنا الوطنيّة، وذلك في وضح النهار؟ ومن دون ردود فعل قاسية من الجانب اللبناني الذي يواصل إرجاء الدخول في مرحلة استثمار موارد الغاز، متيحاً لـ«إسرائيل» فرصة استغلال المربعات البحرية الملاصقة للحدود مع فلسطين المحتلة!
هذه نماذج مهينة للعلاقة السيّئة بين الدولة اللبنانية وممارستها لسيادتها على أراضيها، إلّأ أنّ هناك نماذج تبعث على الفخر في طريقة تصدّي الشعب اللبناني وجيشه لمنتهكي هذه السيادة. وهذا حزب الله الذي تسلّم »الرسالة» من الحركة الوطنية اللبنانية، مضيفاً عليها أسلوباً جهادياً، شنّ منذ 1982 وحتى العام 2000 حرب تموز متواصلة أدّت إلى فرار الاحتلال »الإسرائيلي» من جنوب لبنان، وهزمه حين حاول العودة في 2006 بدماء لبنانية عزيزة استشهدت في المناطق كلها.
فما هو الفارق بين الأسلوبين؟
نهج الدولة اللبنانية منبثق من طبيعتها الطوائفيّة، وحين يغيب الإجماع الطوائفي حول القضايا الكبرى، لا يمكن للدولة إصدار قرارات تاريخية. وهذا ما حدث في موضوع عرسال، ولولا مسارعة حزب الله وحلفائه، والجيش اللبناني، إلى التصدّي للقوى التكفيرية في جرود البلدة المحاذية لمنطقة القلمون السورية، لكان هذا الإرهاب مسيطراً على لبنان ومؤسّساً حروباً أهلية متواصلة فيه. وهنا أيضاً يسجّل لحزب الله دفاعه عن الوحدة الداخلية، التي تشكّل جزءاً من السيادة الوطنية، وبالتالي استمرار لبنان كياناً سياسياً لكلّ ابنائه.
والمأزق أنّ الدولة اللبنانية تعبّر عادةً عن التوافق الطوائفي، لكنّ الانفجار الذي حدث على مستوى الإقليم والفتن المذهبيّة والدور الأميركي… عوامل أدّت إلى استسلام »بعض» قوى الدولة للعبة الاستثمار في الإرهاب والتحريض المذهبي، ما أدّى إلى تعطيل دور الدولة وغيابها عن الدفاع عن سيادتها.
وبانتظار تكوّن العهد الجديد، يمكن للأوضاع أن تتجه نحو تعزيز دور الدولة في الدفاع عن السيادة، خصوصاً أنّ رئيس الدولة يتمتّع بتأييد شعبي كبير يتيح له »دوراً عرفياً» واسعاً، من شأنه حماية لبنان وشعبه في وجه مَن يتلاعب به منذ بدء توسّع التكفير في المنطقة العربية.
إنّها موازين القوى التي يجب على العهد أن يستفيد منها لتحقيق دولة تحترمها الأمم الأخرى، وتؤمّن الرفاه لأبنائها وتصون حياضها.