مقامات الأسئلة في دفاتر الرحيل!
النمسا ـ طلال مرتضى
في المنفى البارد من العزلة، جلّ ما يتمنّاه المرء استرجاع المحطّات اللذيذة التي عبرها في حياته السالفة ليكسر بها صقيع الذكريات المتلبدة على صدره مثل حرز مرصود، ضدّ الفرح، أو لعنة تابعة لا تفارقه، كاسمه الذي لم يختره.
من ذا الذي يقترب مني حدّ تعريتي؟ لمن هذا الرقم الغريب الذي دكّ مضجع بريدي على حين مكاشفة. كان بمثابة غيمة مختنقة حدّ الحبل. انفجرت دفعة واحدة فوق كومة ثلج، كنتُ أدرء بها نفسي من شرّ عيون الشمس التي تطلّ بخجلٍ، عبر شقوق النافذة على شكل خيوط من نور، سرعان ما تتبدّد على البلاط، لتصير مثل سجادة أكلت من أقدام عابريها حدّ الاهتراء.
«آآآه»… طويلة خرجت من فمي مترافقة بارتعاشة ناعسة سرت بين أكتافي، كردّ فعل عفويّ احتجاجاً على اقتحام خصوصيتي ـ الخصوصية ـ التي نتذرّع بها، نحن ركاب المغترب الجُدد حين يضعنا أحدهم ـ مثل قطار متفلّت ـ على سكة المواجهة.
من أنتَ! من سمحَ لك أن تدخل في تفاصيل كنت أزملها بلبوس الواقع، مشبعة بالتضليل والغموض حدّ الإيهام.
إنه الفضول لا سواه، هذا الذي عبرني بالتأكيد المطلق، يعرفني كأنا.
في تلك اللحظة استذكرت «عزيز»، ذلك الرسول الذي صنعته وفاء عبد الرزاق في المتخيّل بطلاً لمرويتها «حاموت» ليتحكّم بالسلطة المطلقة في أحداثها وعلائقها. «عزيز» لم يكن في لحظة ما مستبدّاً أو متغطرساً أو ساذجاً، بل كان متماهياً مع أناه تماماً كما أرادت كاتبة المروية، بالتأكيد هو لا يحمل الكثير من صفات البشر ولا يتصرّف بتصرّفاتهم، وهذا يدحض تماماً مقولة، أنه يشبه «القجدع» إله مروية كامل صالح. لم يكن «عزيز» سوى رسولاً مهمته تنفيذ وصايا الإله الأعلى، فهو قادر على قبض الأرواح، وقادر على افتعال المصائب وكذلك يمكنه أن يهب الديمومة لمن يريد بمعية إلهه الذي في السموات، كان لعنة «حاموت»، المدينة التي نكبت على بكرة أبيها، فسلطته الخارقة جعلت منها مدينة عصف وبيل، بعدما عمها الفساد والقتل، الأمر الذي زاد حنقه ليقتصّ من أهلها، حدّ خسفها كما حدث مع «عامورة وسدوم» من قبلها من مدن الشر، لا لشيء، فقط لأنه ـ أي «عزيز» ـ كان يقرأ ما يجول في رؤوس أهاليها، يجالسهم، يستمع إلى أحاديثهم، يعرف نواياهم المعلنة والمخفيّة، لذلك كان يتقصد أن يترك إشارة ما، في المكان الذي يودّ أن يقاصصه، قبل ليلة واحدة من المواجهة، تلك الإشارة إعلان مسبق للشخص، للمكان، لأيّ شي بأن النهاية صارت حتمية، وأنّ الأوامر قد صدرت ولا رجعة عنها، والتي تتجلّى بأن يأخذ بأحدهم إلى شارع ما ليسقط صريعاً نتيجة انفجار سيارة مفخّخة أو ينتهي به الأمر بزلّة قدم من مكان مرتفع، فلا فرق لدى «عزيز» في النهاية، الأمر خارج عن إرادته كرسول.
لا أدري ما المناسبة التي جعلتني استحضر من الذاكرة القرائية «عزيز» المنشغل في مهمة قبض الأرواح الشرّيرة منها والطيّبة، الآثمة منها والبريئة؟!
هل من علاقة ما بين الرسائل البريدية التي وصلتني من رقم مجهول، وبين نبش حكاية «عزيز»؟ ربطاً أرجئ الأمر إلّا أنّ هاجساً ما دغدغني لاستحضاره، علّني أستعيد علاقتي السابقة به. نعم كنت وإياه نعرف بعضنا من دون مواربة. هو يراقب تصرّفاتي كما أُوكل إليه، ولكنّني كنت أتتبع أثره وهو يترك إشارته في المكان الذي يريد دكّه، أو على وجوه شخوص المروية الذين حانت نهايتهم، بالطبع كان يدرك بحكم قوة معرفته الخارقة، أنني أمقت تصرّفاته، وخصوصاً عندما يكون هدفه المرتقب على سبيل المثال لا الحصر، أمّاً لعائلة يتيمة عندها من الأولاد ما يفتّت الأكباد لسوء حالهم، ولا يد لها في ما يحصل بـ«حاموت» كمدينة للشرّ ورمز للخراب، حين يتسلل إلى فراشها ويخمد أنفاسها من دون وجع، بحسب زعمه. هل الوجع في قبض الروح يا «عزيز»؟ هكذا سألته بحنق ذات مرّة!
الوجع الحقيقي هو ما سيحيق بأطفالها بالتأكيد، فقد كان يضحك حدّ القهقهة علي ويقول: «أنت لا تفقه شيئاً».
«ياااااه… كم أحتاجك اليوم يا عزيز حاموت»، قلت.
تلك التنهيدة خرجت منّي بعد رسائل عدّة، لم يتلقاها صاحب الرقم المبهم منّي، والتي افتتحتها بالسؤال: «مَن أنتَ أو مَن أنتِ؟».
من دون جواب، وأيّ جواب يأتي من بلاد أصبحت مثل «حاموت» يعمّها الخراب؟
وحده «عزيز» المتوكل في أمرها، البلاد التي لم يعد أهلها يفرّقون، «إن كانت صلاة الجنازة فرضاً أم واجباً لكثرة المداومة عليها بفعل الموت»!
لكنني لست سوداوياً لدرجة اليأس، فلماذا لا أقول، أن مُرسل الرسائل، لا كهرباء لديه، أو أنّ الشابكة توقفت بسبب الأنواء، كل هذه افتراضات مؤكدة، لربما نجد لها معاً، أجوبة في المقام التالي من الحكاية.