رسائلُ حبّ في زمنِ الحرب

آمنة بدر الدين الحلبي

حين دعتني للحضور كنتُ مشغولةً بحياكة ثوب السماء لأطرّز عليه أجمل الرسائل كي تصل على زند الريح تحمل قبلات تضوع بعطره، وترسم آثار الحنين، لتطبع قبلة حب ومحبّة على صدره.

لكن دَعْوَتها تمتلئ بالرغبة الجنونية لأكون معها في تلك الليلة على متن قارب في عرض البحر الأحمر تنخر مفاصله حكايات الوجع الذي رصف أجنحته في كل مكان خلال ست سنوات ونيّف.

حاولتُ الاعتذار، لكن تحت رغبتها الجامحة جعلتني أقبل الدعوة، جمعتُ ألواني وفرشاة رسمي لأكمل ما بدأته من زركشة سوريالية، وبضع حروف متوّجة بعطر الياسمين، ومزيّنة بشفاه الدحنون.

قبل أن أعتلي القارب حمل إليَّ القمر بنوره الفارد على الكون أبخرته الجميلة عربون وفاء وحفاوة استقبال جميلة من بدر التمام، كانت باستقبالي حورية البحر بسطوة حضورها، وإطلالة ريحها.

يلفُّ قدها المياس شالٌ من حرير مرصوفةٌ عليه حروف العربية العرباء كلها، وعلى جيدها طوق من ياسمين غزلته أناملها برفق، وحزمتْ بعضاً من خصلات شعرها بـ أغصانه الخضراء، تصارعُ هدوء الليل بـ غنجها، كأنه ضجيج الحياة انبعثَ في روحها من جديد على أنغام سمفونية كان لها وقع جميل في حياتها.

لكن ما لفت نظري أنها كانت معلقة وشاحاً على طرف المركب يموج بالأحرف السريانية، مدلّىً كأهداب عاشقٍ هائم في غواية العشق، ذكّرني بفستانها الذي كان يداعب أرض المركب فيصدر حنيناً يعلن وصولها حتى ينتبه الحبيب آنذاك ليعلن عليها العشق في عيد الحب، وما استوطن في عينيها لؤلؤ يتدحرج على وجنتيها.

أهي دموع الفرح بتلبية دعوتها!! أم وراء الأكمة أكمة؟؟؟

استقبلتني بابتسامة يحدوها الشوق إليه، وعينين مشتعلتيْن بأمل كبير في احتضانه، كسرتُ صمتها لأبعد عنها شبح الماضي المؤلم حين فقدتْ حبيبها في مثل هذا اليوم من أجل الواجب الوطني تجاه الأمة السورية. بادرتها بالسلام أملاً بسلام لوطن الياسمين.

قالت: كأنك نسيت أو تناسيت حتى تأخر حضورك.

قلت: كنت مشغولة بكتابة الرسائل إليه.

قالت: رسائل حب في زمن الحرب.

قلت: أجل يا حورية البحر، هو ينتظر بفارغ الصبر حروف رسالتي، محمّلة بضوع عطري، منقوشة عليها قبلتي بشفاه وردية.

قالت: رسائلك ستبقى تتلاعب بها الريح، سجّليها على قارعة الأحلام.

قلت: ألم تقرئي أدب الرسائل يفوح منها عبق الحب وحنينه.

صمتت بألم، شعرتُ حينها أن الذكرى هاجت من بين أضلعها، فلزمتُ الصمت لأغيّر الحديث، لكنها جمعتْ ذاكرتها لتبوح.

قالت: في مثل هذا اليوم حضنَ الفرح بيديه حين ألبسني عقد اللؤلؤ مصوغاً على كل حبة اسم «سورية» بأبجدية سريانية ليعيدني إلى تاريخ عريق ولد قبل آلاف السنين، وشدّني إلى صدره فامتزجت أنفاسنا وهو يهمس: حافظي على هذا الإرث التاريخي، والهوية، لم أكن أفهم إلى ماذا يرمي حينها، لكن قذارة الحرب سرقته مني، وأنت تتكلمين عن رسائل حب كُتبت منذ أمد بعيد ولم يتحقق اللقاء.

قلت: لكن هناك رسائل تركت إرثاً عظيماً ومشاعر صادقة تمتلئ رهافة.

قالت: فلسفتك غريبة، تبحثين عن المجهول في خبايا الروح، كما فعلت أنا وخسرت، وأنت تسطرين تلك الرسائل في زمن محموم بالقنابل العنقودية، وخالٍ من أبسط الحقوق الإنسانية في قلب الوطن، ولا أمل فيه.

قلت: كان يقوم بواجبه الوطني، لأن حب سورية أكبر من الجميع، و«لكي يصبح الحب السوري حبّ أحرار، لا حبّ عبيد، لأن الحر لا يمكنه أن ينعم بحبه في العبودية» هذا ما كتبه سعاده إلى أدفيك جريديني.

قالت: قدم دماءه الطاهرة من أجل سورية، وتركني وحيدة وكل ما كان يقوله أعترف أنني أحبك ومجنون في حبكِ، ولكن!!!

قلت: كان حبيبك يجمع بين الحب والوفاء الوطني، مثل سعاده حين كتب في «رسائل حب» «أنا الآن لا أستطيع الجزم بشيء سوى أني أحبك، ولكن حبي لك ليس لنفسي وليس هو محور حياتي، بل سورية هي المحور الذي تدور عليه حياتي وحبّي. كلنا يحب أن نكون لسورية، لأنه جاء الوقت الذي إذا فات ولم نفعل شيئاً في سبيل حريتنا، فإننا ساقطون في عبودية شديدة طويلة. يجب أن نصبح أمة حرة».

قالت: وأين الحب، والغزل؟

قلت: حين ردّ على رسالة ادفيك جريديني كتب قائلاً «وردتني رسالتك الأخيرة الحلوة الحاملة وريقات نرجسة متناثرة يضوع شذاها، على صغرها وقلتها، قبّلت هذه الوريقات التي لامست أناملك وشفتيك وتنشّقت طيبها الرامز إلى طيب أنفاسك. وقد سمعت خفقان قلبك يجاوب ضربات قلبي بهدأة الليل في غرفتي».

لم تتمالك نفسها انخرطت في بكاء طويل، وهي تردد أين هو الحب في ظل القتل والخطف والفقر والتهجير والصقيع الذي يأكل عظامهم في سورية، ويشلُّ حركتهم، ومنهم سلّم روحه لبارئها، فهل تقوم سورية التي كانت بالأساس لا تملك نفطاً؟؟؟

قلت: لديك معلومات خاطئة يا حورية البحر. اليوم كتب صديقي نضال القادري يصف سورية: «سورية التي خاضت حربها ضد الاستعمار وتحرّرت منه. سورية التي رفضت قروض البنك الدولي قبل 2012 وسددت كل ديونها الخارجية من عائدات النفط والسياحة والتجارة الخارجية. وقعت اليوم في قبضة عصابات النفط والإرهاب المتأسلم ـ الصهيوني. وتقدر كلفة إعادة إعمارها 300 مليار دولار. وسط انقطاع متكرر للكهرباء والماء والمواد الأساسية الأولية للحياة. خيارنا دائماً أن تحيا سورية وسط كل هذا الخراب والدمار والاستهتار الكامل».

ووضع صورة لجريدة أسبوعية تعود للعام 1962م وتحديداً في العدد 973 في الصفحة الأولى وبالخطوط العريضة العنوان التالي «إيجاد حل لفائض البنزين في سورية».

صمتت برهة وانتفضت بصوت متهدج فائض في البنزين وفائض في الحب، ستقولين!!!

قالت: ما هو الحب في نظرك؟ مازالت تملكين الأمل لتنقشي رسائل حب في زمن الحرب؟

قلت: كتب سعاده: «الحب هو غاية نفسية مثالية تتخذ من الغرض البيولوجي سلماً لبلوغ ذروة مثالها الأعلى. فيكون الحب اتحاد نفوس ولا يكون اعتناقاً لأجساد غير واصلة لتعانق النفوس المصممة على الوقوف معاً والسقوط معاً».

قالت: أريد رأيك.

قلت: قبل أن أعطيك رأيي في الحب وكيف يُحبني، أودُ لو أمتصُّ من هذا الزمن رعبه، وأعيد تكوين الرجال من جديد، أطحنهم لكي أجعلهم أنقياء كـ الثلج المندوف على سفوح الوطن، وأعجنهم بدموعي حتى أزرع فيهم الحب الذي غاب بين أردية العولمة، وانسحقت المشاعر بين دهاليز النت، واندحرت الأحاسيس على أعتابه.

قالت: هذا هو حبك؟؟؟

قلت: النبل يجيز كل الأفعال في سبيل الحب، إلا إهمال الواجب القومي الأوّل، كما علّمنا سعاده.

قالت: يطعمك واجب وطني!! هل يبثك مشاعره ويدخل إلى عمق روحك؟؟

قلت: ناداني بالأمس القريب.

قال: أميرتي وهج شمسك تجتاحني.

قلت: أنا امرأة من نار، مجوسية الأقدار.

قال: شعَّلتها أنتِ!

قلت: تبحث عن اشتعال النار… من لونها الأحمر من تشكيلات رصفها رخام موار… مجوسية الأنوثة أنا.

قال: لا فرق بين عربي وأعجمي الا بالحبّ والتقوى.

قلت: ذكرتني بابن عربي أدين بدين الحب.. أنّى اتجهت ركائبه.. فالحب ديني وإيماني.

قال: اعتنقيه بلا تردّد.

قلت: سأعلنه بقوة.

قال: تحصلين عليه بقوة.

قلت: يُعيد سر الحكايات التي غمرها النهر.

قال: حروف أبجديتي قُدَّت منك.

قلت: ستدعني أحلّق أكثر لأنتشي أكثر في دربي الأخضر

قال: يحق لكِ

قلت: أشربُ نخب الحرف من نبيذيَ الأحمر، ربما في التحليق أسكر.

قال: مَن يختَرْ دروبَ الياسمين يلِقْ به التحليق.

صمتت بعدها ودمع العين يسبقها ونحيب عاشقة فقدت حبيبها أثناء تأدية الواجب…. هدأت.

قالت: تيقنت تماماً الآن أن تلك الرسائل التي كتبها سعاده، بالإضافة الى طابعها الشخصي لماذا تحفل بالمشاعر القومية التي امتـلأت بها نفـسه في تلـك الفترة من شبابه، عودي لكتابة رسال الحب في زمن الحرب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى