اليمن بيضة القبان
منذ استرداد الجيش السوري زمام المبادرة العسكرية في الميدان، بعد تدحرج انتصارته من قارة إلى النبك ودير عطية وصولاً إلى يبرود ورنكوس وتتويجاً بكسب وبعدها المليحة وصولاً إلى جوبر، ثبت أنّ الذي جرى قبل عامين في معركة القصيْر، والعجز المقابل عن تغييره خلال سنتين، لم يكن متصلاً بظروف جغرافية بقدر ما هو تعبير عن توازن نهائي لا يمكن تغييره، وأنّ الضغط العسكري الخارجي الأميركي أو التركي أو «الإسرائيلي» قد يؤثر، لكن تأثيره محدود، ومخاطره أكبر، ولذلك ارتضت واشنطن التي حشدت أساطيلها صفقة الكيماوي وارتضى «الإسرائيليون» العودة للكمون، مع عمليات جبل الشيخ ومزارع شبعا.
كان واضحاً أيضاً أنّ الرهان على إضعاف الدولة السورية بعد الانتخابات الرئاسية في غير محله، فالاتجاه الثابت لدى السوريين، بمن فيهم مَن لم يكونوا من الجمهور التقليدي للدولة، هو التطلع إلى استعادة الأمن والخروج من الفوضى المسلحة التي رهنت بلدهم للخارج، وسلّمت الكثير من جغرافيته لتفرّعات «القاعدة»، وتكشّفت المعارضة المسمّاة علمانية عن كذبة كبيرة وصل الرئيس الأميركي إلى القول إنها مجرّد «فانتازيا».
إضعاف الدولة السورية ربح صاف لـ«داعش»، وإنهاء «داعش» ربح صاف لسورية وقوى المقاومة، لذلك دخلت المنطقة كلها في الجمود، فثقل المال والسلاح من الخارج، واستنهاض العامل المذهبي في لبنان والعراق، ينتجان كوابح تحول دون قدرة حلف المقاومة على الحسم، ويربكان خططه، ويضعانه أمام تحديات، لكنهما لا يغيّران من حقيقة أنّ الحلف الذي تقوده واشنطن سيبقى عاجزاً عن تحقيق أيّ تقدم.
الوظيفة الاستراتيجية لـ«داعش» وفقاً للمخطط الأميركي التركي السعودي «الإسرائيلي»، هي البقاء عامل إرباك لحلف المقاومة وجذب للجهاديين من بلاد الغرب، ووظيفة التدخل ضدّ «داعش» منعه من التمدّد للحفاظ على المواقع وبالأخصّ في كردستان والسعودية، وبالتالي حماية الجمود.
استنفدت الجغرافيا الإقليمية والدولية فرص تقديم ساحات جديدة، بعدما فتح الغرب جبهة أوكرانيا ولم يتوفر له ما يريد، بسبب الضربة العاجلة للاعب الشيش الروسي القيصر فلاديمير بوتين، بدخول القرم وحسم أمر شبه الجزيرة الاستراتيجية في جيبه.
بقي الحساب النهائي في نقلات الشطرنج لمصادفات التفوّق في ذكاء الخطوات البطيئة، لترصّد في نقاط كلّ فريق، وراهن الأميركي وجماعته على التفاوض في قلب هذه المعادلة.
من خارج الحسابات التقليدية لواشنطن والرياض جاء اليمن، وغيّر قواعد اللعبة، من دون تحريك القلعة أو الوزير، أيّ من دون تورّط اللاعبين الكبار بخطوات تصعيدية نحو الحرب، فإذ بالجندي الذي لا يقام له الحساب في حسم الحرب على رقعة الشطرنج، وهو هنا لاعب عادي في الاستراتيجيات، يدخل الملعب، وفي قلب رقعة الشطرنج، يقول حلف المقاومة من اليمن، كش ملك، انتهت اللعبة.
الحوثيون يدخلون صنعاء… إذن… كش ملك.
في كلّ ميزان أو قبان بيضة نحاس ظاهرة أو مخفية، تقوم بمعادلة الوزن وفق حساب يتصل بوزنها، لكنه يتصل أكثر بموقعها، فالبيضة غالباً ما تعادل نسبة ضئيلة من وزن ما يقابلها، لكنها تتولى معادلة كفتي الوزن بقربها من المركز، ويتعلم تلامذة الفيزياء أنّ المعادلة هي أنّ وزن البيضة بكلغ واحد على مسافة سنتم واحد من مركز الإبرة في الميزان، يعادل مئة كلغ على مسافة مئة سم من الإبرة نفسها.
اليمن هو بيضة القبان والميزان، لأنه على مسافة أقرب من حبل الوريد إلى المصالح الكبرى لأميركا والسعودية، فقرب البيضة يرقد نفط العالم وبالتالي أمنه.
خلال دقائق من تحقق سيطرة الحوثيين على صنعاء، من مبنى التلفزيون إلى مقرّ البرلمان ومكاتب الحكومة ومحاصرة القصر الرئاسي وتسلّم مراكز الفرق المدرّعة المنوط بها حماية الحكم الممثل للمصالح الأميركية السعودية، تلقى سعود الفيصل في نيويورك اتصالاً من وزير الخارجية الأميركي للتحقق من صحة ما وصل من معلومات، ولما تأكد قال، وفقا للواشنطن بوست، إنّ الاتصال الفوري بالوزير الإيراني محمد جواد ظريف صار ضرورة لصناعة تسوية عاجلة بأيّ ثمن منعاً للأسوأ.
العهدة السعودية لأمن الخليج والنفط سقطت بالضربة القاضية، وإيران وسيط نزيه مع الحوثيين الذين أصروا على بيان تسوية وتوقيع تفاهم علناً، يمنحهم وشريكهم القومي واليساري الحراك الجنوبي حق الفيتو في كلّ مسائل الدولة، والشراكة الكاملة في الحكم، وأن يتلو البيان موفد الأمم المتحدة بحضور وموافقة الرئيس وكلّ الأحزاب والعشائر، وهذا ما كان.
اليمن بيضة القبان…
كش ملك…
«توب نيوز»