موسى: سيظلّ قامة يعتزّ بها الوطن وكلّ سوريّ الحناوي: بقي واقفاً كشموخ الأشجار حتّى اللحظة الأخيرة في حياته

دمشق ـ آمنة ملحم

عندما يرحل العمالقة، لا يتوقف نبض إبداعاتهم عن الهدير، معلنين حضورهم كقامات عانقت حدود السماء، ولمعت فيها كنجم لا يمكن لبريقه أن ينطفئ حتى في زمن لفّه السواد وغابت عنه أبسط ملامح الحياة.

لأنهم قامات شامخة كالأشجار وتبقى واقفة حتى في رحيلها عن وجه الحياة، استحقّوا التكريم على الدوام في حياتهم وحتى بعد الممات. لأنّه «أبا صيّاح»، لا يمكن لرحلته الفنية الغنية بالعطاءات أن تنضب في الذاكرة السورية ولا العربية. ولأنه فنان الشعب، لن تفارق ملامحه مخيلة الشعوب، ولأنه رفيق سبيعي، فلا مثيل لرفقته وعطائه، لأن كلماته، فنّه، رسائله ومونولوجه، لأن ذلك كله لا يمكن أن يُمحى من الذاكرة، بل لأن تاريخه يشكّل ذاكرة بحدّ ذاته، يبقى أبو صيّاح حبيب الشعب خالداً مخلداً بفنّ اقتلع مكانه فيه بمخالب حبّ أبديّ، وشقّ دربه معه بعشق لموهبة صقلها بالعلم الأكاديمي ليغني الساحتين الفنيتين السورية والعربية على مدار ستة عقود متتالية، بأعمال قلّ مثيلها، متنقّلاً من مسرح وسينما إلى تلفزيون وإذاعة، فهو أحد أبرز المؤسّسين لتلك الصروح الثقافية السورية منذ نعومة أظافرها إلى ما أصبحت عليه اليوم.

حضرت روح أبي صيّاح أمس في المركز الثقافي في أبو رمانة أمام أصدقاء دربه ومجموعة من الفنانين والإعلاميين برعاية وزارة الثقافة، ليُكرَّم بشهادة تقدير قدّمها مدير الثقافة في دمشق حمود موسى والمركز الثقافي تسلّمها أبناؤه وفي مقدّمهم المخرج سيف الدين سبيعي الذي كان حاضراً بدمعة حزن على فراق والده ومعلّمه ونور دربه في طريق شقّه تمثّلاً به كقدوة اقتداها في عالم الفنّ، وبفخر كبير بأنه ابن فنان الشعب. ورثى سيف والدَه بكلمات خطّها له الصحافي وسام كنعان، ومما جاء فيها:

يوم غرقت في الصمت الطويل يا أبي

تذكّرت من هزم السرطان بيسراه

ولوّح لأحبّته براحة كفّه اليمنى

ومضى ملفوفاً بكفن أبيض

أبيض لا لشيء، سوى ليترك فسحة ينسكب عليها حبر الإبداع

لأنه كان يخشى أن يباغته الموت بأسرع ممّا توقع

فلا يلحق أن يدوّن أفكاره أدباً وشعراً ومسرحاً ودراما تلفزيونية ونقداً.

متّ يا أبي

متّ مستريحاً

قد آن أن ترتاح!

متّ يا أبي كي ترى حبّي الذي أخفيته عنك طوال عمري

متّ واقفاً وأريتهم كم تخسر الدنيا إذا متّ، وأنك تستطيع بمهارة أن تنتقي موتاً

متّ مستريحاً فنحن أشعلنا مشاعلنا من اللهب الذي كنتَ أطفات فتيله فأضاء الدرب ما يكفي.

هكذا يا أبا صيّاح تنتهي الأشياء العتيقة ويأتي رجل الشهاب الذي يخترق حضن العتمة. يوم رقدت يا أبي بصمتك الطويل استعدت شريط الذكريات معك، تحسّست رأس تقصيري الأرعن، وأردت قطعه. ولكنك أنت يا أبي مَن قلت كُن سلّماً ولا تحمل من اسمك سوى الاعتدال. فقم يا أبي، اِفتح باب بيتك في القيمرية وطالع الفضّة والصالحية وساروجة والشاغور وباب شرقي وباب توما وباب سريجة وامضِ مرفوع الجبين. كلّ السلام على أهلك وجيرانك وأحبابك.

اِفتح باب الزعامة واحتسِ يا أبي فنجان قهوة مُرّة واحداً واَكسره، فلا أحد يستحقّ فنجانك إلا أنت. وابقَ كما أنت مترقّباً، نظرة الشهامة تلك ثبّتها كزعقة نسر مطلّ على الحمائم كالغضب، وانتظر الشام كي تنهض وتشعّ على العرب والعالم كلّه.

بدوره، لفت الإعلامي أحمد السيد إلى أن الراحل الكبير كان يريد حضور الندوة المقرّرة والتي حملت عنوان «المرأة في الدراما السورية»، لكن للأسف بسبب فقدانه تحوّلت إلى ندوة تكريمية لروحه وذكراه. مستعرضاً مسيرته الغنية من بداياته الفنية الأولى والصعوبات التي واجهها وأهمّ محطاته الفنية كعمله في المسرح القومي وفي الإذاعة والتلفزيون.

وقال السيد إن الراحل كان في منتهى التواضع والشهامة يهتمّ بالشباب ويحثّ على رعايتهم ومساعدتهم. وهو صاحب المواقف المميزة في كل المجالات. مشيراً إلى أن تجربته مع الراحل على مدار عشرين سنة لم تكن عادية. وعلاقته به خلال سنوات الحرب أغنته بتفاصيل شخصيته الإنسانية والوطنية المميزة التي كانت أصيلة وإنسانية تليق برجل عظيم كالراحل رفيق سبيعي.

وعرج السيد على تجربته الإذاعية «اقعد لنتفاهم» التي ظهرت في عمر الأزمة وقدّمت أكثر من 800 حلقة، فاتحة ملفّات الفساد لأشخاص كان سبيعي يراهم الأكثر فتكاً ببلدنا.

وأكد السيد أنّ رفيق سبيعي كان يصرّ على متابعة عمله وتسجيل حلقات «اقعد لنتفاهم» يومياً، ومذكّراً بالتجربة الغنائية التي جمعتهما حيث أصرّ سبيعي عليه لكتابة أغنية أدّاها سبيعي لسورية وكان مطلعها:

باطل باطل يا بو صطيف

على سورية انسحب السيف

يا سورية دافعتي عن شرف الأمّة

وبنورك ضوّيتي العتمة

كنتِ إلهن وقت الشدّة

وكنتِ إلهن نسمة صيف

يا سورية!

من ناحيتها، تحدّثت الفنانة هدى شعراوي عن تجربتها الطويلة مع الراحل الكبير والحافلة بالأعمال الإذاعية والتلفزيونية والسينمائية. لافتة إلى أنه كان بمثابة الأب والأخ والصديق الوفيّ لكل من تعامل معه فهو الفنان الذي كان يمثل ويكتب وينقد ويغني فطرق الفن من جميع أبوابه.

وتحدّث الإعلامي حسن حناوي عن أعمال الفنان الراحل الإذاعية ومنها البرنامج الإذاعي «حكواتي الفنّ». وقال: لا أحد يستطيع الكلام عن هذا الموضوع سوى الفنان الراحل، كونه شاهداً على الفنّ خلال ستة عقود ونيّف. وأضاف: هذه القامة الكبيرة كانت من أوائل المخرجين الإذاعيين الأكاديميين، فهو درس الإخراج في مصر ليقدّم مع زملاء ممّن عاصروه بصمة في الإخراج عبر عقود طويلة في إذاعة دمشق.

وأشار إلى أن فنان الشعب كان مصرّاً خلال سنوات الحرب أن يقدّم رسالة الفنان السوري بكلّ ما يملك من أدوات، سواء عبر الغناء أو التمثيل أو الحضور أو المشاركة. ووقف ليقول: «أنا ابن تراب هذا الوطن الأصيل وابن دمشق. أنا مع وطني». وهذا نابع من إيمانه العميق لكون الفنان هو سفير وصانع رأي ووعي في المجتمع ولم يتخلّ عن دوره حتّى اللحظة الأخيرة في حياته.

وفي تصريح أدلى به إلى «البناء»، لفت مدير الثقافة في دمشق حمود موسى إلى أنّ وزارة الثقافة تكرّم القامات الثقافية والإبداعية على الدوام، ورفيق سبيعي شخصية مرموقة يعتزّ بها الوطن وكلّ سوري. هو عظيم وحاضر في كلّ مناسبات الوطن من خلال الدراما وإبداعاته في الساحة الثقافية. تجربته طويله تمتدّ إلى أكثر من نصف قرن قدّم فيها الكثير إلى الوطن، ويستحقّ بجدارة أن يكرّم ويحتفى به، وأن يؤبّن في مركز ثقافيّ. فلطالما قدّم حياته لصالح الحالة الثقافية في سورية.

وقال المخرج باسل الخطيب في حديث إلى «البناء» إن رفيق سبيعي كُرّم مراراً، ولكن هذه التكريمات كلّها تبقى أقل من هذه القامة الفنية، وأفضل تكريم له أن يبقى فنّه خالداً في نفوس السوريين.

وقال إنّ ما كان يجمعه بالراحل، لم يكن علاقة مهنية، إنما علاقة إنسانية، فكان بمثابة الأب للجميع، وبقي حتى اللحظة الأخيرة في حياته يتمتع بهذا النبل وسعة الصدر ومحبّة الجميع.

ووجّهت شعرواي عبر «البناء» تحيّة إلى روح رفيق سبيعي، وقالت: رفيق فنان أصيل وزميل وشقيق وصادق صدوق، رحل جسداً لكنه لن يرحل من قلوبنا، وستبقى ذكراه خالدة فينا. فمن لا يعرف أبا صيّاح، نقول له إنّه عنوان للرقيّ وإنسان شهم خلوق مضحٍّ براحته لإسعاد الآخرين.

وختمت شعراوي: في مصر أهرامات كثيرة، أما في سورية فهناك هَرَمٌ وحيد اسمه رفيق سبيعي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى